“من الأفضل أن تقفز”.. قصة سور عكا الذي أصبح متنفسها الوحيد

يستند إلى سور عكا المحاربون أيام الحرب، والقصاصون أيام السلم، كما يستند إليه المغنون وهم يرددون: “لو شربوا البحر أو هدّوا السور، لو سرقوا الهوا أو خنقوا السور، ما بيعها لعكا بالدنيا كلها، وما ببدل حارتي ولا بقصور”.

لربما قيلت هذه الأغنية مرّات عديدة منذ آلاف السنين، ولربما يقول السرد ما قيل منذ آلاف السنين إن عكا لو خافت من البحر لما جاورته، ولربما مارس أهل عكا هواية القفز عن السور عاليا باتجاه البحر منذ أزمان بعيدة.

إنها “عكو” الكنعانية الفلسطينية التي تحولت فيما بعد إلى “عكا” العربية الفلسطينية التي بقي سورها مفتاحا لرواية مدينة الصخر والبحر. هذه المرة سنشاهد عكا وأهلها في فيلم تسجيلي حول القفز إلى البحر، البحر الأبدي، لكنه هنا يحمل تعبيرا جديدا عن حالة الاختناق التي يفرضها آخر غزاة المدينة، حيث القفز من السور باتجاه بحر ضيّق، ويابسة مُهدّدة بمحو هويتها السكانية.

سور عكا.. “سنطرد العرب”

حال المدينة التي احتُلت في نكبة 1948 هو نفس حال المدن الأخرى التي دفعها الانتداب البريطاني إلى غزاة جدد استيطانيين، شعارهم ما قاله زعيمهم بن غوريون في رسالة لابنه عام 1937: سنطرد العرب وسنأخذ أرضهم.

تبدو الأرض ضيّقة، لهذا يذهب فيلم “من الأفضل أن تقفز” (2013) الذي أخرجه “باتريك ستيوارت” و”منى ستيوارت” و”جينا أنجيلوني” إلى البحر، فلم يعد لأهل عكا مكان يقصدونه كمُتنفّس سوى سورها، كما يُحاول الفيلم أن يبين بداية جميلة للبحر وأمواجه في لقطات أُخذت عن قرب، حيث تُصوّره الكاميرا من الأسفل وتدور للحصول على لقطات مميزة تشدّك كي تتابع المشاهدة.

فجأة ينقلب الإيقاع من روح القفز إلى خرائط ومُتخصص في تاريخ الحضارات يُعرّف بموقعها الجغرافي وأهميتها، فقد سَكَن هذه المدينة مسلمون ومسيحيون وبهائيون ويهود، وكانت عصية على الغزاة، وكان سورها يحميها، فكيف تُحمى الآن وقد أصبح المحتل في الداخل، واليمين الإسرائيلي يسعى لجعلها يهودية فقط؟

الكاميرا.. رقيب ثقيل

ضيوف الفيلم مثقفون ومتخصصون بعدة مجالات: مخرج وطبيبة وأستاذة لغة إنجليزية وناشطة سياسية، ومالكة مطعم وفنان تشكيلي وفنانة مسرحية وقصّاص وصّياد سمك وفتيان من هواة القفز وغيرهم. كل هؤلاء سيحكون عن سور عكا، وعن حال الناس وعيشهم في هذه المدينة.

لا أعرف لمَ كان على المخرج أن يُجمد هؤلاء الضيوف في أماكنهم طوال الوقت وهم يتكلمون، دون أن نراهم في أماكنهم العادية، سواء في عملهم أو في حياتهم اليومية وكيف يمضون نهارهم، إلا ببضع لقطات خجولة، وكأن الفيلم يُقدّم تقريرا صحفيا مع نظرة سياحية لحالات الناس، ولم تكن الكاميرا صديقة لهؤلاء الضيوف، بل كانت رقيبا ثقيلا بعض الشيء.

تحاول حكومة الاحتلال أن تُهمّش أهل عكا حتى يتركوها، وتعرض عليهم أطراف إسرائيلية شراء منازلهم بأسعار خيالية لإغرائهم، لكنهم يأبون وتلك مقاومة من نوع آخر، فهم يرفضون البيع حتى لو كانوا فقراء، وتعيش بعض العائلات منهم في غرفة واحدة وفي ظروف اقتصادية سيئة.

وما على المخرج -كما أرى- إلا أن يُترجم الكلام الذي يسمعه عن المدينة بالدخول إلى أحد البيوت وتصوير أفراد العائلة، وكأنهم في صورة تذكارية، كذلك تصويره للأحياء والجدران القديمة والحجارة.

صورة جويّة لمدينة عكا وشاطئها وسورها المشهور بالقفز منه إلى البحر

“أكره الحجارة”.. فن لا يشبه الفن

لم يبالغ أحد الأشخاص حين عبّر عن استيائه تلقائيا وقال “أكره الحجارة، إنها ليست أهم من البشر”. فهو بالطبع يُشاهد المصورين والسيّاح الآتين لرؤية التاريخ، ناسين من يُسطّره ومن يبني الحجر، ومن هو باقٍ ليحرسه، ولم يُفسح الفيلم لروح البشر أن تعبره من خلال تحركاتهم وطرق عيشهم، بل يكتفي بتصوير المدينة بلقطات جميلة من الأعلى تصلح أن تكون بطاقة معايدة.

يُذكرني هذا الفيلم بما آل إليه الفن عموما في الوقت الحالي، وعلى سبيل المثال اللوحة التشكيلية التي استلمتها مافيات صالات العرض لتحولها إلى قطعة من قطع أثاث البيت والتزيين، فلم تعد عملا فنيا يُعبّر عن البشر، حتى أنها حين تُمثل حربا أو مأساة، تكون مهندَسة وملونة بشكل مفرغ من الأحاسيس، أما في مجال الموسيقى فحدّث ولا حرج عن كلمات لا تقول شيئا، وموسيقى لا تُشبه الموسيقى.

بالعودة إلى الأفلام التسجيلية، فأخشى ما أخشاه أن تدخل في الدائرة نفسها، فهي لم تعد تسجيلية بمعنى التوثيق فحسب، بل أصبح لدى من يصنعها همّ فني بإيصال فكرته، وعسى أن ننتبه إلى أن الفني أبعد من السياحة الأفقية على المضامين. الفني موقف، تماما كما يقف الولد على ارتفاع 13 مترا فوق سور عكا ويقول بجسده شيئا.

في الفيلم تمر الطفلة مرور الكرام، أما الطفل الذي أعطى في طلّته بعضا من الطراوة للجوّ الجاف لدى الكبار، فيقول عن قفزة السور “أشعر بأنني أطير.. أشعر بالحرية”، وما إن أنهى جملته حتى قُطِعَت اللقطة بعجالة، ليتها التقطته يقفز ويطير وهو حُرّ طليق.

قفز على أنغام فيروز والثلاثي جبران

بحسب ضيوف الفيلم “ليس هناك ما يُسلّي في عكا سوى القفز”، ولا خيار غيره سوى بعض الموسيقى كما قالت مغنية للراب في ملهى ليلي، لكن مهلا ما لهذا الراب وقد انتشر بكافة الدول العربية، لا هوية ولا روح له ولا جديد أضافه؟

لكن مقابل ذلك، ثمة مجموعة من القطع الموسيقية التي رافقت الفيلم كانت حميمية، كقطعة للثلاثي جبران وقطعة لفيروز، وختامها الأحنّ بصوت المغنية الفلسطينية سناء موسى “يمّا ويل الهوى يمّا ويليا، ضرب الخناجر، ولا حكم النذل فيا”.

ينتقل الفيلم إلى الأطباق المحلية، ليتكلم الضيوف أنفسهم عن صحن الحمص، فتترجم الكاميرا الحديث ببعض مشاهد صناعة الطبق وأكله. وهنا في هذه النقطة أود أن أسأل المخرج: أما من جلسة على وجبة في مقهى أو لعائلة مع الدردشة وأصوات الأطباق، أو جلسة لصيادين يأكلون الحمص في استراحتهم في مناخ شعبي حميم؟ لم يكن هم المخرج سوى التقاط حمص غينيس، لا روح أصحابه وأكله والتلذذ به.

لا شك أن هناك لقطات جميلة يتكرر بعضها، وفي الزاوية الضيقة نفسها، وكأن المصور لم يجد سوى مكان ضيّق يقف عليه. يُظهر الكادر السور وجزءا صغيرا مبتورا من البحر، لِيُريح المشهد ببعض اللقطات للموج الذي يتقلب فيأخذه من مسافة قريبة، مع لقطات أخرى هي الأجمل لأحد السباحين داخل المياه، وقفزات متتالية لشبان صغار.

فتى من عكا يقفز عن سورها، فمن “لا يقفز من السور ليس عكاويّا” (تصوير رحمة حجة)

“من لا يقفز عن السور ليس عكاويّا”

“من لا يقفز من السور ليس عكاويّا”. هكذا يؤكد الفنان التشكيلي في الفيلم، بل إن من لم يُحسن “النطّة” فيقع على صخور البحر ويُصاب بجروح مختلفة عليه أن يُعيد الكرّة مرة ثانية، فلا بدّ من القفز من السور، فلا حدائق إلا ما يتخيله العرب هنا في هذه المساحة الضيقة، ولا هواء إلا ما يمنحه البحر القليل الباقي، كل شيء مُصادَر، ورسالة بن غوريون إلى ابنه توغل أكثر باحتلال يجلب مواطنين من كل العالم يرثون المكان بالبلطجة.

يعطي الفيلم نبذة هامة عن تاريخ عكا ومعاناة الشعب الفلسطيني منذ أن دخلها العدو الإسرائيلي، حتى لو لم يكن فيها أي إضافة، فأفلام تسجيلية عديدة قامت بذلك، وقد استعان في ذلك ببعض المشاهد الملونة بالأسود والأبيض، رغم أن المخرج حاول جعلها وكأنها صور أخذها بكاميرته، ووضعها في إطار محاولا إظهارها أكثر.

أما ألم أهل عكا فلم نشاهده إلا في حياد الكاميرا التي تهرب من إظهاره، خشية تكرار ما سبق من مشاهد للمعاناة الفلسطينية في أفلام سابقة، ناسين أن كل دمعة لا تشبه الأخرى، حين يوضع الإصبع على الجرح.

القفزات الأخيرة كانت بتقنية التصوير البطيء، وبخطف القفزات واحدة تلو الأخرى، لكننا لم نشاهد وجها منتشيا مُبللا بالمياه، ولا سمعنا صرخة في الهواء تُريح المشاهد الذي يشهق ولا يزفر، وما سمعنا لُهاثا.

تكلم معظم الضيوف باللغة الإنجليزية بطلاقة، وقد يقول المخرج إن هذا يساعد في طرح القضية لدى الأمريكيين والأوروبيين، لكنني أرى أن العالم لا يتحدث الإنجليزية، فتخيل لو أن صينيا أو يابانيا أو أفريقيا يستمع إلينا، عليهم جميعا أن يستمعوا إلى لغتنا الأم، عليهم أن يرونا أيضا ويروا أرضنا، فـ”عكو” بالكنعانية تعني “كمشة تراب”، لكننا لم نشاهد في الفيلم كمشة تراب واحدة.