معركة الجزائر..حكاية تحرر

قيس قاسم

فاز فيلم "معركة الجزائر" عام 1966 بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية الدولي، واحتلاله المرتبة 120 في قائمة أعظم أفلام تاريخ السينما، حسب استفتاء مجلة "امباير".

عرضت الدورة الواحدة والأربعون لمهرجان غوتنبرغ السينمائي عدداً من الأفلام الوثائقية العربية المهمة، مثل؛ “طعم الإسمنت” للسوري زياد كلثوم و”أمل” للمصري محمد صيام و”يوم واحد في حلب” لعلي الإبراهيم وكان أكثرها لفتاً للانتباه؛ “معركة الجزائر: فيلم في التاريخ” للمخرج “مالك بن إسماعيل”، لمحاولته أولاً كشف خفايا وأسرار إنتاجه شديدة الارتباط بمراحل تصاعد حركة التحرر الوطني الجزائرية من الاحتلال الفرنسي والصراعات الداخلية لقادتها بعد انتصارها وإشارته إلى قوة تأثيرها على حركات تحرر عالمية وعربية، وثانياً كفاءته الفنية كونه لم يرهن قراءته على آراء مَنْ شاركوا فيه فحسب، بل تعدتها إلى محاولة فهم معنى أن توثق فيلماً غير عادي بكل المقاييس، من بينها؛ فوزه عام 1966 بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية الدولي، واحتلاله المرتبة 120 في قائمة أعظم أفلام تاريخ السينما، حسب استفتاء مجلة “امباير”، وأيضاً تمتع صانعه بقدرة على إحضار من شارك فيه، ثانية إلى مسرح التصوير، وشحن ذاكرتهم وربط المستعاد منها بنموه وتصعيده الدرامي، عبر إحضار خامات فلمية تظهر أدوارهم فيه، ما يكشف عن جهد بحثي مضنٍ في تفاصيل عمل سينمائي صار بالفعل من بين أقوى أدوات نشر التجربة الجزائرية إلى العالم وعامل مساعد في إفشال محاولات طمس طابعها التحريري الوطني من خلال محاولة المتضريين منها إلصاق صفة “الإرهاب” على بعض أساليبها، لتبرير احتلالهم وانتهاك حرية وحقوق مواطنيها بحجج وبمنطق استعماري لم يهمله الوثائقي كما لم يهمل ربط مآلات نضال الشعب بالواقع الجزائري اليوم.

بهذا يحقق “إسماعيل” التوازن المطلوب بين قراءة تاريخ صناعة فيلم “معركة الجزائر” وبين قراءته المرحلة التاريخية المهمة، التي أثمرت تحرراً كاملاً من الاستعمار، وفتحت في ذات الوقت باباً لصراعات داخلية مختلفة جاء على عرضها سريعاً، لكنه ركز بشكل خاص على شخصية؛ ياسف سعدي بوصفه ملهماً لفكرة إنجاز الفيلم، والذي حضر فيه على مستويين؛ داخل الفيلم كممثل ومساهم في كتابة نصه وخارجه كشخصية نضالية محورية لعبت دوراً مهماً في معارك التحرير وراهنت على نقل تفاصيلها إلى العالم عبر فيلم سينمائي ما يثير الدهشة، في وقت كان الكُل تقريباً داخل الجزائر بعد تحريرها، منشغلاً في جوانب أخرى، مهمة وقتها مثل؛ حماية السلطة الوطنية الجديدة وتحقيق أهدافها المرحلية، فبدت لهذا فكرة صناعة فيلم عنها مثيرة للاستغراب، الذي سرعان ما بهت بعد نجاحها، وستغدو الفكرة نفسها وإلى حد ما جواباً على بعض الأسئلة المتعلقة بدور السينما وتأثيرها؟.

يسلط الفيلم الضوء على الظروف التاريخية التي مرت بها الجزائر خلال مقاومتها الاحتلال الفرنسي .

قبل الشروع في كشف خفايا وتعقيدات إنتاج فيلم “معركة الجزائر”، يبسط “مالك بن سماعيل” الطريق أمام متلقيه لفهم الظروف التاريخية التي مرت بها الجزائر خلال مقاومتها الاحتلال الفرنسي وبخاصة تصاعده في المدن خلال الأعوام 1955 ـ 1957، عبر مشاهد يظهر فيها “دليل سياحي” جزائري يقود حديثاً مجموعة من زوار أزقة مدينة القصبة، التي تم تصوير الكثير من المشاهد فيها، وبخاصة تلك التي تنقل بعض ما ارتكبه جنود ومظليّ الجنرال “ماسو” من مجازر ضد سكانها. عرض عليهم تفاصيلها الواقعية وقارن بينها وبين الصور التي التقطت لها في حينها، تمهيداً لتصويرها سينمائياً.

في البداية أُريد توصيل حقيقة أن فيلم “معركة الجزائر” مبني على وقائع في أغلبه حُولت درامياً عبر إدخال عناصر خارجية عليها مثل؛ التمثيل والمؤثرات الخارجية، والكتابة السينمائية المحترفة، التي لم يكن عضو “جبهة التحرير الوطني الجزائرية” “ياسف سعدي” يعلم الكثير عنها، لهذا واجه نصه الأولي المكتوب على ضوء تجربته الشخصية، رفضاً من قبل مخرجين أوروبيين كثر حين عرض فكرته عليهم، إلى أن وصل إلى المخرج الإيطالي “جيلو بونتيكورفو”. من المفارقات التاريخية أن المخرج الإيطالي كان حينها بصدد إنجاز فيلم دعائي عن مظليّ الجنرال الفرنسي “ماسو”، وهُم أنفسهم المكلفين بإخماد حركة ثوار المدن الجزائرية. لقاءه مع مُتبني مشروع الفيلم الجزائري غير رأيه فترك العمل ب”بارا” كما أراد تسمية فيلمه الدعائي، واتجه إلى “معركة الجزائر”.

استعان الأمريكان بفيلم "معركة الجزائر" أثناء تمهيدهم لاحتلال العراق وذلك من خلال دراستهم حرب الشوارع، العصية على الجيوش النظامية الظاهرة بجلاء في تجربة حي القصبة والمنقولة بتفاصيلها الدقيقة في الفيلم.

 أفادت استعداداته الأولية لمشروع الفيلم في توفير تصوّر عام عن الجزائر كمدينة جغرافية، لكنه كان بحاجة إلى إعادة مسح واسع لها في ظل غياب الأرشيف الفيلمي، وتلك الحقيقة دفعته إلى إعادة كتابة النص ليتوافق مع طبيعة العمل السينمائي الاحترافي فكلف السيناريست “فرونكو سوليانس” بالمهمة المتطلبة تحقيقها توفير أموال كبيرة لم يتصور “سعدي” يوماً أرقامها. في بلد تحرر للتو وعليه مهام اقتصادية وأعباءإنهاء آثار الاحتلال يبدو المبلغ المقترح “400 مليون سنتيم” وقتها خيالياً. يتوقف الوثائقي عند عملية توفير ميزانيته وكيف استطاع صاحب الفكرة، بعد تعهده أمام مخرجه بتوفر 80 % منها، إقناع الرئيس “بن بلة” بتأمين المبلع المطلوب.

على خط التفاصيل الدقيقة يقدم الوثائقي تجارب ومساهمات ممثلين ومصورين جزائرين وبعض المحترفين مثل؛ الممثل جان مارتان، ويتوقف عند تجربة الممثل “ابراهيم حجاج” الذي لعب دور المناضل “علي لا بوانت” ويستمع ملياً إلى أحاديث زوجة المخرج “ريتشي بوتيكورفو”، المصاحبة له طيلة فترة إنجازه. كلها فيها روح الفخر والإشارة إلى مفارقات وصعوبات تذللت بفعل قوة الرغبة والعزيمة على إنجاز فيلم عنهم، عن ثورتهم وتحررهم.

في تلك المرحلة من الفيلم كان مخرجه قد أحاط الكثير من أسرار صناعته والمواقف المتناقضة أحياناً بين قادة البلاد منه، إلى لحظة تحوله إلى حقيقة، غيّرت الكثير من المواقف وأظهرت أخرى ضده تشي ضمناً بخوف أصحابها من كشف حقيقة ما قام به الاستعمار الفرنسي من جرائم وفظاعات ضد الجزائريين ناهيك عن استلابه بلداهم بكل ما فيها. منع الفرنسيون عرضه في الصالات وقاطعوه، كما انسحبوا من القاعة لحظة إعلان فوزه بالجائزة الكبرى لمهرجان البندقية السينمائي، وراحت الصحافة تُنبز بمساويء رسالته وبكونه يهدف إلى تمجيد أساليب القتل والتفجيرات في الأماكن العامة وبوجود المدنيين. متناسين الدوافع والأسباب وراءها، والتي يتيح الوثائقي فرص جيدة لعرضها ولم تعد متماسكة ومقنعة فحسب، بل ألهمت نجاحاتها حركات ثورية في العالم مثل؛ حركة “الفهود السود” الأمريكية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وغيرها في أفريقيا وبقية العالم.

تكلف إنتاج "معركة الجزائر" حوالي "400 مليون سنتيم". وكان وقتها مبلغاً خيالياً .

من خفايا “معركة الجزائر” أنه وبعد عقود طويلة استعان الأمريكان به أثناء تمهيدهم لاحتلال العراق وذلك من خلال دراستهم حرب الشوارع، العصية على الجيوش النظامية الظاهرة بجلاء في تجربة حي القصبة والمنقولة بتفاصيلها الدقيقة في الفيلم. يلمح “بن سماعيل” في نهاية وثائقية إلى مآلات حركة التحرر الجزائرية وكيف غدا وضع البلاد بعد عقود على ظهور فيلم مجد معركتها الحاسمة، وظهور وثائقي آخر يقترح قراءة تاريخ صناعته من داخله أولاً وثانياً الجمع البارع بين كشف الأسرار والخفايا المحيطة به والتعامل معه كمنجز إبداعي، غير معني كثيراً بأدوار الشخصيات الواقعية المثيرة تجربتها للجدل واختلاف التقييم. كان اهتمامه الأساس بالفيلم وصناعه وبالظروف التي أحاطت به أما الباقي فترك للمؤرخيين والسياسيين كتابته بلغتهم الخاصة.

 فيما يتعلق بلغة السينما فقد أتقنها “معركة الجزائر.. فيلم في التاريخ” لهذا جاء سرده البصري عنها ديناميكياً مشحوناً بالعواطف والانفعالات الرزانة والمشغولة بعناية كادر سينمائي لا تنقصه المهارة، المتجلية بحلاوة الصورة والتوافق الجيد بين خاماته التسجيلية ومقابلاته للشخصيات المشاركة فيه داخل الأستوديوهات، فجاء بعد كل تلك العناية فيلماً جيداً. في المقابل، وعلى المستوى النقدي يظلهُ قابلاً لقراءات متعددة ومن زوايا مختلفة لسعة موضوعاته ولأقترابه من التاريخ، الحقل المثير على الدوام للسجال والاختلاف.