مصورون يسعون وراء حتفهم

عدنان مدانات
تشهد الحروب الأهلية والحروب بين الدول سنويا موت العديد من مصوري وكالات الأنباء سواء منهم الذين يلتقطون الصور الثابتة أو المتحركة، والذين يغامرون، إذ تدفعهم الحماسة والضمير المهني للتواجد في أكثر الأماكن خطورة، بحياتهم، وهاجسهم الوحيد التقاط أكثر الصور إثارة وقدرة على توثيق اللحظة والحدث.

أُتيحت لي خلال السنوات الماضية مشاهدة لقطات لم يكتف فيها المصور بتسجيل لقطات مباشرة لموت ضحايا حروب من عساكر أو مدنيين، بل قام بتسجيل لحظة موته الخاص أثناء التصوير, من هذه اللقطات لقطة عرضت في أواسط سبعينيات القرن الماضي في افتتاح مهرجان لايبزغ الدولي للأفلام التسجيلية. جرت أحداث هذه اللقطة في إحدى دول أمريكا اللاتينية. يظهر في اللقطة جندي يتسلل وراء حائط في أحد شوارع المدينة ثم يقف عن زاوية تقاطع ويتلفت يمينا ويسارا. يلاحظ الجندي وجود المصور فيوجه باتجاهه بندقيته الرشاشة. نراه يصوب باتجاه الكاميرا ثم يطلق النار. تهتز عدسة الكاميرا و تهتز و تغبش الصورة في نفس اللحظة، وندرك تبعا لذلك أن المصور قد التقط مشهد مقتله الخاص.
في الذاكرة أيضا لقطة التقطت أثناء الحرب العالمية الثانية ذات دلالة عميقة. تصور اللقطة اندفاع جنود روس في أحد الحقول في حالة اقتحام لموقع للعدو. يندفع المصور الذي نرى الحدث من خلال عدسة كاميرته مع بقية الجنود وهو يسجل الحدث بلقطة واحدة متواصلة. فجأة تهتز الكاميرا وتتمايل فيما تهبط، أو تتهاوى، ببطء، وهي تتابع تصوير اللقطة. ويتضح أن المصور أصيب و هوى إلى الأرض لكنه ظل حتى اللحظة الأخيرة من حياته يضغط على زر تشغيل الكاميرا جاعلا من لحظة موته مشهدا سينمائيا بامتياز.
حصل ما يشبه هذا مع المصور السينمائي الفلسطيني هاني جوهرية الذي لاقى حتفه أثناء الحرب الأهلية في لبنان في العام1976. كان هاني قد حمل كاميرته والتحق بوفد مكون من مجموعة من الكتاب الفلسطينيين الذين ذهبوا إلى جبال عينطورة في جولة تفقد لبعض مواقع المقاتلين.
كانت جبال عينطورة في ذلك الوقت تشهد قتالا عنيفا بين المتقاتلين، وأراد هاني جوهرية أن يصور الجهة المقابلة المعادية التي كانت تطلق الرصاص والقذائف باتجاه المنطقة التي كانوا يقفون فيها، فا بتعد عن موقع المجموعة الآمن و تقدم بسرعة للأمام وهو يشغّل الكاميرا غير مبال بالتحذير الذي وجهه له المرافق العسكري للوفد.
لم يعرف احد ما الذي تمكن هاني جوهرية من تصويره في تلك اللحظة فقد تلقى قذيفة مدفعية مباشرة حولت جسده والكاميرا التي بين يديه إلى أشلاء. فيما بعد سيقوم رفاقه في مؤسسة السينما الفلسطينية بتخليد هذه اللحظة عن طريق حفظ الكاميرا وعلب الأفلام المليئة بالثقوب في صندوق زجاجي، كما في المتاحف.

عادت هذه المشاهد إلى ذاكرتي بعد أن أًتيحت لي الفرصة أخيرا لمشاهدة الفيلم التسجيلي” دموع غزة” للمخرجة النرويجية فيبيكا لوكيبرغ.
لم يلاق مصور هذا الفيلم حتفه ولم يتعرض للإصابة حتى، لكن بلا شك، فإن من يشاهد الفيلم يدرك كم من الشجاعة كان لدى المصور وباقي الفريق وعلى رأسه المخرجة، وهم يصورون أحداث العدوان الإسرائيلي على غزة لحظة وقوعها وفي أماكن حدوثها، والتي تميزت بسقوط القذائف العشوائية في شتى أنحاء المدينة.
يتخذ فيلم” دموع غزة” من ثلاثة أطفال فلسطينيين من مختلف الأعمار( طفلتان وطفل) شخصيات رئيسية للفيلم. أصيبت إحدى الطفلتين في ساقيها فيما شهد الثلاثة موت أهاليهم نتيجة القصف العشوائي. إضافة إلى أولئك الأطفال الثلاثة يركز الفيلم بشكل خاص على الضحايا من الأطفال ويقدم العديد من المشاهد الحية للانفجارات والدمار والضحايا، خاصة من الأطفال، حيث تندفع الكاميرا وسط الحرائق ودخان الانفجار وصراخ الضحايا وأصوات الهارعين لتقديم المساعدة وأبواق سيارات الإسعاف فتصبح الكاميرا نتيجة ذلك جزءا من قلب الحدث وليس مجرد مراقبا ومسجلا له.هذا الحال هو ما أعطى للفيلم مصداقيته وبالتالي قوة تأثيره. كنت أشاهد الفيلم تغمرني الانفعالات ويغمرني الألم، وفي نفس الوقت يراودني الشعور بالإعجاب بالمصور وفريق العمل في الفيلم لأنهم أخلصوا ليس فقط للقضية التي رغبوا في طرحها في الفيلم، بل أيضا لأنهم اخلصوا لمبدأ السينما التسجيلية الذي يقضي بتسجيل الوقائع والواقع بكل صدق وامانة.