“ملائكة وشياطين”.. الروائي واستدعاء الحاضر

الملائكة والشياطين، الفاتيكان

د. أمــل الجمل

“العالم الكاثوليكي سيتحد نتيجة هذا الهجوم.”

“لا يوجد هجوم، أنت تريد أن تخلق لديهم حالة فزع، تحاول إقناعهم أنهم في حالة حرب، أن تستحضر عدوهم من الماضي وتستخدمه.”

ما سبق هو جزء من حوار المواجهة بين أمين سر خزانة بابا الفاتيكان المتوفى – وبالأحرى المقتول عمداً – وبين قائد الحرس السويسري المكلف بحماية مدينة الفاتيكان والبابا ضمن أحداث فيلم “ملائكة وشياطين” Angels & Demons المقتبس عن رواية بنفس الاسم للمؤلف دان براون – صاحب روايات “شفرة دافنشي” و”الجحيم” – وجميعهم تحول إلى أفلام قام بإخراجها رون هاوارد، بينما جسد دور عالم الرموز روبرت لانجدون فيها الممثل البارع توم هانكس – وإن جاء “الجحيم” Inferno” الذي عرض مؤخراً وهو الجزء المتمم للثلاثية أضعفهم أداءا وإخراجاً رغم عناصر الإبهار البصري والتشويق والإثارة المغروس في البناء الفيلمي وربما ساهم في ضعفه أن موضوع السيناريو خرج من إطار المعركة الفكرية والعقائدية بين الكنيسة والعلم. مع ذلك لابد من توضيح أن الأجزاء الثلاثة لا تعتمد على بطولة واحدة مطلقة فإلى جوار هانكس وقف أبطال آخرون يُعتبر كل منهم شخصية رئيسية بدونها يفقد كل جزء كثيراً من معناه، لذلك لا يمكن إغفال مساهمتهم بقوة في إنجاح الثلاثية خصوصا الجزء الثاني الأكثر أهمية وقيمة فكرية رغم كونه عملاً فنياً تجارياً في المقام الأول، وينتمي لسلسلة أفلام التسلية التي تتخذ من الإثارة والتشويق والجريمة سبيلاً لتحقيق أعلى الإيرادات والمكاسب في شباك التذاكر.

"ملائكة وشياطين" أقتبس عن رواية للمؤلف دان براون

تنبع قوة “ملائكة وشياطين” وتتجذر أهميته في اتجاهين، الأول يتعلق بالجانب الفكري والذي يتجسد في الكشف والتأكيد على أحد أوجه الكنيسة في الاضطهاد وممارسة العنف حتى تبقى مسيطرة على الحشود أو بالأحرى على العالم، إلى جانب – بالطبع – توضيح مبررات الصراع القائم بين العلم والكنيسة وفزع بعض رجال وقساوسة وكهنة الأخيرة من أن يتم سحب البساط من تحت أقدام الكنيسة إذا استسلمت للتقدم العلمي وأفكار العلماء وهو ما دفعها لمحاكمة عددا منهم وأشهر مثال على ذلك جاليليو الذي حاول آمن بأفكار ونظرية كوبرنيكوس بشأن الأرض وأنها ليست مركز الكون وأنها تدور حول الشمس وحاول نشرها فعاقبته الكنيسة، لكن اللافت أيضاً أن أهمية الفيلم تبزغ من كونه يتماهى في أجزاء منه مع كثير من الخطب والشعارات السياسية التي تحاصرنا في الحاضر، والأسلوب المُمَنهج في خلق فزاعات لأفراد الشعب المصري وتخويفه من الثورة على الوضع القائم حتى يرضخ ويستسلم لكافة أشكال الانهيار الناجم عن السياسة الحالية الفاشلة. أما الجانب الأهم فيتعلق باستخدام العنف الذي يُؤكد الفيلم على أنه لا يقضي على الخصم، ربما يجعله يصمت أو يختبئ أو يلجأ لأماكن سرية تحت الأرض ويظل متمترساً يتدرب ويستعد إلى أن تحين الفرصة له فينتقم أشد الانتقام ويمارس الاضطهاد الذي تجرعه من قبل أضعافا مضاعفة، ووفق أحداث الفيلم ليس هناك أفضل من المصالحة وتقبل الآخر، ولكم في السينما حياة يا أولى الألباب. 

المستنيرين

بالعودة إلى مضمون الشريط الروائي “ملائكة وشياطين” والصراع بين الكنيسة والدين يُؤكد الفيلم على أن الكنيسة استخدمت العنف ضد طبقة المستنيرين وهو ما يُعتبر وصمة سوداء في تاريخها باعتراف أحد رجالها، وهو العنف الذي أعاد المستنيرون استخدامه ضد الكنيسة عند اللزوم تحت مسمى الثأر، ففي عام 1668 اختطفت الكنيسة أربعة من أفضل علماء المستنيرين وتحت ادعاء “الانتقام والتطهير” قام رجال الكنيسة بدق الصليب على صدور العلماء الأربعة وأعدموهم وألقوا بأجسادهم في الشوارع ليكونوا عبرة وتحذير للآخرين لعدم التشكيك في قواعد الكنيسة حتى لو كان ذلك تحت مسمى العلم… هنا وفي تلك الحالة خلق العنف تحت ادعاء “الانتقام والتطهير” مجموعة من المستنيرين أكثر إظلاما وعنفا، فقد خلق العنف طبقة عازمة على الانتقام، والثأر بالقتل المشابه وأيضاً تحت دعوات “الانتقام والتطهير”، أو ما يمكن تسميته مواجهة العنف بالعنف المضاد.

مشهد للحشود أمام بابا الفاتيكان

 تطرح مشاهدة الفيلم الذي تدور أحداثه في روما كثيراً من التساؤلات بعضها استنكاري: فكيف يكون القتل وسفك الدماء والحرق والتعذيب والانتقام من أجل “التطهير”؟! كيف يجتمع الانتقام والتطهير رغم كونهما نقيضين؟! ولماذا تخشى الكنيسة من العلم؟ هل التقدم العلمي وتفسير كثير من الأشياء والظواهر الكونية يطمس الدين ويهدد بزوال عرشه، أم يمكن لكليهما أن يتعاونا لخدمة الإنسانية شريطة أن يتخلى كل منهم عن علاقاته السياسية المشبوهة والرغبة المحمومة في السيطرة على العالم وحكم الجماهير على وجه البسيطة؟ 

كانت الرموز واحدة من عناصر التشويق المُلهمة بالفيلم والتي تستحضر بعضا من روح وعناصر مصر القديمة وحضارتها ومسلاتها الشهيرة، مع إشارات مهمة عن تأثر الفنانين الإيطاليين – وأشهرهم برنيني – بالحضارة المصرية ورموزها. هناك كذلك محاولة العثور على “طريق الاستنارة” الذي يُمكنهم من فك اللغز وعلاقة ذلك بـ جاليلليو، ومحاولة فهم كيف يمكن عن طريق روما فك الألغاز الغامضة. إلى جانب ذلك، يُضاف إلى التشويق أيضاً العراقيل التي تُغرس أثناء رحلة البحث عن موقع القنبلة التي ستُفجر مدينة الفاتيكان وأشكال القتل ومحاولة إنقاذ الضحايا الأربعة وهم أفضل أربعة كرادلة مرشحون لتولي منصب البابا، والشكوك الملتبسة حول بعض الشخصيات، والمخاطر التي يتعرض لها عالم الرموز روبرت لانجدون. ومن بين الرموز التي يحفل بها الفيلم كلمات وجمل من قبيل: “دع الملائكة توجهك في مهمتك النبيلة”، “بعلاج الرجل أرحنا قلبه”، “بإبرته ثقبنا حجابه الآثم”، “ستشرق الشمس في منتصف الليل”، “مدينة سيقضي عليها الضوء”.. تجنباً لحرق أحداث الفيلم ومتعة مشاهدته سأكتفي بالأخيرة لما لها من علاقة بالتحليل الكلي للفيلم، والتي يُقصد بها مدينة الفاتيكان وكنيستها ومكتبتها الشهيرة التي تحوي كنوزا وأسراراً تمتد على مساحة 50 ميل، والضوء المقصود به في دلالاته المباشرة انفجار أنبوبة البحث العلمي التي هي عبارة عن ضوء وطاقة محبوسة تفسر خلايا الخلق، لكن الضوء في معناه الرمزي فيُقصد به ضوء العلم.

مشهد من الفيلم

تجهيل متعمد

جاء عنوان الفيلم “ملائكة وشياطين” بدون تعريف وهو ما يُوحي بدلالات عدة، فبهذا التنكير يستبعد المؤلف استدعاء الصورة المباشرة التقليدية للملائكة والشياطين، ومن ثم – وإلى جانب تماثيل الملائكة ودائرة ونافذة الشيطان بالأماكن الأثرية بروما والتي يحفل بها الفيلم – يطرح احتمالية وسم طرفي الصراع هنا، أي رجال الكنيسة ورجال العلم، بهيئة الملائكة والشياطين لكن من دون أن يُحدد أيهما الملاك ومَنْ منهما يُجسد دور الشيطان؟ ومن دون إشارة أيضاً لكونهما قد يتبادلان الأدوار أحياناً؟ وإن كانت كاتبة هذه السطور تميل إلى تفسير آخر؛ أن العنوان يُقصد به رجال الكنيسة بالفيلم إذ أن بعضهم – ذوي السلطة على الأخص – كان يجمع بين طرفي تلك الثنائية، ثنائية الخير والشر، وهذه الدلالة تتأكد عندما نتأمل شخصية باتريك أمين سر خزانة البابا – والذي كان منوط بإدارة شئون الفاتيكان طوال بقاء الكرسي خالياً وإلى أن يتم انتخاب بابا جديد – والذي تخيلناه ملاكاً طوال الأحداث وشاهدناه متألماً موسوما بالصليب الساخن على صدره متخيلين أنه أحد ضحايا طبقة المستنيرين الذين عادوا للانتقام، ولاحقا نراه يهرول من أجل إنقاذ الفاتيكان ممسكاً بالقنبلة بين يديه قبل دقائق قليلة من تفجيرها مستفيداً من تجربة عمله كطيار ونقل الجرحى أثناء الحرب فيصعد بالقنبلة إلى عنان السماء لتفجيرها بعيداً مضحياً بنفسه لأجل حماية ذلك المكان المقدس، ثم هبوطه من السماء – وكأنه ملاك – بالمظلة جريحا، وذلك قبل أن تظهر الحقيقة مفجرة في وجوهنا مفاجئة تقلب الأحداث والشخصيات رأساً على عقب، إذ يتضح أنه القاتل الحقيقي للبابا الذي كان في مكانة والده، وأنه فعل ذلك لأن الأخير أعطى مباركته للاكتشاف العلمي المتعلق بخلايا نشأة الكون وهو ما اعتبره أمين سر الخزانة قراراً خاطئ يضر بالكنيسة ويُضعف من قوتها ومن سيطرتها متسائلاً “إذا وافقنا على هذا الاكتشاف فماذا سيتبقى للرب”.

المونتاج فن تزييف الحقائق 

قبل توضيح الجانب الثاني لأهمية فيلم “ملائكة وشياطين” – الذي يتعلق بالتوظيف التقني خصوصا المونتاج وفن الأداء على الأخص أداء شخصيات ثلاثة هي؛ أمين سر خزانة البابا والذي قام بدوره الممثل الاسكتلندي إيوان ماكجريجور، وقائد الحرس السويسري والذي قام بدوره الممثل السويدي ستيلان سكارسجارد، وشخصية أحد الكرادلة المرشحين لمنصب البابا والذي قام بدوره الممثل الألماني ارمين مولر ستال – يتبقى لنا الإشارة إلى خطأ واضح في بداية الفيلم يتعلق بالادعاء بأن المجرمين – في إشارة إلى رجال طبقة المستنيرين – قد قتلوا العالم الجليل، صاحب فكرة الضوء المبهر الذي يمكن من خلاله تفسير خلايا نشأة الكون أو خلايا الخلق، وسرقوا عينه التي يتمكنوا عن طريق بصمتها الخروج من المعمل بالأنبوبة المحتوية على نتيجة البحث العلمي الخطير. هنا سؤال يطرح نفسه؛ إذا كان المجرم فعل ذلك حقاً ليخرج من المعمل الذي لا يمكن الدخول إليه والخروج منه إلا بشفرة العين، فكيف دخل المجرم إلى هذا الحيز ولم يكن هناك أي قتيل آخر ولم يتم الإشارة لأي خيانة من فريق البحث العلمي؟! إنها واحدة من ثغرات البناء بالفيلم إلى جانب كثرة المعلومات والأحاجي المربكة أحياناً رغم إثارتها.

مشهد من الفيلم

تتمثل قيمة المونتاج في قدرته على خلق معاني ومشاعر معينة فمن خلال وصل اللقطات الفيلمية بعضها ببعض بطريقة خلاقة يُمكن الحصول على تأثير خاص، فكل لقطة ليست مستقلة في حد ذاتها، بل يمكن تعديل معناها حسب طريقة وصلها بلقطات آخري فمثلاً عندما قام المخرج رون هاوارد بالقطع المفاجيء في بعض المشاهد وأخفى تفاصيل منها، ثم قام بوصل هذه الأجزاء واللقطات بحسب ترتيب يخالف الواقع مما جعل المتلقي يستنتج أشياءً ويصدر أحكاماً على بعض الشخصيات تختلف عن الواقع تماماً، وهذا ما يمكن تسميته بالتركيب البنائي وفق ما يرى كوليشوف والذي استفاد بودفوكين من مبادئه في المونتاج وطورها أيضاً. 

يلعب المونتاج دوراً بطولياً وجوهرياً وقد تم بناؤه فعلا بشكل خلاق خصوصا مع كثرة التفاصيل المدروسة والمغروسة في ثنايا الفيلم، فمع نهاية الأحداث أو بعد نقطة الانقلاب الدرامي نكتشف قدرة المونتاج على تزييف حقيقة بواطن الشخصيات ومشاعرها، فالمُشاهدة الثانية – لمحاولة فهم لماذا تورطنا في هذا الحكم المغلوط – تجعلنا نُعيد تفسير نظرات وإيماءات ولفتات الأبطال من دون مؤثرات، وحتى الكلمات بمختلف نبراتها يُعاد فهمها بشكل آخر – ويُعاد رؤيتها في إطارها الصحيح – فبعد الانقلاب الذي حدث في بناء السيناريو يتكشف لنا الوضع الحقيقي للشخصيات مُزيلاً الغشاوة التي وُضعت على أعين المتلقي بقصد من السيناريست في بعض الأحيان، وذلك بتوجيه الأنظار بمعلومة مراوغة أو مغلوطة يدسها أحد الأبطال أحيانا، أو عن طريق الأداء الزئبقي للشخصيات، أو عن طريق تمثيل الأداء الإنساني لطبيعة بعض الشخصيات وسماتها الشخصية مما يخلق حالة من سوء الفهم، ولكن قرب النهاية يتضح أن بعض الشخصيات ليسوا ملائكة كما تصورنا، وأن الآخرين لم يكونوا شياطين كما بدا من سلوكهم أحياناً فقد كانوا يؤدون واجبهم بحزم وصرامة لأن طبيعتهم الشخصية وواجبهم يفرض عليهم ذلك. 

ملصق فيلم "ملائكة وشياطين"

هنا، في “ملائكة وشياطين” كان إعادة ترتيب اللقطات والمشاهد في بناء خلاق يعمل على إخفاء معلومات خاصة بشخصيات كما في مشهد إخفاء قائد الحرس للمقالات مثلاً، أو في أسلوبه الجاف في التعامل مع الآخرين كما في تعامله مع عالم الرموز وزميلته وعرقلته لبحثهم لفك اللغز، أو رد فعله تجاه خطر معين كما في اكتشاف مكان إحدى الضحايا، أو في إصرار باتريك مثلاً في تقصي فكرة قتل البابا وكيف يمكن الاستدلال على ذلك وإصراره على رؤية جثة البابا للتأكد من الشكوك حول قتله مما ينفي تماماً أي شكوك تجاهه بأن يكون القاتل، أو اقتطاع أجزاء من المشاهد بحيث يبدو الجزء المفقود منها كأنه غير مؤثر ثم يتضح أنه يحتوي على كشف كارثي، أو كأن يتم تقديم جزء من مشهد بين اثنين ثم ينتقل المخرج لمشهد آخر كي يدعم إحساس ما تم بناؤه عند المتلقي بشكل خاطئ عن طريق فن الأداء، ثم يعود المخرج للمشهد الأولى فيصبح الجزء المفقود من المشهد الأول مضللا ومخادعا، كما في حالة المواجهة بين قائد الحرس السويسري وأمين سر الخزانة حيث نرى قائد الحرس يدخل إلى مكتبه والغضب والشر يغطيان ملامح وجهه بينما يغلق الباب ثم يضغط بقدمه على “الترباس” بأسفل الباب ليُحكم غلقه كأنه يستعد لقتل الأول الذي يقول له: “جئت لتجعل مني شهيداً آخر”، ثم ينتقل بنا المخرج عن طريق القطع المونتاجي لمشهد آخر لعالم الرموز وزميلته الباحثة الشابة وحديثهما عن أن حياة أمين سر الخزانة باتريك في خطر ويجريان لإنقاذه، وعندما يصلان إليه نسمع صرخات باتريك من خلف الباب المغلق وعندما يقتحمانه نراه راكعا متألماً من آثار وصمه بالصليب الساخن على صدره وقائد الحرس يصوب إليه مسدسه فيقوم الحرس بقتل القائد، إذ يتأكد الحراس – كما المتلقي – أن ريتشر قائد الحرس هو المجرم والشيطان خصوصا بعد كل ما شاهدناه من لقطات لأمين سر الخزانة وهو يبكي بملائكية ورقة وطيبة وخزن بالغ أمام ضريح البابا أو عندما كان يتحدث عن أخطاء الكنيسة في استخدام العنف ضد الطبقة المستنيرة، ودعوته لإخراج القساوسة وكل رجال الكنيسة في سلام قبل تفجير الفاتيكان، ثم يتضح أن حرب “الطبقة المستنيرة” لم يكن لها وجود وأنه تم استقدامها من التاريخ واستخدامها لخلق حالة من الترهيب والفزع لمواصلة السيطرة على العالم، ولنتأكد أن ملائكة الفاتيكان – على الأقل بالفيلم – ليسوا ملائكة وربما كانوا شياطين.