“الصلاة والمعركة”.. رعب وابتزاز يلاحقان عائلة قبطية بعد ثورة يناير

رغم أن المخرج المصري المقيم في سويسرا كريستوف مجدي صابر صوّر مشاهد فيلمه “الصلاة والمعركة” (عنوانه الأجنبي “وادي الرمال”) (La Vellee du sel) قبل أعوام، فإن عائلته كانت ترفض أن يصل الفيلم للجمهور حينها، وطلبت من ابنها الانتظار حتى تتحسن الظروف السياسية والأمنية في مصر لتجنب صبّ المزيد من الزيت على حياتها المضطربة أصلا.

فهذا العمل الوثائقي العائلي الحميمي يكشف الستار عن الرعب والاختناق الذي عاشته عائلة المخرج المسيحية في مصر بعد ثورة يناير، فقد بدأت تهديدات القتل والابتزاز من مجهولين تصل إليهم بانتظام مُجزع، لتفسد أيامهم وتقربهم من الانهيار النفسي.

عمليات الإرهاب ضد الكنيسة القبطية.. مناخ عدائي

قد تعطي العمليات الإرهابية الدموية ضد الأقباط في مصر -حين كتابة المادة- هذا الفيلم بُعدا عنيفا لم يكن في الحسبان، كما لم يعد ممكنا أن نشاهد الفيلم دون أن نستحضر أحداث استهداف كنيستين في مصر عام 2017 كخلفية لليوميات التي سجلها الفيلم، رغم أنه لم يخض كثيرا في تفاصيل أو أبعاد الوضع المصري المتدهور.

بيد أن الفيلم التقط مناخا عدائيا ديني الصبغة، بدأت ملامحه تتضح بعد الثورة لأسباب متعددة، ولم تبذل الدولة المصرية المهترئة جهودا فعلية صادقة لتبديد هذا المناخ، أو طرح مشروع وطني يجمع كل المصريين مهما كانت انتماءاتهم أو ديانتهم.

لم يكن المخرج الشاب موجودا في مصر وقت الثورة التي أطاحت بنظام حسني مبارك، لكن تأثيراتها وصلت إليه في سويسرا، حيث كان يدرس السينما، ففيلمه يبدأ وهو يقرأ في غرفة مظلمة في البلد الأوروبي رسائل إلكترونية أرسلها له أهله من مصر يسألونه المساعدة.

عودة المخرج.. أجواء مضطربة في مصر الهشة

بعد تلقيهم عشرات من رسائل التهديد، يحزم المخرج حقائبه ويعود إلى أهله في القاهرة، ويقضي معهم أياما في العاصمة المصرية، ويذهب بصحبتهم إلى الدير الذي افتتحوه في الصحراء قبل أكثر من عشرين عاما.

تحول الدير بسبب أجواء التشكيك والتخوين في مصر إلى قضية حساسة، إذ إنه فتح باب الاتهامات للعائلة بأنها تؤوي مصريين يرغبون بالتحول إلى المسيحية، رغم أن هذه الاتهامات -كما بيَّن الفيلم- يقف وراءها مجرمون مجهولون عرضوا السكوت عن هذه “الإساءة للدين الإسلامي” مقابل مبلغ مالي كبير.

يقضي الفيلم كثيرا من وقته داخل بيوت أهل المخرج في القاهرة والصحراء، وبرفقة الأب مجدي صابر، والأُم السويسرية الأصل “أناليزا” التي تعيش منذ عقود في مصر. ويضيف عملُ المخرج لوحده دون مصور أو مهندس للصوت بعضَ الحميمية الكبيرة للفيلم الذي هو في جوهره عن عائلة تواجه أزمة كبيرة، وتحاول عبر الحوارات والتكاتف بين أفرادها أن تجد القوة للخروج من تلك الأزمة.

تحدي التهديد.. ترقب وخوف يحيطان بدير الصحراء

يرفض والدا المخرج الهجرة وترك البلد، ويعتبران التهديدات غير عادلة، والرضوخ لها يُعد ظلما لا يستحقانه، وعندما تتسنى للأب الفرصة النادرة للحديث لأحد المجرمين عبر الهاتف، سيشرح في مشهد طويل كثيرا تاريخ الدير الذي بناه مع عائلته في الصحراء المصرية، ويدافع عن وجودهم هناك، وعن علاقاتهم الطيبة مع جيرانهم المسلمين في القرية المجاورة.

أججت أحداث العنف وخاصة بعد ثورة 25 يناير المشاعر بين مسلمي مصر وأقباطها

تطبع القتامة الأوقات التي قضاها المخرج في بلده، ويتشكل من محاولات مواجهة المجرمين خط سردي مثير وغير متوقع، فالعائلة التي كانت تتلقى اتصالات التهديد والابتزاز حاولت مواجهة الأزمة بالاتصال بالمجهولين الذين ينغصون حياتها، لكنهم يجدون الهواتف مغلقة والأرقام تتغير سريعا.

وعندما تقرر العائلة الذهاب إلى بيتها في الصحراء، كان الترقب والخوف باديا عليها، إذ كشف أحد المهددين بأنه من المنطقة تلك، وأنه يراهم دائما في طريقهم إلى الدير الذي بنوه، وهم في متناول سلاحه الناري.

هذه التفاصيل ستجعل الدقائق التي صورها الفيلم قريبا من الدير مخيفة وقريبة من الانفجار.

صوت الأذان.. اشتياق في الغربة لسماع أصوات الطفولة

يحاول المخرج أن يخرج من دائرة التهديدات الشخصية لعائلته، ويفتح فيلمه على أسئلة أكثر عمومية عن المواطنة والتاريخ والثورة المصرية، فيسأل والده في مشهد من الفيلم عن ما إذا كانت التغييرات الأخيرة في البلد قد غيّرت في نفوس أصدقائه والمجتمع المسلم من حوله.

ويذهب المخرج في مشهد آخر إلى سطح عائلته في بيتهم في القاهرة، ليسمع الأذان ويكشف أنه يفتقد صوته في حياته في سويسرا، وأن هذا الأذان يشكل أحد أصوات طفولته، وأحيانا يقوم بالبحث على الإنترنت لسماع صوت الأذان الذي يذكره ببلده وأهله.

مخرج فيلم الصلاة والمعركة كريستوف مجدي صابر

كما يخرج المخرج إلى الشارع ليصور أحد الاحتجاجات الصغيرة ضد الرئيس المخلوع محمد مرسي، ويتجول في شوارع تغيرت كثيرا منذ الثورة المصرية، وهي الحدث التاريخي الذي يأسف أنه لم يكن في البلد وقتها ليوثقه بكاميرته.

مشهد الوداع النهائي.. دموع في المطار ورعب يهدد العائلة

يبقى المخرج في الخلفية، فلا نراه ولا نسمع صوته إلا نادرا، لكن حضوره خلف الكاميرا، وهو الذي كان غائبا عن عائلته لسنوات؛ سيسهل ويفتح الطريق لوالديه لكي يصلا إلى لحظات المكاشفة والصدق والانكسار المتعددة في الفيلم، وقد كان بعضها مؤلما، وإلى حدود صعبة على المشاهدة أحيانا.

إذ بدا في مواضع أن العائلة كانت تودع بعضها وداعا نهائيا، فبعد أن زادت التهديدات لهم أخرجت الأمُّ في مشهد من الفيلم الوثائقَ الخاصة بحسابهم المصرفي، ووضعتها أمام ابنها لكي يحتفظ بها تحسبا من حوادث عنيفة كانت تحلق في الأفق، وستسقط الأُم نفسها على قدمي زوجها الذي كان قد أنهى لتوّه مكالمة تلفونية مرعبة مع مجرم يحاول ابتزاز نقود منه.

لكن المخرج الذي لم يشأ أن يظهر كثيرا في الفيلم يختتم عمله الوثائقي بمشهد طويل له هائل القوة، فبعد أن ودّع والديه في مطار القاهرة في طريقه إلى سويسرا، يوجه الكاميرا على نفسه، ويصور وجهه الذي كان يتلبد ببطء قبل أن تغرق عيناه بالدموع.