مصورون فوتوغرافيون مَكْشُوفون لعدسات التسجيل

محمد موسى من أمستردام

تعرض صالات سينمائية اوربية فيلمين تسجيليين يشتركان بتقديمها لسيرة ويوميات مصورين فوتوغرافيين شهيرين، احدهما يرفض التعاقد، رغم انه تجاوز الثمانين من العمر، والآخر تفتحت له في الاعوام الاخيرة أبواب السينما، فأخرج فيلمان طويلين نالا ثناء نقديا لافتا، لكنه، مثل زميله من الفيلم الآخر يرفض أن يرمي كاميراته الفوتغرافية، ويتمنى ان يجمع بين الانشغال بها والعمل السينمائي الذي يستهويه.

من السهل تخمين إسم المصور الفوتغرافي الذي اتجه للسينما مؤخرا، فالخطوة التي قطعها المصور الهولندي أنطون كورباين بالوقوف خلف الكاميرا السينمائية ليست شائعة كثيرا بين اقرانه. لكن الفيلم التسجيلي ( أنطون كورباين من الداخل الى الخارج) والذي عرض في الدورة الاخيرة لمهرجان برلين السينمائي ويعرض حاليا في صالات سينمائية هولندية، لن يركز فقط على تلك الانتقالة للمخرج، بل يعود معه الى سنوات حياته المبكرة في قريته الهولندية الصغيرة، وترعرعه بكنف عائلة، همين عليها الاب القس، والقادم من خط طويل من الرجال الذين عملوا بخدمة الكنيسة البروتستاتية.

بدل العمل الكهنوتي، والذي كان رغبة الاب، كان الصبي اليافع مأخوذا بعالم آخر، يبدو على النقيض من أجواء الكنائس، فموسيقى الروك الرول، ونجومها خطفوا قلب الشاب الخجول، لكنه لم يرغب كثيرا بالانضمام اليهم كمغني او عازف، بل إختار ان يحفظ عالمهم الغريب الصاخب والسوداوي عن طريق الصور الفوتوغرافية، فاقترب المصور الشاب سريعا من عالم الفرق الموسيقية الهولندية والاوربية، والتي انتبهت الى موهبة المصور الخاصة لتقربه منها، ولتبدأ من هذه الرفقة، واحيانا الصداقة، مسيرة شديدة التميز، يمكن التعرف على بعضا أبرز محطاتها  في المعرض الاسترجاعي الكبير لاعمال أنطون كورباين ، والذي نظم قبل عامين في العاصمة الهولندية أمستردام، وهو المحطة الزمانية التي بدأت منه المخرجة الهولندية كلارتيه كوراينز فيلمها التسجيلي عن المصور.

تبين المشاهد الاولى من الفيلم والتي صورت كواليس الاستعدادات للمعرض الاخير لأنطون كورباين ، وخاصة عندما كانت الكاميرا تنتقل بين الصور الفوتوغرافية الكبيرة المعلقة على جدران القاعة التي كانت تعرض اعمال المصور الهولندي، للاهمية والمكانة المتميزة له، فليس من السهل ابدا لمصور آخر ان يقنع تلك المجموعة المختلفة المزاج من مشاهير الغناء الغربيين بالوقوف لساعات امام كاميرته وتلبية كل رغباته. من فرقة ( U2  ) الايرلندية الشهيرة، الى ميك جاكغر مغني فرقة الرولنغ ستون البريطانية، والذي ارتدى ملابس نسائية وصبغ وجه بالمكياج من اجل صورة لأنطون كورباين ، تطول القائمة، وتمتد زمنيا من بداية عقد السبعينات من القرن الماضي الى الزمن الحالي ، حيث لم يتوقف أنطون كورباين عن عمله الاساسي كمصور رغم اتجاه للسينما واخراجه لفيلمين (كنترول ،عام 2007) و (الامريكي ، عام 2010) ، فالمخرجة ترافق  المصور اثناء جولته مع فرقة (U2)، من اجل صور جديدة لالبوهم القادم.

لا يرغب أنطون كورباين بالحديث كثيرا عن حياته الخاصة. تنجح المخرجة احيانا بجره للحديث عن والده القس، ذو الشخصية القوية، والام التي لم تكن سعيدة في حياتها. لكن عندما تتجه الاسئلة الى شخصه هو، يظهر عدم الارتياح على وجه المصور، ليكشف بصوت خافت وخجل، كالذي يعتقد انه من المبالغة الحديث عن الذات، بانه ربما اهمل الانسان، وركز على الفنان في حياته المزدحمة بالتقاط الصور الفوتوغرافية ، وهي الاعمال التي وصفها مغني فرقة (U2) الارلندي “بونو”،  بانها تنجح دائما بان تجد شيئا مخفيا في روح الذين تصورهم، وتظهره كقوة سوداء فريدة !

وبسبب غياب الحوارات الطويلة ، ورغبة المخرجة بتقديم معادل فيلمي لقوة الصورة الفوتوغرافية لأنطون كورباين ، تبدو كثير من مشاهد الفيلم ، والانتقالات التي يقوم بها من الماضي الى الزمن الحالي ، ومن الصورة الساكنة الى المتحركة ، وكانها جزء من حلم طويل للمصور ، بدأ من قرية هولندية بروتستاتية صغيرة ، ويتوزع الآن على غرف في فنادق حول العالم ، تشهد عبور الموهبة والايقونة ، والذي دارت حوله كاميرا الفيلم التسجيلي ، دون ان تتطفل عليه كثيرا.
 
مصور أزياء اهل نيويورك
بمعطف ازرق، يرتديه بالعادة كناسي المدن الاوربية، ودراجة هوائية قديمة، يقطع المصور الامريكي بيل كانينغهام شوراع مدينة نيويورك، متنقلا من مناسبة موضة الى آخرى، ومن عرض ازياء الى آخر، لكن منجزه الابرز هو توثيقه لازياء ناس عاديين في  الشارع، ليعدها لزوايته التي تصدر كل يوم سبت في جريدة نيويورك تايمز، والتي حولته الى واحد  من اهم الذين يحددون اتجاه الموضة كل عام، بنقله لمزاج الشارع، والذي يسبق احيانا خيال مصممي الازياء في نيويورك ، المدينة الامريكية، والتي تعد الى جانب لندن، باريس وميلان، من اهم مراكز الموضة في العالم.

وكحال فيلم (أنطون كورباين من الداخل الى الخارج)، يسعى مخرج فيلم (بيل كانينغهام نيويورك ) الامريكي ريتشاد بريس، الى تقديم متوازي، لمنجز المصور واسلوب عمله، بالاضافة الى تسليط الضوء على حياته الخاصة. لكن ومثل الفيلم الاول، يتجنب بيل كانينغهام من الحديث عن حياة خاصة، ربما لغياب تلك “الحياة الخاصة” ، فهو نذر حياته ومنذ عقود طويلة لعمله، وليس هناك متسع لاي شيء آخر، فالمكان الذي يحجزه لنومه لا تزيد مساحته عن مترين فقط من الاستديو الذي يعيش فيه منذ اكثر من ستين عاما، وتحتل زويا المكان، خزائن للصور التي التقطتها، ويحتفظ بها جميعا.

عندما يحصل بيل كانينغهام على جائزة تكريمية في باريس، يلقي كلمة مستعجلة بفرنسية مخلوطة بالانكليزية، ليعود بعدها الى شوارع باريس، والتي صور بها كثيرا في زياراته السنوية للمدينة، ليبحث عن شخصيات عنيدة ترفض الموضة التقليدية، لترتدي ما تراه مناسبا، وهو الامر  الذي يجذب المصور الامريكي، والذي لا يعير اهمية للنجوم، فعندما تمر من جنبه الممثلة الفرنسية المعروفة كاترين دينوف، لا يكلف نفسه برفع الكاميرا ليصورها، في الوقت الذي يطارد مجهولين في شوراع نيويورك وباريس.

لن يترك بيل كانينغهام صور فوتوغرافية شهيرة كالتي يضمها كاتلوغ المصور الهولندي أنطون كورباين. فعمله بالاساس هو لتوثيق موضة الشارع، وابرازه بعرضه على صفحات واحدة من اشهر صحف العالم، ليؤثر في النهاية على تطور الموضة، اضافة الى وظيفته الترفيهة الآنية لقراء ومتابعي صفحات الموضة العادين.

ولانه لا يمكن الحديث عن الفن في نيويورك الآن ، دون تخصيص مساحة تقترب من “الرثاء” لحال المدينة التي تفقد كل عام بعضها من هويتها الفريدة ، يسجل الفيلم التسجيلي ، المحاولات التي يقوم بها فنانين للحفاظ على البناية التي يقيم فيها بيل كانينغهام ، والتي شهدت ايضا انطلاقة النجم السينمائي الشهير مارلون براندو . هذه البناية الشديدة الاهمية في تاريخ المدينة الفني ، تم بيعها الى شركات تجارية ، وعلى سكانها من الفنانين القدماء  ، تركها لاصحاب البدلات الانيقة الغالية! .