معضلة فيسبوك.. تواصل اجتماعي أم منصة للربح ولو دمرت العالم؟

 

قيس قاسم

لم يكن الشاب مارك زوكربيرغ صاحب فكرة “فيسبوك” يتصور أن مشروعه سيتوسع ويصل إلى مديات تتجاوز كل حدود، وذلك بعد أن أحدث ثورة في طريقة تواصل البشر فيما بينهم، ولم يخطر بباله أنه سيفتح في الوقت نفسه مجالاً كبيراً لكل النوازع الخيرة والشريرة، لدرجة يصبح من الصعب فرزها أو السيطرة عليها.

لقد أضحى فيسبوك واقعيا؛ مصدرا ربحيا وساحة للصراعات، ومساحة مفتوحة للطامعين في استغلال حرية التعبير والنشر وانتهاك الخصوصية. وبسبب ما يكمن داخله من مخاطر انبثق سؤال الوثائقي الأمريكي “معضلة فيسبوك”؛ هل ظلّ مشروع فيسبوك كما انطلق وسيلة تقنية حديثة موحدة للبشر، أم أنه أضحى مع الوقت مُفرقاً لهم؟

على مدى ما يقارب الساعتين حاول صانع الوثائقي جيمس جاكوبي استدراج بعض المشتغلين السابقين في مؤسسة فيسبوك، إضافة إلى آخرين ما زالوا يعملون فيها، وذلك عبر قيامه بطرح أسئلته عليهم بنفسه، توافقاً مع كل عنوان فرعي من عناوين وثائقية، ومع كل محطة من محطاته التاريخية المتوقف عندها بإمعان، لتبدو أجوبتهم المقتضبة والحذرة كما لو أنها استنتاجات مكملة لما عُرض من مشاهد وتسجيلات أرشيفية قبلها. أسلوب بصري بارع يجمع بين المهنة الصحفية والاشتغال الوثائقي الاستكشافي التحليلي.

 

فيسبوك.. إغواء الفكرة وثوريتها

يبدأ الوثائقي مسيرته بعرض تسجيلي لمقابلة تلفزيونية أُجريت مع زوكربيرغ عام 2005 بمناسبة بلوغ عدد مستخدمي فيسبوك ثلاثة ملايين مستخدم، وفي كلامه تأكيد على قناعاته الشخصية بقوة مشروعه وثوريته، ورؤيته له كوسيلة حديثة تربط العالم كله، مستهدياً بتجربة “غوغل” مع زيادة في الحماس الثوري لكسر التابوهات وتحرير التعبير من كل رقابة سلطوية.

كان سلوكه وتصرفاته منسجمة مع كونه مبرمجا إلكترونيا مغامرا لا يقبل السكون، ويفضل مغامرة البحث عن الجديد بكل أخطائها على المحافظة الخائفة، كان يريد كما قال أثناء لقائه “تغيير العالم، وخلق بلد قومي رقمي بديل”.

ومع إغواء الفكرة وثوريتها كانت ثمة رغبة غير معلنة عند صاحبها في تحويلها إلى شركة كبيرة، فالدافع كما يشير الوثائقي عبر عرضه التاريخي هو التوسع السريع غير المنتظر، فهي مجرد مبادرة طلابية جامعية تضم بعض مئات من الطلبة سرعان ما وصل عدد مستخدميها في وقت قياسي إلى الملايين، وأغلبيتهم من خارج الإطار الأكاديمي. وبعد سنتين أعلن زوكربيرغ عن هدفه في عولمة مشروعه من خلال مقابلات مَن رافقه في بداياته، حيث يتضح أن الحديث عن تحويل المشروع التطوعي إلى شركة ربحية كان ممنوعاً.

ويقود التوسع المنفلت لاحقاً وبعد بلوغ عدد مستخدميه ملياري شخص إلى مشكلات جديدة لم يُحسب حسابها. لقد كثرت الشكاوى من سوء استغلال المنصة الكونية لأغراض تتعارض مع الأفكار الإيجابية التي تأسس المشروع عليها أصلاً.

المشكلة الأكبر لدى إدارة فيسبوك تكمن في وضعها مبدأ الزيادة العددية في المقدمة، وذلك استنادا إلى مفهوم “لوغاريتم” في علم الرياضيات

 

التعويل على الأرقام.. استقطاب دون قيود

المشكلة الأكبر عند إدارة فيسبوك -كما يتوصل الوثائقي وفي وقت مبكر من زمنه المكثف كثيراً- تكمن في وضعها مبدأ الزيادة العددية في المقدمة، وذلك استنادًا إلى مفهوم “لوغاريتم” في علم الرياضيات، وهو مبدأ منفعي يضمن لهم توسيع المشروع باضطراد، ويؤمّن بالتالي لهم أرباحا كونية.

تقنيا يشخّص الوثائقي مساعدة مجموعة من المحللين وخبراء الاتصالات عنصرين أديا إلى الانفلات وعدم السيطرة على المحتوى، وهما كبسة “إعجاب” (لايك) ومنصة الأخبار “نيوز فيد” (News Feed). فقد سمحت كبسة “إعجاب” بنشر محتوى غير خاضع للتقييم الموضوعي، فلا قيود على من يريد وضع كلمة إعجاب على كل ما يحبه من تعليقات وأخبار، لكن بالنسبة لمن يريد استثمارها لغايات تجارية وسياسية فإن الأمر مختلف، وسيعود مديرو فيسبوك للإعلان عن ترددهم كثيرا في استخدام كبسة إعجاب لمعرفتهم بصعوبة السيطرة على قراءة ما يتضمنه من مؤشرات كثيرة لا علم لمستخدميها بها.

سيتضح أن قراءة وتحليل مؤشرات “إعجاب” تساعد الشركات التجارية على معرفة نزعة المستهلك وماذا يحب من أشياء وبضائع، وأيضا يمكن للسياسيين تلمّس المزاج العام للناس من خلاله وبالتالي العمل على ضوئه.

أما “الأخبار” فيكون تأثيرها السلبي كارثيا من خلال إتاحتها المجال لنشر الأكاذيب وتسفيه الحقائق وإضاعة الخطوط الفاصلة بين الصحيحة منها والمزيفة. لقد صارت الأخبار غير المدققة بديلاً عند الملايين عن الأخبار الصحفية الموثوقة، وصارت صفحات فيسبوك الأخبارية مصدراً لنشر الكثير من الأحداث دون رقيب أو حسيب.

يكشف الوثائقي نصا قانونيا يوقع عليه مستخدم فيسبوك دون قراءته بتمعن في الغالب، ويؤكد النص عدم مسؤولية إدارة فيسبوك عن أي محتوى ينشر فيه، وبالتالي فإنهم يطلقون العنان لمن هبّ ودبّ لنشر ما يريد، وذلك تحقيقاً لأغراضه الخاصة.

ندوة في أعقاب عرض الوثائقي “معضلة فيسبوك” على قناة فرونت لاين

 

تشجيع الاستقطاب وفوضى النشر

يراجع الوثائقي بواسطة خبراء تحليل الأخبار مساحات كبيرة منها، وبخاصة تلك المتعلقة ببؤر توتر وحروب، ويلاحظ كيف أسهم نشرها في “الفضاء الأزرق” المفتوح في استحداث استقطابات جديدة شديدة القوة وفي أكثر من مكان حول العالم.

وردا على سؤال المخرج جيمس جاكوبي لبعض مديري الشركة الأكبر في العالم والمتعلق بالاستقطاب، وما إذا كانوا قد حسبوا الفوضى المحتمل حدوثها نتيجة ما يُنشر عندهم، فإنهم أجابوه بالكلام نفسه الذي اعتادوا تكراره؛ “نحن لا نريد تقييد الحريات، بل على العكس نشجع حرية التعبير ونريد للناس أن تتكلم كما تريد، لكننا في الوقت نفسه لا نشجع على العنف والكراهية، وفي حالة وجدنا مثل تلك الدعوات نسرع في إغلاق حساب مستخدميها”.

ولتحري دقة ما يدّعوه أخذ الوثائقي عينات من أحداث دراماتيكية ساعد وجود فيسبوك على تقوية مواقف حركات شعبية ناشطة فيها، لكنها سرعان ما أحدثت استقطابا مضادا لها. ويتفق معظم مديرو أقسامه -ولتخليص أنفسهم من المسؤولية المهنية والأخلاقية- على عبارة تُحيل الذنب على المستخدم نفسه، فهو -كما يدّعون- مَن يقرر قبول أو رفض الخبر المنشور.

التجربة المصرية خير مثال يقدمه الوثائقي على التناقض الناشئ نتيجة عدم السيطرة على المحتوى

 

تجربة مصر.. الثورة وما تلاها

التجربة المصرية خير مثال يقدمه الوثائقي على التناقض الناشئ نتيجة عدم السيطرة على المحتوى، فبعد أن ساهمت المواقع الإلكترونية ومنها فيسبوك على نشر ما يجري في الشارع المصري خلال الحراك الشعبي وشجعت دون شك كثيرين للمشاركة فيه، وكان باعتراف الكثير من الناشطين فيه بأنها كانت من العوامل الفعالة التي ساعدت على كسر حاجز الخوف ونتيجتها المعروفة كانت سقوط حكم مبارك.. فإن ما تلاها من أحداث بيَّنت أن القوى السياسية المصرية المتصارعة فيما بينها وجدت في فيسبوك وسيلتها الأنجع للتأثير على الجمهور، وذلك عبر نشرها كل ما ترغب من أخبار وإشاعات زادت من حدة الاستقطاب، فيما كان شاغل إدارة الشركة الأول زيادة عدد المستخدمين.

ويضيف خبراء إعلام إلى مصر تجارب أخرى مشابهة جرت في أفريقيا وآسيا، ويقدمون ما تعرض له الروهينغيا في ميانمار مثالاً، فقد شوهت أخبار فيسبوك الكاذبة والمحرّضة بحق المسلمين في تأليب العسكر والمتطرفين البوذيين ضدهم، وكذلك عزز جنرال الفلبين رودريخو دوتيرتي سلطته عبر تأسيسه جيشا من المستخدمين الوهميين، وذلك لبث الدعاية المؤيدة لسياسته القمعية بحجة التخلص من تجارة المخدرات.

فضيحة شركة “كامبريدج أناليتكا” البريطانية واحدة من الأمثلة الكثيرة التي دفعت السلطات القضائية في أمريكا

 

فضائح بيع الخصوصية وتملّص فيسبوك

لم يكتف الوثائقي بتلك الأمثلة المبرهنة على قوة تأثير وسيلة التواصل الكونية في إحداث الاستقطاب على مختلف مستوياته، بل ذهب إلى عرض خطورة استغلال سعتها وشعبيتها من قبل شركات تجارية دفعت لإدارتها مبالغ كبيرة من الأموال مقابل السماح لها بامتلاك البيانات الشخصية لمستخدميها، وذلك في خرق واضح لالتزامها بمبدأ النزاهة وصيانة خصوصية زبائنها.

ويتضح أن مئات ملايين البيانات الشخصية وكل ما كتبوه أصحابها وأشاروا إليه في صفحاتهم، قد نقل بالكامل إلى طرف ثالث أصبح له حق التصرف بها كما يحلو له.

ولعل فضيحة شركة “كامبريدج أناليتكا” البريطانية تكون واحدة من الأمثلة الكثيرة التي دفعت السلطات القضائية في الولايات المتحدة الأمريكية للمطالبة بمحاسبة الواقفين وراءها واستجواب مديرها أمام الكونغرس، وذلك بعد أن شعرت أجهزتها الأمنية بخطورة عمليات بيع البيانات وما توفره من إمكانيات كبيرة للساعين لامتلاكها واستخدامها لأغراض موجهة ضد المصالح الأمريكية.

وقد تشجعت الجهات القانونية أكثر على رفع شكواها ومطالبتها بمحاسبة المتسببين بها أمام الكونغرس بعد نشر أخبار التسريبات المتعلقة بالتدخل الروسي في الانتخابات الأخيرة، وفضح حقيقة تشكيلها جيوشا من المستخدمين الوهميين الذين لعبوا دورا في التأثير على الناخب الأمريكي وخططوا لاستخدام فيسبوك وسيلة فعالة لتعميق هوّة الانشقاق بين مكوناته الاجتماعية.

يتوقف الوثائقي عند استجواب مدير الشركة الأكثر شعبية وتأثيراً في الرأي العام العالمي هذه الأيام، والذي غدا بفضل أرباحها التجارية وصفقاتها السرية واحدا من أغنى رجال الأعمال في العالم، ويقدم صورة واضحة على براعته في التهرب من الأسئلة المحرجة وقدرته التكتيكية على الانحناء أمام العواصف مؤقتا، ليعود ثانية ويستمر على نهجه الربحي، بل والإصرار على توسيع دائرة نشره المعلومات غير المدققة، والتي أحدثت أو قد تحدث مستقبلاً المزيد من المشاكل والانقسامات في العالم، وربما أيضا ستحوّل المنصة التي أرادت توحيد البشر إلى أخرى تجارية ربحية تقسمهم وتسهم في نشر نفس القيم السيئة التي أعلنت وقوفها ضدها في البدء.