“من داخل الدكتاتورية العسكرية”.. هل زعيمة ميانمار متواطئة مع جنرالاتها؟

قيس قاسم

رحب العالم بأسره بزعيمة ميانمار “أونغ سان سو تشي” لمساهمتها وشجاعتها في نقل بلادها على طريق الديمقراطية بعد نصف قرن من حكم الدكتاتورية العسكرية. ولكن لم يلبث العالم أن أُصيب بالصدمة والدهشة إزاء موقفها المساند لإبادة مسلمي الروهينغا وصمتها عن مجازر جماعية مروعة قادها الجيش بالتعاون مع متشددين بوذيين ضدهم.

لقد أظهرت وجها مختلفا عن ذلك الذي عرفه العالم، مما أثار أسئلة مُحيّرة عن الأسباب التي تدفع شخصية مثلها حاصلة على جائزة نوبل للسلام إلى الانحدار لمستوى يُلغي كل ذلك المجد الذي بَنَتهُ؛ هل هي السلطة وأطماعها يا تُرى، أم أنها دوافع أخرى؟

لتحري أسباب التغيُّر في مواقف أونغ سان سو تشي ومهادنتها للجيش الذي أجبرها على الإقامة الجبرية في منزلها عشرين عاما، راجعت المخرجة الدانماركية كارين ستوكيندال بولسن في وثائقيها المعنون “من داخل الدكتاتورية العسكرية” جوانب غير معروفة كثيرا في مسيرتها السياسية وتكوينها النفسي، اسْتَقتها من مصادر داخلية.

وتعتمد هذه المصادر بشكل رئيسي على الجنرالات الذين حكموا البلاد، وعلى سياسيين مقربين منها رافقوا مسيرتها، وعلى صحفيين مطلعين أيضا، فجاء وثائقيُّها استقصائيا تحليلا معتمدا على المحاولة الصبورة لمعرفة خفايا علاقة الزعيمة بالجنرالات، فذلك وحده ما قد يفسر صمتها إزاء ما جرى لشعب الروهينغا وقبولها بعودة العسكر لإدارة البلاد من خلف الكواليس.

تاريخ العسكرة

يتتبع الوثائقي الدانماركي الفرنسي المشترك، مسيرة المؤسسة العسكرية البورمية وسيطرة الجنرالات على مقاليد الحكم منذ عام 1962.

ويتوقف طويلا عند المرحلة الانتقالية والخطوة المهمة من تاريخ البلاد المتمثلة بقرار إجراء الانتخابات البرلمانية في مطلع العقد الأول من القرن الحالي، وصعود نجم الزعيمة أونغ سان التي وقف الشعب والعالم معها بوصفها المرأة التي عاندت مسار حكم دكتاتوري عسكري لم تعد صورته مقبولة لدى العالم.

كان من المهم أن نعرف ما فعلته المؤسسة العسكرية خلال تلك الفترة، لذا فقد ذهب فريق الوثائقي لمقابلة بعض القيادات العسكرية التي تولت إدارة الدولة حينذاك، ومن بينهم رئيس الجمهورية ثين شين الذي تولى مسؤوليته عام 2011 بعد أن خلع بدلته العسكرية واستبدلها بأخرى مدنية بيضاء.

جنرالات القمصان البيض

هكذا إذن أطلق على الجنرالات الذين غيَّروا لون بدلاتهم من الأخضر إلى الأبيض مسمى “أصحاب القمصان البيض”، فقد اتضح أن هؤلاء كانوا هم الحكام الفعليين كما تُبيَّن مسارات الحراك السياسي التي يرصدها الوثائقي من الداخل وبأدق التفاصيل.

لقد أثرت العقوبات الاقتصادية الأمريكية كثيرا على النظام العسكري الذي كان يعاني عزلة تامة، فقد كان العالم الخارجي -وبخاصة الغربي- ضده بسبب ممارساته القمعية.

وفي سبيل تجاوز تلك العقبة قرر الجنرالات تغيير صورتهم بأخرى يقبلها العالم. ولأجل ذلك فكروا في إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية من بينها السماح للمعارضة بالاشتراك في انتخابات عامة، وتولي مدنيين مسؤولية مؤسسات حكومية.

لقد ساعد وصول "أونغ سان سو تشي" للبرلمان وشخصيتها القومية على خلق قاعدة شعبية لها بين أجيال جديدة وجدوا فيها "المنقذ" من سطوة الجيش
لقد ساعد وصول “أونغ سان سو تشي” للبرلمان وشخصيتها القومية على خلق قاعدة شعبية لها بين أجيال جديدة وجدوا فيها “المنقذ” من سطوة الجيش

مسرحية بائسة

 كان ما جرى يومئذ أقرب إلى المسرحية، فأغلب قادة الحكومة التي تم تعيينها في الإصلاحات هم جنرالات في المؤسسة العسكرية التي حكمت البلاد عقودا طويلة ومنعت عنها كل تطور مدني.

لقد عسكروا في السابق النظام والمجتمع، والآن يريدون الظهور كمدنيين منفتحين على التغيير وقابلين به. والمفارقة أن كثيرا منهم -وحتى وقت توليهم المناصب المدنية- كانوا مدرجين ضمن لوائح العقوبات الأمريكية.

يصف أحد الصحفيين في ميانمار المرحلة التي حكمها الجنرالات بأنها الأسوأ في تاريخ البلاد، فقد ساد الفقر صفوف الشعب قبل العام 2010، وزاد الفساد وعاشت البلاد في عزلة خانقة.

كان من بين أكبر التحديات التي واجهت جنرالات المؤسسة العسكرية امرأة اسمها "أونغ سان"
كان من بين أكبر التحديات التي واجهت جنرالات المؤسسة العسكرية امرأة اسمها “أونغ سان”

دستور على المقاس

كان من بين أكبر التحديات التي واجهت جنرالات المؤسسة العسكرية امرأة اسمها “أونغ سان”، فقد أذاقتهم كؤوس العلقم للسماح لها بالمشاركة في الحياة السياسية التي أرادوها أن تكون شكلية خالية من المنغصات، فقد أدركوا أن الغرب لن يرضى عنهم من دونها.

وبالفعل انتصرت عليهم الزعيمة بعد مشاركتها في انتخابات 2010، لتظهر كبطلة قومية استطاعت الوصول بحزبها (الرابطة الوطنية للديمقراطية) إلى البرلمان عن طريق الانتخابات، وبحماية الدستور الجديد.

توصلت صانعة الوثائقي إلى كثير من الحقائق المهمة، مما جعل منه فيلما شديد الأهمية بسبب العناية الفائقة بالمادة البصرية المستندة طيلة الفيلم على وثائق وتسجيلات قديمة تُعزز ما فيه من معلومات تاريخية وشهادات شخصية.

ومن تلك الحقائق حقيقة تفيد بأن العملية السياسية “الديمقراطية” التي حصلت عبرها “أونغ سان” وحزبها على 8 مقاعد برلمانية فقط، رُسمت ليبقى الجيش هو صاحب الكلمة العليا فيها، وله حق إدارة البلاد فعليا، استنادا إلى نصوص دستور كُتب وفُصِّل على مقاسه.

تضمن الدستور الذي كتبه الجنرال رئيس الجمهورية ثين شين بنودا تمنع محاسبة أو استجواب أي ضابط جيش عن أي فعل ارتكبه في الماضي، وأن يتولى قادة الجيش وزارتي الداخلية والدفاع، وأن تكون ربع مقاعد البرلمان من حصتهم. والأكثر غرابة تثبيت الفقرة 59 التي تمنع تولي أونغ سان رئاسة الجمهورية في مطلق الأحوال.

لقد ساعد وصولها للبرلمان وشخصيتها القومية على خلق قاعدة شعبية لها بين أجيال جديدة وجدوا فيها “المنقذ” من سطوة الجيش. لكن المعطيات العملية لسلوكها كما يظهر من تشخيص سياسيين عملوا إلى جانبها، تفيد بأنها كانت تركز على جانب شخصي واحد يتعلق بالفقرة 59 من الدستور.

يصف أحد الصحفيين في ميانمار المرحلة التي حكمها الجنرالات بأنها الأسوأ في تاريخ البلاد
يصف أحد الصحفيين في ميانمار المرحلة التي حكمها الجنرالات بأنها الأسوأ في تاريخ البلاد

مطامع شخصية

يكشف تجاهل الزعيمة لبقية بنود الدستور التي تتعارض مع مبادئ الديمقراطية وتُعزز من سطوة الجيش؛ رغبة كامنة داخلها للاستحواذ على السلطة وترؤس أعلى هيئة فيها وهي رئاسة الجمهورية.

فأثناء الفترة التي أعقبت الانتخابات -كما يرصد الوثائقي عبر مقابلة بعض السياسيين والمحللين- لم تهاجم أونغ سان العسكر، بل ظلت تردد عبارات عامة ومقولات تفيد بأنهم يعتقدون أنهم وحدهم قادرون على ضمان وحدة البلاد، لكنها مع ذلك لم تجاهر بمواقف معارضة لطريقة إدارتهم للحكم، بل ظلت تعمل بجد ومثابرة على تغيير الفقرة الخاصة بالرئاسة.

ثمن غالٍ وصمت قاتل

يكرس الوثائقي فصلا لتعاون أونغ سان مع رئيس البرلمان شوي مان العسكري السابق الذي بدأ يعارض سلطة ذوي القمصان البيض بعد أن أبعدوه من المراكز الحساسة في الدولة وعينوه في منصب شكلي.

فقد قدمت أونغ سان لشوي مان وعودا بالحصول على مراكز جيدة في حكومتها إذا تمكن من طرح الفقرة 59 للتصويت.

أنجز شوي مان ذلك، لكنه لم يفلح في إلغاء الفقرة لمعارضة الجيش داخل البرلمان، أما ثمن حركته فقد كان غاليا، فبعد ساعات من انتهاء الاجتماع دهمت قوة من الجيش بيته وقررت إبعاده من مركزه.

ومن جانبها لم يظهر من أونغ سان أي موقف يندد بما جرى، بل التزمت الصمت وكأن شيئا لم يكن، وارتاح الجنرالات لموقفها لأنها لم تتجاوز الحدود المسموحة لها، لكن موقفها هذا كشف عن تواطئها غير المعلن مع الجنرالات.

ومن جانبها لم يظهر من أونغ سان أي موقف يندد بما جرى، بل التزمت الصمت وكأن شيئا لم يكن
لم يظهر من أونغ سان أي موقف يندد بما جرى، بل التزمت الصمت وكأن شيئا لم يكن

ضحية أخرى

جاءت انتخابات 2015 لتؤكد ذلك التعاون، فعلى الرغم من فوزها في هذه الانتخابات، فإنها لم تخطُ خطوة واحدة باتجاه تقليم أظافر الجيش الذي تراجع وترك لها المكان، لكنه ضمن تعاونها مع رئيس الأركان الذي هو عمليا بمثابة ممثل لهم وقائد فعلي للبلاد.

وتلك مفارقة أعادها الزمان مجددا، فعلى الرغم من حصول حزبها على الأغلبية داخل البرلمان في عام 2016 فإنها لم تستطِع تشكيل حكومة تترأسها بنفسها لأن الدستور يمنعها بالاسم من فعل ذلك.

لقد وجد المحامي الألمعي المسلم “كو ني” ثغرة في القانون تتيح للفائزة تعيين شخص يمثلها ويتمتع بكل صلاحيتها في حالة تعذر تسلمها الرئاسة بنفسها. وهنا عضت أونغ سان على تلك الثغرة بأنيابها “كما يمسك النمر بفريسته” على حد وصف أحد رفاقها، وراحت تعمل على أساسه، وبذلك أصبحت عمليا رئيسة الوزراء الحاكمة بصلاحيات الرئيس.

شعر الجنرالات بخطورة ما هي مُقدِمة عليه فقرروا قتل المحامي انتقاما، وهو ما كان عن طريق تكليفهم رجلا مدنيا أطلق النار عليه في الشارع. ومرة أخرى تلزم الزعيمة الصمت، فلم تحضر مراسم الدفن، ولم تلقِ كلمة رسمية، والأمرّ أنها لم تطالب بإجراء تحقيق في ظروف مقتله أو تقديم قاتله للمحاكمة، حتى إنها لم تُلمح إلى حقيقة ما جرى رغم معرفتها بهذه الحقيقة.

يقدم الوثائقي تسجيلات لخطاب رئيس الأركان "مين أونغ هلاينغ" يحيل فيه مسؤولية ما جرى للمسلمين الروهينغا إلى "إرهابيين"
يقدم الوثائقي تسجيلات لخطاب رئيس الأركان “مين أونغ هلاينغ” يحيل فيه مسؤولية ما جرى للمسلمين الروهينغا إلى “إرهابيين”

ارتياح نفسي

خلال بحثها عن الجوانب النفسية للزعيمة، تجد المخرجة كارين ستوكيندال في تاريخ عائلتها ما يشير إلى ارتياح ضمني للجيش، مرده أن والدها نفسه محرر البلاد من الاستعمار البريطاني وكان جنرالا، وقد أحيطت في طفولتها بالجنرالات من كل صوب، فلم تشعر بكراهية لهم رغم أن مجموعة منهم قاموا بقتل والدها بعد نيل الاستقلال خلال انقلاب دبروه ضده.

ربما كان الخوف بداية الأمر أحد أسباب تجنبها التصادم معهم، لكن بعد مجازر الروهينغا لم يعد ذلك السبب كافيا للصمت، فالسيدة الحاصلة على جائزة نوبل للسلام وجاءت باسم الديمقراطية والدفاع عن الشعب؛ كانت تقف في تلك اللحظة مع القاتل، بل وتبرر له فعلته.

يقدم الوثائقي تسجيلات لخطاب رئيس الأركان “مين أونغ هلاينغ” يحيل فيه مسؤولية ما جرى للمسلمين الروهينغا إلى “إرهابيين” مسلحين جاؤوا من خارج البلاد واعتدوا على شعب ميانمار، ويقصد بالإرهابيين هنا مسلمين من شعب الروهينغا المسلم الذين يعتبره البوذيون المتطرفون وقادة الجيش هجينا بنغاليا متطفلا على بلادهم.

تنصل من الواجب

لم تقُم الزعيمة السياسية بواجبها لحماية أقلية هي جزء من شعبها، ولم تدِن -حتى ولو بالكلمات- فعل الحرق والتهجير الجماعي للمسلمين، بل ابتعدت كعادتها من المشهد وقللت من شأن ما كان يجري حقيقة في إقليم راكينا من جرائم إبادة بشرية عبر دعوة منتقديها إلى “النظر إلى كل مشاكل البلاد، لا التركيز على منطقة واحدة فقط”.

وتخصص المخرجة الدانماركية فصلا من وثائقيها لتعرض فيه بشاعات ما قام به الجيش ضد مسلمي الروهينغا، وردود فعل العالم ضد ممارساته الهمجية، وردود فعله الغاضبة أيضا على موقفها المهادن للجيش، وهو ما أنهت به الفصل الأكثر مدعاة للخجل من فصول حياتها السياسية.