“مقاومة كَراتاي”.. بسالة شعب أوقف همجية الزحف المغولي إلى الأبد

يستعيد الفيلم التركي “مقاومة كَراتاي” (Direnis Karatay) المرحلة التاريخية الممتدة بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، حين أوقف القائد السلجوقي “جلال الدين كَراتاي” المد المغولي الهمجي، وبفضل مقاومته للغزو مهّد لظهور الدولة العثمانية لاحقا.

لتجسيد وقائع تلك الفترة سينمائيا يختار المخرج صلاح الدين سنجقلي أسلوبا سرديا يجمع فيه بين النقل التاريخي للأحداث، وبين التشويق الدرامي المتأتي من قصص جانبية تلازم الحدث الرئيسي، وتُبقي المشاهد مشدودا إلى الشاشة طيلة زمن الفيلم المشحون بالتوتر والانفعالات.

لتحقيق كل ذلك يستعين المخرج بنخبة من الممثلين الأتراك المتميزين، وبطاقم فني له خبرة في كيفية تقريب الوقائع التاريخية للمُشاهد، لدرجة تشعره أنه يعيشها حقيقة.

قونية.. إرث السلاجقة القوي المعرض للانهيار

يبدأ الفيلم التاريخي مساره من مدينة قونية، فقد اتخذ منها السلطان السلجوقي علاء الدين كيكوبات (الممثل جاهد كايا أوغلو) مركزا لولايته المسلمة التي اتسمت بالقوة والهيبة.

ورغم الأخطار التي تحيط بدولته، فقد أولى العِلم أهمية كبيرة، وشجّع على التعليم وفتح المدارس، إلى جانب تقوية الجيش. وقد منح ثقته للقائد والمعلم جلال الدين كَراتاي (يلعب دوره الممثل محمد أصلانتوغ)، وكلفه بتوسيع المعارف وبناء المدارس.

بعد وفاته تولى ابنه غياث الدين الحكم (الممثل علي بخاري ميتي)، وعلى عكس والده لم يتمتع الابن بالكفاءة التي كان يتمتع بها الأب في إدارة الدولة السلجوقية. فقد شجّع ضعفه وقلة خبرته العسكرية المغول على مهاجمته. لم يأخذ بآراء المقربين المخلصين منه بالتريث وعدم الانجرار وراء تهديدات الطاغية المنغولي “نويان” (الممثل يوردير أوكول)، ودخول الحرب كما يردها.

سجن المخلصين والتجييش للحرب.. حماسة سلطان ضعيف

دفعت حماسة السلطان الزائدة لإبعاد كل من نبهه للخديعة التي يُبيتها له العدو، وهؤلاء كانوا من أكثر المخلصين للدولة السلجوقية، ومن أشجع المدافعين عنها في زمن حكم والده، ومن بينهم القائد والمعلم كَراتاي، فإعلان موقفه الصريح مما يُخطّط له السلطان الضعيف دون دراية أثار غضبه، فقد خَيّره بين البقاء بالقرب منه أو التفرغ لمدارسه وطلابه.

قرر القائد الوقوف إلى جانب السلطان السلجوقي رغم معرفته الدقيقة بقلة حيلته السياسية وضعف حنكته العسكرية التي توجها بسجن القائد العسكري الشجاع الآهي أفران (الممثل فكرت كوشكان)، واتهامه بالخيانة من دون وجه حق، وأيضا بإعلان نفسه قائدا لإدارة المعركة المرتقبة بين جيشه والجيش المغولي، من دون الاستعانة بخبرة الحكماء.

الآهي المخلص وحافظ سر الخريطة الغامضة المقاوم الشجاع

وبسبب قلة خبرته أضحت المدينة عرضة لاختراق العدو الذي أخذ بالتحرك داخلها لإضعاف معنويات سكانها، تسهيلا لاقتحامها والسيطرة عليها لاحقا.

كوتاب المنفي.. ثمرة علاقة ممنوعة على أمراء السلاجقة

من المُفتتح التمهيدي للفيلم تتضح ملامح قصته الرئيسية وبقية خيوطها التي تمتد لتربط أحداثا وشخصيات فيما بينها، وبترابطها تزداد متانة النص السينمائي حيوية وتشويقا. من بين أكثرها جذبا للانتباه سر الخريطة الغامضة المكتوبة على قطعة قماش أبيض، لا يمكن قراءة ما هو مكتوب فوقها إلا بعد معالجتها بمادة خاصة، ومن خلالها يمكن رؤية الكلمات والرسومات المنقوشة عليها، هذا السر والمادة الخاصة لا يعرفهما إلا القائد أفران.

هناك أيضا قصة كوتاب ابن الأمير كَراتاي الذي وُلد من علاقة عاطفية غير مسموح بها للقادة والأمراء السلاجقة. لم يجد الأب مفرا للحفاظ على حياة ولده وسر علاقته بالمرأة التي أحبها إلا بنقله إلى مكان بعيد عن قونية، لذا كَلف صديقه أفران بمهمة نقله سرا إلى مناطق كان يسيطر المغول عليها، لينشأ الطفل فيها من دون أن يعرف أصله.

الطفل كوتاب ابن الأمير كَراتاي الذي وُلد من علاقة عاطفية غير مسموح بها للقادة والأمراء السلاجقة

في زمن لاحق يتضح أن الشاب كوتاب (الممثل ألبرين ديماز) قد أصبح من أشد وأٌقوى قادة الجيش المغولي.

تركان المحاربة.. ابنة القائد التي تعيش خلف خطوط العدو

لا يقتصر الأمر على الرجال القادة، بل ثمة قصص أخرى لا تقل تشويقا تلعب أدوارها نساء، من بينها قصة المحاربة الشجاعة تركان (الممثلة بوروك أوزبيرك) ابنة القائد أفران التي نُقلت لتعيش خلف خطوط العدو المغولي، وتقيم بينهم من دون الكشف عن هويتها الحقيقة.

أخفت المقاتلة مشاعر حبها لكوتاب، ولم تفصح عنها إلا بعد مقتل حبيبته المغولية مارال على يد الطاغية المنغولي.

تتجمع كل تلك القصص وتتضح ملامحها بالتوازي مع مسار حراك عسكري يخسر فيه الجيش السلجوقي واحدة من أشد المعارك التي قادها السلطان غياث الدين إخفاقا، فخسارته أمام الجيش المغولي شجعت قائده المغولي على المضيّ في مشروعه التوسعي الساعي للقضاء التام على دولة السلاجقة وبناء دولة مغولية على أنقاضها.

نصف الخريطة الآخر.. سر مخفي عن السلطان السلجوقي

للسيطرة على كامل مدينة قونية وكشف سر الخريطة التي تتيح لمن يجمع طرفيها إمكانية قراءة ما هو مكتوب فيها من أفكار وخطط بناء إمبراطورية جديدة؛ يُعيّن الطاغية المغولي بعد انتصاره في المعركة مندوبا له في قونية يدعى أصفهان، فقد كلفه ليقوم بدور الحاكم الفعلي من خلف الكواليس.

من مسار الأحداث تتكشف حقائق حول الخريطة، فقبل دخوله السجن -كما أمر السلطان ظلما- يُبيح الآهي أفران لصديقه كَراتاي بسر وجود نصفها بحوزته، أما النصف الآخر فهو موجود عند العدو المغولي في مكان محصن، وعليهما الوصول إليه.

يخفي الزعيمان سرهما عن السلطان السلجوقي لعدم ثقتهما به، خاصة بعد هروبه من ساحة المعركة وترك جنوده عرضة للقتل.

كوتاب ونويان.. صراع المقاتل والطاغية على فتاة

مع تصاعد تهديدات المغول باحتلال قونية يتخذ كَراتاي قرار المقاومة والدفاع عن الدولة السلجوقية ومركزها عبر إشراك الشعب في حمايتها من الغزاة، وتقوية إيمان طلاب مدارسه بالجهاد في سبيل وطنهم وفق تعاليم الدين الإسلامي، حيث يقرر إطلاق سراح صديقه وبقية الجنود المخلصين ليضمهم إلى قواته.

في الجهة الأخرى وداخل أسوار مدينة الحاكم المغولي يجري صراع بين المقاتل كوتاب والطاغية نويان، فقد أثار طلب الشاب من زعيمه تزويجه بالفتاة التي يحبها غضب القائد منه، لأنه يعتبر “كل ما بين الأرض والسماء ملكا له” كما يكرر دوما، وبالتالي فإن الشابة الجميلة هي ملك له، ولا يحق لأحد أخذها منه.

الفتاة المغتصبة من قبل الطاغية المغولي تقرر الانتحار

وإيغالا في حقده ومكره يخبر المقاتل بأنه لا يعارض زواجه منها، لكن في ليلة زفافة يدخل نويان قبله على الفتاة في خيمتها ويقوم باغتصابها، لتُقدِم الفتاة بعد فعلته على الانتحار. وبعد موتها يتصاعد الصراع بينهما أكثر، وينتهي بهروب كوتاب إلى قونية.

كشف سر الطفولة.. رحلة مقاتل جسور للانتقام

في قونية يقوم الآهي بإخبار كوتاب بحقيقة أصله ونسبه السلجوقي ومَنْ هو أبوه الحقيقي، ويطلب منه الانضمام إلى قواته المتوجهة لأخذ القسم الثاني من الخريطة.

للانتقام من مغتصب حبيبته يقبل المقاتل الجَسور المشاركة في العملية الخطيرة، فيتسلل مع مجموعة صغيرة إلى مكان حفظها ويدخل إليه، فيحصل على مبتغاه ويعود إلى قونية، لكن الطاغية المغولي يبعث بأشد مقاتليه شراسة ليستردها.

يتصاعد الصراع، والخريطة السرية تحلّ طلاسمها في قونية، مما يدفع الطاغية المغولي لإعلان الحرب عليها. يحشد كَراتاي جيشه وشعبه ويضم إليه طلبته وكل من يستطيع الدفاع عن وجود السلاجقة.

انسحاب الطاغية.. سلاح قوي يصنع انتصار السلاجقة

في مشهد مؤثر يقابل كَراتاي الطاغية نويان وجها لوجه قبل اندلاع المعركة، فيخبره الطاغية لإضعاف معنوياته أن وراءه جيشا قويا لا يرحم، بينما يُسمعه جلال الدين كلاما معبرا، إذ يقول: وراء هذه المدينة شعب بأسره يدافع عنها. كلمات شعر بقوتها الطاغية وقرر الانسحاب من المعركة، وعدم الخوض فيها خوفا من خسارته أمام شعب قرر مقاومته بكل ما يستطيع.

وبانسحابه يعلن السلاجقة نصرهم الذي يُتوج بوداع الابن كوتاب لوالده، وهو في طريقه لتوصيل الخريطة كاملة بعد فك رموزها إلى أرطغرل زعيم قبيلة الكايي الذي سيحصل بموجبها على بقعة أرض، وعليها سيُقيم دولته، ومن بعده سيأتي ابنه ليؤسس الدولة العثمانية التي ستغدو مع الوقت واحدة من أعظم الإمبراطوريات.

وبتسليم الخريطة إلى أرطغرل ينتهي فصل مؤلم من التاريخ ساد فيه حكم المغول الذين عاثوا في الأرض فسادا، لكن بفضل بسالة ومقاومة كَراتاي وشعبه توقف زحفهم الهمجي إلى الأبد.