“مطار هتلر” يؤوي اللاجئين السوريين!

د. أمـــل الجمل 

فيلم ”المطار المركزي تيم بلهوف“ – Central Airport THF من إخراج البرازيلي من أصول جزائرية كريم أينوز.

 من لحظة سرد تاريخي  يبدأ فيلم ”المطار المركزي تيم بلهوف“ – Central Airport THF للمخرج البرازيلي من أصول جزائرية كريم أينوز، المولود لأم برازيلية وأب جزائري – حيث نستمع إلي كلمات المرشد السياحي وهو يدور حول مباني المطار التاريخي الشهير الذي تم إنشاؤه في عهد هتلر حيث كان معبرا لنقل الإمدادات والدعم الموجه إلي ألمانيا الغربية أثناء الحصار السوفيتي عام  1948، لكن وبدأً من العام ٢٠٠٨ توقفت ألمانيا عن استخدامه وأغلقته، لكنها اضطرت مجددا إلي إعادة فتحه منذ العام ٢٠١٥ ليس من أجل القيام بوظيفته كأحد المطارات، ولكن ليكون مأوي مؤقتا يستقبل مئات اللاجئين السوريين وغيرهم من الجنسيات الأخرى الذين فروا من ظروف الحرب القاسية في بلدانهم.  

 لكن الفيلم الذي يبلغ طوله ٩٧ دقيقة والمنتج بأموال برازيلية فرنسية ألمانية مشتركة – والذي يُركز بشكل أساسي علي المهاجرين السوريين متخذا اثنين منهما ليكونا مرشدي الكاميرا وعين المُشاهد في حكي المأساة والمعاناة – سرعان ما يتحول من مقدمته التاريخية إلي الحاضر مخلفاً وراءه تلك البداية من دون أي عودة ثانية حتي أن المرء قد لا يتذكرها عندما ينتهي الشريط الوثائقي الذي عُرض ضمن خمسين فيلماً آخرين في قسم البانوراما علي هامش مهرجان برلين الثامن والستين والذي عرض نحو ٤٠٠ فيلم سينمائي في جميع أقسامه ما بين طويل وقصير سواء كان روائيا أم وثائقيا. 

يُركز الفيلم بشكل أساسي علي المهاجرين السوريين الذين يعيشون في المطار كمأوى مؤقت.

سرد غير متكافئ

 بهذا التحول إلي الواقع الحالي للمهاجرين وهم يسكنون غرف ومكاتب هذا المطار يتم تقسيم خطوط السرد إلى اثنين؛ بهدف عقد المقارنة بين اثنتين من الحيوات، حياة الشاب السوري إبراهيم الذي يبلغ من العمر ١٨ عاماً، فيحكي عن حياته في سوريا قبل الهجرة وقبل نشوب الحرب والدمار الذي حل ببلاده، إذ كان يستيقظ علي صوت فيروز ورائحة القهوة التي تعدها والدته، كانت تلك واحدة من الصور البصرية القليلة جدا والنادرة في هذا الخط، أما في الخط السردي الثاني فنري تفاصيل حياته الحالية بين جدران المطار التي نراها ونعايشها بصرياً وسمعياً، فهو إما نراه يتعلم الألمانية علي يد سيدة من أهل البلد المضيف، أو يتجول أمام المطار، أو يتناول فطوره، فيختار أنواعاً معينة فتجاب مطالبه من المسؤول عن المطبخ، ويدخن السجائر كثيرا ومرات عدة مع زملائه ورفاقه الذين يتسامر معهم في أجزاء كثيرة من الفيلم، وكأن المكان الجديد جنة الله علي الأرض، وكأنهم سعداء بحياتهم الجديدة، أو يشاهد بسعادة مع الآخرين تلك الألعاب النارية في احتفالات رأس السنة، وتنطلق ضحكاتهم مدوية، فلم نشعر بثقل انتظاره لمدة عامين بهذا المكان في ترقب طويل يشوبه القلق للحصول علي أوراق القبول والإقامة في ألمانيا. لم نشعر بشيء من ذلك. 

حاول المخرج توظيف تلك الخطوط السردية بهدف عقد المقارنة وإبراز التناقض ولكن ذلك لم يكن في صالح الفيلم لعدة أسباب: أولها؛ أنه رغم محاولته في أن يُقيم سردا شبه متواز بين الحياتين، لكن السرد جاء غير متكافئ، فرغم التناقض بين حياة وأوضاع المهاجرين في بلدانهم قبل الرحيل وبين الوضع الحالي، والحياة الجديدة علي أرض المطار، لكن المشكل الأساسي أن الخط الأول من السرد – الذي يتناول حياة البطل في دمشق قبل الهجرة – اقتصر علي السرد بالكلمات الخالية من الصور والتكوينات البصرية الجمالية أو حتي القاسية المتخيلة القادرة علي خلق صورة حية نابضة تؤثر في المتلقي وتنافس الصور البصرية لهؤلاء البشر اللاجئين القابعين علي أرض المطار. ففي الخط الأول كان الحكي والسرد يفتقر ليس فقط للصورة المتخيلة ولكنه أيضاً لم يكن مؤثرا بالقدر الكافي، حيث اكتفي بإطلاق الأوصاف الكبيرة المجردة من دون رسم صورة توجع القلب أو تبقي في الذاكرة وتحرك المشاعر، فمثلا عندما تحدث عن تفاصيل رحلته في المركب الهجرة، اكتفي بأن يقول أنها كانت” فظيعة“ وتكرر الأمر أكثر من مرة من دون أن يقدم لنا أي نموذج ملموس يجسد هذه الفظاعة، لم يرسم لنا أي تفاصيل تجعلنا نقشعر من تلك الفظاعة.

يقارن الفيلم بين حياة الشاب السوري إبراهيم الذي يبلغ من العمر ١٨ عاماً، قبل الهجرة وقبل نشوب الحرب وبعد وصوله إلى ألمانيا.

 في نفس الوقت، وعلى ضعفه، كان ذلك السرد الفقير يقف وحيدا في مواجهة صورة الحياة اليومية لهؤلاء المهاجرين، فالصورة تبدو في تأثيرها وفي قوة الرسالة التي تنقلها أبلغ مليون مرة من الحكي خصوصا لو كان مجرداً. وفي الوقت الذي يبدو لي – من خلال الفيلم – أن المهاجرين متذمرون ويطالبون الحكومة الألمانية بأكثر من مقدورها، وهو حقاً أمر مدهش، لكن أيضاً في مقابل ذلك لم يخبرنا الفيلم مثلاً لماذا تفعل الحكومة الألمانية تلك الجهود؟ لماذا تتكبد مشقة تحمل هذا الوضع؟ وتنفق تلك الأموال الطائلة من أموال دافعي الضرائب الألمان على المهاجرين، حتى لو كانت ألمانيا صاحبة أقوي اقتصاد في الاتحاد الأوروبي؟ 

 على جانب آخر لم يستفد المخرج من موقعه التاريخي فكون أحداث الفيلم تقع في مكان تاريخي له خصوصية متفردة كان يمكن له أن يصنع عملا إبداعيا من الدرجة الأولي، أن تجعل من أبطال العمل الذين هم اللاجئون وموظفو المكان الذين يقومون على خدمتهم أن تجعلهم بحاضرهم ليسوا فقط في مواجهة ذلك التاريخ ولكن أيضاً في مواجهة الواقع المأساوي، كان يمكن للمخرج أن يحقق المقارنة بشكل مؤثر، لكنه اختار الطريق السهل – في تقديري – بقضية هؤلاء المهاجرين. أما تقسيم الفيلم إلى فصول أو مقاطع شهرية، ففي رأيي أنه لم يكن لهذا التقسيم والعناوين أثر ملحوظ، أو أي فارق كبير على المستوي الدرامي، إلا لو كان الغرض منه الإحساس بوطأة الزمن على الناس في ذلك المكان، وحتى إن كان هذا التفسير صحيحاً فالأقوى منه توظيف أسلوب اليوميات، لأن الإحساس بوطأة مرور الأيام أقوي من الشهريات. 

يؤخذ على الفيلم الذي يتناول حياة البطل في دمشق قبل الهجرة أنه اقتصر علي السرد بالكلمات الخالية من الصور والتكوينات البصرية الجمالية أو حتي القاسية المتخيلة القادرة علي خلق صورة حية نابضة تؤثر في المتلقي .

أجواء القبر

بالطبع أستثني من ذلك التقييم السلبي لبناء الفيلم لقطتين كانت كل واحدة منهما بالنسبة لي مثيرة للفزع، وتركت شعورا مقبضاً وكأنه إحساس إنسان دخل القبر وفجأة بدأ الآخرون في إغلاق بوابة المقبرة تدريجياً، ومع كل خطوة إضافية يتم سحب مزيد من الضوء مستبدلا إياه برداء من العتمة، التي يصاحبها حجب بقايا الهواء ما يعني الإحساس بالاختناق واقتراب الموت الأخير، وأقصد بتلك المشاهد عندما تكون الكاميرا في وضع علوي وتجعلنا نعايش لحظات إطفاء الأنوار تدريجيا – ببطء وبشكل متزامن ومتباعد إلي حد ما – عن وحدات وغرف المطار حيث ترقد أجساد المهاجرين، إلي أن تطفأ بالكامل فكأنه تم تكفين المطار بالسواد الكاحل في لحظة مقبضة. 

   أما الشعور الإجمالي الذي خرجت به من هذا الفيلم فيتلخص في أمرين؛ الأول وجود حاجز لم يتم تحطيمه بين البطل وبين الكاميرا والمخرج.. وأعتقد لو كان صانع الفيلم امرأة ربما اختلف الوضع، وطبعا ليس هذا بالضرورة. والأمر الآخر وهو الأخطر هو تلك الصورة التي ترتسم لنا عن هؤلاء المهاجرين اللاجئين الذين نراهم على مدار الفيلم يلعبون ويمرحون، يدخنون الشيشة أو السجائر، فتيات وشبان ورجال. يأكلون يلعبون ويمرحون، وقليل من المشاهد المخصصة لتعلم اللغة الألمانية، فمن يتأمل الحياة التي يعيشون فيها الآن، ويقارن بين الوضع الذي جاءوا منه يعتقد أنهم يقيمون في الجنة. وهكذا يعترف أحد الرجال المسنين، ممتدحا الألمان، مؤكدا أنهم لا يكذبون، وأنهم يقدمون لهم خدمات إنسانية كبيرة، بينما نري أبناء وطنه من اللاجئين مثلاً يتذمرون من الإقامة في هذا المكان ويعتبرونه مثل مستودع للقمامة، ويحتجون علي الإقامة في غرفة بها أكثر من فرد، فهم يريدون غرفة لكل شخص، رغم أنهم لا يقومون بعمل شيء ويكتفون بالضحك الكثير، وصحيح أن هناك استثناء يكاد يكون وحيداً بالفيلم متمثلاً في شخصية قطيبة الذي يساعد في الترجمة ويحاول إقناع الموظفين هناك بالاستفادة من خبرته ومجال تخصصه، وذلك أثناء انتظاره لخطاب الموافقة بالإقامة، لكن الآخرين يتذمرون من دون أن يفعلوا شيئاً آخر، والحكومة الألمانية تدفع وحدها هذه الضريبة. والمرء بالطبع لا يمكنه أن يقول إن الفيلم يدعي على هؤلاء السوريين ما قالوه أو فعلوه بالفيلم، لأنه من بين كل المهاجرين واللاجئين من كافة الجنسيات سيوجد أمثال هؤلاء. لكن الخطأ الذي ارتكبه صناع الفيلم أنه ركز على هذا الجانب وأغفل جوانب آخري تمنحهم مزيداً من الإنسانية والتقدير.