“معركة مرجة”.. سوداوية حرب تحرير المدينة من عباءة طالبان

يتيح الفيلم الوثائقي “معركة مرجة” (The Battle for Marjah) إمكانية التعرف على واحد من مجموعة الأفلام الوثائقية التي تقوم قناة “أتش بي أو” (HBO) الأمريكية بإنتاجها. وهي القناة التي تحظى منذ أكثر من عقد من السنوات بشعبية كبيرة في الدول الأوروبية، بفضل المسلسلات الدرامية العالية الجودة التي تنتجها، وقد كسبت بفضل جرأتها غير المسبوقة وابتكاراتها الصورية المدهشة جمهورا أوروبيا واسعا. وهو جمهور مناسب ومتلهف لم يستسغ تأثيرات المحافظة الأخلاقية والفكرية التي هيمنت على معظم إنتاجات قنوات التلفزيون الأمريكي الرئيسية في العقدين الأخيرين.

تفرد قنوات “أتش بي أو” في برمجتها التلفزيونية، مساحات ثابتة للفيلم الوثائقي. ويأخذ أشكالا متنوعة من البرامج الوثائقية الطويلة التي ترافق فيها الكاميرا شخصيات عادية في حياتها اليومية، إلى أفلام من العالم الثالث المجهول نسبيا عند الجمهور الأمريكي، وأفلام بموضوعات من الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.

وتشترك تلك الأفلام بعناصر أضحت أساسية في ترسيخ الهوية الفنية والفكرية التي تحاول قنوات “أتش بي أو” الاحتفاظ بها، وذلك بتوفير بديل فكري مختلف عن ما تعرضه أغلب شاشات القنوات الأمريكية الأخرى، ودفع العملية الفنية بمجملها إلى حدود تكسير المحظورات والثوابت الشائعة.

أفلام أفغانستان.. تصوير تحت عين الرقيب الحارس

ينضم فيلم “معركة مرجة” إلى مجموعة الأفلام الوثائقية التي تناولت الحرب الطويلة المستمرة في أفغانستان، ورغم الفترات الزمنية التي تفصل بين أفلام حرب أفغانستان الوثائقية التي عرضت في السنوات العشر الماضية، فإنها تتشابه في مساراتها والحدود التي تقطعها الكاميرا في استكشاف البلد والناس، وعلاقة القوات العسكرية الأجنبية باليومي هناك.

هذه التشابهات لا ترجع إلى مصادفات أو تأثيرات يفرضها الموضوع المتناول، وإنما تعود بشكل أساسي إلى آلية تنفيذ تلك الأعمال، فقد رافق معظمها قوات أمريكية وأجنبية أخرى أثناء عملها أو حربها هناك، في فترات زمنية مختلفة.

فالمخرجون لا يتحركون -بسبب اعتبارات أمنية- من دون حماية تلك القوات العسكرية، واللقاءات الخاطفة التي يجرونها مع أفغان مدنيين تقع تحت عيون الجنود المسلحين، ليس بسبب رقابة تحاول القوات العسكرية فرضها على المخرجين، ولكن بسبب الاعتبارات الأمنية ذاتها، وصعوبة إبقاء فرق إخراج تلك الأفلام لوحدهم مع أفغان المناطق المضطربة، وهي ضوابط لم يخاطر مخرجو تلك الأفلام بمخالفتها.

هذه الاشتراطات الصارمة من خارج العملية الفنية، أدرجت أفلاما لمخرجين من دول مختلفة في خانة واحدة تقريبا، ومنحت تلك الأفلام سمات خاصة ارتبطت بشدة بالظروف التي رافقت إنتاج تلك الأفلام وليس بخطط مسبقة.

يكمن إيجاز هذه السمات في كون هذه الأفلام قد اضطرت -بسبب الوضع الأمني المتردي- إلى مرافقة وحدات عسكرية غربية لفترات زمنية تصل أحيانا لأشهر، وانعدمت حركة الأفلام خارج تلك “الصحبة”، التي منحت بالمقابل المخرجين إمكانية تصوير حياة الجنود في داخل ثكناتهم، لكن دون الولوج في نقاشات طويلة عن موضوعة الحرب وأسئلتها وجدواها.

تصوير المعارك.. عدسة خلف الصف الأول من الجند

الصور التي تسجلها الأفلام خارج الثكنات والتقاطعات مع الأفغان المدنيين والعسكريين لا يمكن تصنيفها بالطبيعية، بل هي بالمجمل انعكاس للأثر الذي يتركه الحضور الغربي العسكري المسلح عند الأفغان الذين يمرون في تلك الأفلام. تكون الكاميرا أحيانا المشهد الأول الواسع أو الضيق الذي يراه جنود تلك الوحدات العسكرية في حركتهم، وما يتعلق بذلك بمحدودية أفق تلك الأفلام ونسبية الحقيقية التي تقدمها.

تقترب الكاميرا من تفاصيل الجنود وحياتهم في أفغانستان

أثناء المعارك التي تصورها تلك الأفلام، وعندما تنسحب الكاميرا من المقدمة، وتتستر بالجنود المسلحين، تركز المشاهد وقتها على العلاقات التي تربط بين الجنود، والحميمية غير الواضحة للعيان التي تنشأ بينهم، بفعل الزمن الذي يقضونه في تلك الظروف الشديدة الصعوبة.

ولا يمكن إهمال الرقابة التي تفرضها السلطات العسكرية على الصورة النهائية لتلك الأفلام، وهي قضية يتجنب المخرجون الخوض فيها، ويكتفون أحيانا بإجابات مبهمة، يتعلق بعضها بأمن الجنود الذي يجب الحفاظ عليه، واعتبارات أخرى ترتبط بالعمل العسكري المستمر هناك.

حماية الجنود.. شعور التعاطف الفطري مع حراس الحياة

الحديث عن الرقابة الخارجية، يقود إلى أخرى لا شعورية يفرضها الظرف العام المحيط بعمليات إنتاج هذه الأفلام، فالمصورون والمخرجون يعتمدون على أولئك الجنود لحمايتهم من الموت في تجوالهم خارج القواعد العسكرية أو حتى في داخل تلك القواعد، الأمر الذي يقود إلى علاقة خاصة وتعاطف مبرر مع هؤلاء الجنود.

ويظهر ذلك في مشاهد مختلفة من فيلم “ريستريبو” (Restrepo) الذي عرض عام 2010 مثلا، وقد أخرجه “سيباستيان جانغر” و”تيم هيذرينغتون” الذي قتل في منتصف عام 2011 أثناء تغطيته لثورة ليبيا.

تمتنع كاميرا مخرجي “ريستريبو” عن تصوير وجه الجندي الأمريكي الذي يصاب ويلفظ أنفاسه الأخيرة على بعد أمتار فقط من عدستهما، بينما يعرض في مشاهد أخرى صورا لأطفال قتلتهم غارة جوية أمريكية أثناء بحثها عن مقاتلي حركة الطالبان.

أي أن الفيلم لم يمتنع لاعتبارات أخلاقية عن عرض صور الجثث بالمطلق، كما تفعل مؤسسات إعلامية غربية مثل “بي بي سي”، فقد موّهت وجوه قتلى مدنيين وأعضاء من حركة طالبان في برنامجها الوثائقي عن أفغانستان “حربنا” (Our War) الذي عرض في شهر يونيو من عام 2011.

مع التشديد هنا على أن فيلم “ريستريبو” بعرضه صور الأطفال الأفغان المقتولين، كان يكشف أهوال الحرب على مدنيين مطوقين بين قوات متطورة لا تتورع عن توجيه ضربات قاسية، وأخرى تتخذهم دروعا بشرية، لتضرب من خلفهم القوات الأجنبية.

“برافو”.. فصيل أمريكي لانتزاع مرجة من طالبان

يرافق فيلم “معركة مرجة” فصيلا عسكريا أمريكي يدعى “برافو” في شهر فبراير من عام 2010، أثناء حربه على حركة طالبان، لإعادة السيطرة على مدينة مرجة الحيوية.

يمهد الفيلم دقائقه الأولى للحديث عن أهمية المعركة القادمة، فأمريكا برئيسها الجديد “باراك أوباما” تريد أن تنفذ سياسة جديدة في أفغانستان، تميل أكثر للتركيز على الظفر بقلوب الأفغان، بعد أن وجدت أن القوة المفرطة لم تعد مجدية، ما لم ترافقها يد أخرى حنونة، تربت على ظهور الناس في المنطقة، وتمنحهم أملا جديدا.

تبدأ المعركة العسكرية سريعا في الفيلم، فهو لا يأخذ الكثير من الوقت للتعريف بشخصياته من الجنود الأمريكيين، كما يفعل الفيلم الوثائقي الدانماركي “أرماديلو” (Armadillo) الذي عرض عام 2010 للمخرج “جانوس ميتز”، وقد بدأ رحلته مع مجموعة العسكريين يرافقها من الدانمارك، ليبقى معهم إلى نهاية خدمتهم في أفغانستان.

يخوض فصيل “برافو” العسكري معارك قليلة في مدينة مرجة، فأغلب مقاتلي طالبان يتركون المدينة مع تقدم القوات الأمريكية، لكن جزءا من الفصيل الأمريكي يضطر للبقاء يوما كاملا في أحد بيوت المدينة، بسبب رغبته في إفراغ الحي من المقاتلين.

ما بعد الحرب.. صور شاعرية ليوميات الحياة الكئيبة

بعد أن تنتهي المعارك، يرافق الفيلم جهود قوات أمريكية لتحسين ظروف حياة أبناء مرجة، كتفعيل دور الشرطة المحلية، واستقدام رجال من أهل المدينة للعمل في الوظائف الأمنية، وتشجيع محلات سوق المدينة على فتح أبوابها من جديد.

وقد تمكن مخرج فيلم “معركة مرجة” الأمريكي “أنتونيو وونكي” ومعده البريطاني “بين أندرسون”، من الاقتراب من سكان مدينة مرجة، بشكل لم يكن متاحا لأفلام مثل “ريستريبو” و”أرماديلو”.

لكن بدل إجراء لقاءات مع أفغان، فضّل الفيلم أن يلتقط صورا غير مألوفة، بعضها يقترب من الشاعرية للحياة هناك، أطفال يتنقلون في أحياء شديدة الفقر، كلاب تعوي أحيانا طاردة للغرباء، سيدة عجوز تجلس القرفصاء أمام غرفة، وجدت فيها جثة مقاتل ملتصق بالأرض، دون أن يسعى الفيلم إلى معرفة علاقة العجوز بالمقتول.

ملصق الفيلم

يرافق الفيلم أيضا مجموعة من الجنود إلى بيت أحد أبناء المدينة الصغيرة، بعد أن فقد زوجته وطفليه في غارة أمريكية، ويسجل المخرج اللقاء الحرج بين جنود شباب تنقصهم الخبرة، يحملون 2500 دولار أمريكي، تعويضا لأي ضحية مدنية تسقط هناك، كما يسجل الأب الشاب المشدوه بحضور العسكريين والكاميرا.

محمد الأفغاني.. نهاية مأساوية لمجنون في جسد طفل

أما محمد الأفغاني الذي تجاوز العشرين من العمر بجسد توقف عن النمو عند السادسة، فهو الذي سيهمين على الفيلم، إنه مجنون القرية الذي لا تخلو مدينة أو حي منه.

لا يتوقف محمد عن الحركة، ويهاجم الجنود الأمريكيين بصوته الخشن، ويطلب منهم التوقف عن ضرب الحي بالقنابل، وينهال بالشتائم على طالبان، بينما يدخن بشراهة ويحدق بالكاميرا بوجهه الذي هرم، رغم أنه مركب على جسد طفل.

محمد هذا -كما يخبرنا الفيلم بعد نهايته- سيقتل بوحشية مقززة، فمقاتلي حركة طالبان الذين يستعيدون نشاطهم بعد انسحاب القوات الأمريكية، سيقومون بقطع رأس “مجنون” القرية، فقط لأنه اشترك ضحكات قليلة مع جنود وحدة “برافو” الأمريكية.

سوداوية الأفلام.. حرب لا منتصر فيها ولا خاسر

تتشابه أفلام أفغانستان الوثائقية في الأعوام الثلاثة الماضية بنهايتها السوداوية، فلا منتصر واضح، أو مهزوم يترك المعركة هناك، ففي فيلم “ريستريبو” تنسحب الوحدة العسكرية من الوادي بعد أكثر من خمسين قتيلا من العسكريين، وأشهر من المحاولات لإدارة منطقة جغرافية ضيقة، لا يقارن تمردها بمناطق أخرى من البلد.

فيلم “معركة مرجة” ينتهي أيضا بصورة لا تقل يأسا، فجهود الفصيل الأمريكي في إعادة الأمن للمدينة لا تصمد طويلا، والشرطة الأفغانية تفشل في الصمود أمام عزيمة مقاتلي الطالبان الذين تفشل الأفلام الوثائقية المذكورة بشكل عام في التقرب من عالمهم، أو تفسير الغضب والعنف الذي يحملونه.

التَوْضِيح الوحيد جاء من بائع في سوق مدينة مرجة، فقد تحدث بشكل خاطف للكاميرا، عن الحرب غير المجدية ضد طالبان، لأن التنظيم لم يأتِ من كوكب آخر كما يصف، “هم أبناء هذا البلد، إخوتنا وأبناء عمومتنا”، ويكمل البائع الجوال حديثه بينما تهرب الكاميرا الخائفة منه، لتعود إلى صحبة جنود الوحدة العسكرية الأمريكية.