مهرجان سينما فلسطين بتولوز.. أفلام شابة وأفكار شابة

أسماء الغول

المتشابه بين الأفلام التي عُرضت جميعها في مهرجان "سينما فلسطين" بأنها ممتعة وحاسمة ومباشرة

بين القصة الذاتية والهمّ العام مسافات وحكايات كثيرة جعلها مجموعة من المخرجين الفلسطينيين الشباب منطقة البحث عن مواضيع وأفكار لأفلامهم التي تعتبر خطواتهم الأولى في عالم السينما كأفلام روائية قصيرة، وتجريبية أيضا.

واختار القائمون على مهرجان “سينيبالستين” أو “سينما فلسطين” في مدينة تولوز الفرنسية مجموعة من هذه الأفلام لعرضها، وذلك خلال فترة المهرجان التي امتدت من 10 وحتى 19 مارس/آذار الجاري، وكانت كالتالي: “أمبيانس” للمخرج الشاب وسام جعفري، و”منطقة ج” للمخرج الشاب صلاح أبو نعمة، و”دلة قهوة” للمخرج الشاب ثائر العزة، و”وما دخلني” للمخرج الشاب آدم خليل من مخيم اليرموك في سوريا.

والمتشابه بين هذه الأفلام جميعها أنها ممتعة وحاسمة ومباشرة، دون اللعب على الرمزية كثيرا، لكن هذا لا يعني أنها خلت من الذكاء، إضافة لكونها تجارب غضة تعكس ما تراه العين بروح أولى من الصدق والانفتاح.

يمثل الدور الرئيسي في فيلم "أمبيانس" الشاب صلاح أبو نعمة (26 عاما) الذي يبقى يجول في المخيم يحمل ميكروفونا ليلتقط الأصوات

“أمبيانس”.. حين تُصنع الموسيقى من ضوضاء المخيم

يحاول صديقان أن يسجلا مقطعا موسيقيا لحّناه في أحد مخيمات الضفة الغربية، وذلك للاشتراك بواحدة من المسابقات، لكن لأنهما يعيشان في مخيم مكتظ باللاجئين تصبح المهمة مستحيلة، فهناك أصوات العائلة، وفي حال أغلقا الباب يسمعان صوت الجارات القادم من النافذة يناقشن وصفات الأكل، وأحيانا يردّ الصديقان عليهن من النافذة.. فهذه التفاصيل كلها تأتي في مشاهد مضحكة، لكنها حقيقية للغاية في مخيم منازله متلاصقة.

ويقرر الصديقان بعد معارك مع الضجة بأنواعها أن يذهبا إلى الحلاق الذي يستضيفهما للانتهاء من مهمتهما، وهناك يسمعان عزفا على أدوات البيئة المتاحة سجلها طفل لرفاقه في المخيم، وقد شغّلها على هاتفه النقال وهو على كرسي الحلاق، وهكذا يقرران نسيان مشروعهما ويبدآن بتسجيل كل صوت في المخيم؛ السيارات والباعة الجوالة ولُعب الأطفال وشجار الجيران والعصافير، ومن هذه الضوضاء التي كانا يهربان منها يصنعان الموسيقى التي سيشاركان بها في المسابقة.

الفيلم لا يتجاوز الـ15 دقيقة لكنه بارع، فمنذ دقيقته الأولى يلعب فيه الصوت دورا رئيسيا وليس هامشيا، ليجعل من اليومي العادي شيئا غير عادي، بل قابلا للإبداع والفكاهة والتميز، وهذا كله من صنيعة المخرج الشاب وسام جعفري الذي أطلق على الفيلم اسم “أمبيانس”، أي بيئة أو محيط أو جو، وهي مفردة فرنسية.

ويمثل الدور الرئيسي في فيلم “أمبيانس” الشاب صلاح أبو نعمة (26 عاما) الذي يبقى يجول في المخيم يحمل ميكروفونا ليلتقط الأصوات، كما نراه في عمل آخر لكن بوصفه مخرجا هذه المرة لفيلم قصير بعنوان “زون سي” أو “منطقة ج”.

 

“منطقة ج”.. طفل يتصدى للمستوطنين بـ”بلايستيشن”

يعرض فيلم “زون سي” أو “منطقة ج” حكاية عائلة فلسطينية منعزلة تعيش في منزلها على تلة تقع بين مستوطنات إسرائيلية، مما يجعلها لقمة سائغة للمستوطنين الذين يهجمون على البيت بشكل دوري، لذلك يندر الشعور بالأمان عند أفراد العائلة المكونة من أب وأم وطفل، مقابل مشاعر الخوف المقيمة لديهم، إضافة إلى العتمة التي تسود منزلهم منذ أن تغيب الشمس، وذلك أنهم يتعمدون إطفاء الأنوار كي لا يسهُل استهدافهم.

هذه العائلة التي تعيش في منطقة “ج” -وهي منطقة تقع تحت سيطرة مدنية وأمنية إسرائيلية كاملة باستثناء ما تتضمنه من مدنيين فلسطينيين بحسب اتفاقية “أوسلو”- لا تيأس، بل تبدأ بمقاومة المستوطنين المتطرفين، وقد كانت تملك كلبا بوليسيا يتصدى للمعتدين قبل أن يقتلوه.

بعد ذلك قام طفل العائلة بوضع سماعات ضخمة خارج البيت بعد أن وصلها بلعبة “بلايستيشن” الحربية التي يلعبها، وفي واحدة من مرات هجوم المستوطنين على منزل العائلة الفلسطينية بدأ الطفل بإطلاق النار إلكترونيا، وهنا يركض المستوطنون ظنا منهم أن هناك هجوما مسلحا، ويقع منهم مسدس فتلتقطه الأم، وفي نهاية الفيلم نسمع طلقة واحدة لا يُعرف مصدرها.

وخلف هذا السرد الكلاسيكي لقصة تحدث كل يوم في فلسطين توجد حكاية فريدة من نوعها لكنها مُخبأة؛ إنها الحيوانات الأليفة التي يبدو أن المخرج مغرم بها، وقد استطاع أن يربط شغفه بالحيوانات بموضوع سياسي بحت عبر عين سينمائية ذكية، فالكلب الذي يحرس منزل العائلة ويقتله المستوطنون؛ يُخصص له في الفيلم (الذي يستغرق كاملا عشر دقائق) مشهد كامل لقبر الكلب وصورته مع الطفل ملصقة على شاهد قبره، وكأن هناك رسالة ما. كما نجده يلاحق سلحفاة على بُطئها تمشي بين أشجار الطبيعة الجبلية الخضراء، والتي تظهر منذ أول لقطة، مما يجعلك تأخذ نفسا عميقا قائلا حين يبدأ الفيلم؛ “هذه فلسطين”.

وتشي هذه اللقطات ليس فقط بحكاية شخصية للمخرج، بل أيضا عين سينمائية متمرسة وموهبة فذة، ويبدو أن هذه الأسباب كانت وراء استحقاقه جائزة أفضل فيلم روائي قصير في مسابقة “طائر الشمس”، والتي جاءت ضمن مهرجان أيام فلسطين السينمائية الدولي في دورته الخامسة في أكتوبر/تشرين الأول 2018 من بين عشرات الأفلام الروائية القصيرة الأخرى.

جانب من الحضور أثناء مشاهدة الأفلام في مهرجان سينما فلسطين

قصة شخصية تصنع فيلما

والتقت الجزيرة الوثائقية المخرج صلاح أبو نعمة الذي كان أحد ضيوف مهرجان “سينيبالستين”، وأوضح أن الفيلم مستوحى من قصة شخصية، فقد كان لديه كلب عاش معه عشر سنوات لكنه مات فجأة، وأراد أن يقيم له جنازة مهيبة في الفيلم تعوضه بعض الفقد، إضافة إلى محبته للحيوانات الأليفة بأنواعها.

ويضيف أبو نعمة حول الشقّ السياسي في الفيلم بأن “الفيلم يتعلق بتاريخ قريتي بتّير التي انحدر منها، ففي عام 1948 كان الجنود قد اقتربوا من القرية التي تقع على مرتفع، وقد غادرها أهلها جميعا بالفعل، لكن بقي سبعة أشخاص من عائلتي قاموا بإشعال النور في جميع المنازل، مما جعل الاحتلال يعتقد أن أهلها لم يرحلوا، فتركوها ولم يحتلوها، وعاد الأهالي بعدها إليها”.

وعن ثيمة المسدس في نهاية الفيلم وإذا ما كانت خاتمة مناسبة أم مقحمة، أجاب أبو نعمة “لا أستطيع أن أكون حياديا، فالفيلم ليس مفصولا عن الواقع السياسي، وفي النهاية الأم تريد الدفاع عن عائلتها”.

يتحدث فيلم "دلة قهوة" للمخرج الشاب ثائر العزة عن البطالة التي أغرقت سكان مخيمات الضفة الغربية

“دلة قهوة”.. عندما تكون الحياة بلون القهوة

 يتحدث فيلم “دلة قهوةللمخرج الشاب ثائر العزة عن البطالة التي أغرقت سكان مخيمات الضفة الغربية، وذلك عبر حكاية يجسدها “العم جمعة” الذي يبيع القهوة بعد أن يصنعها فجرا في “دلة” كبيرة.

جاء الفيلم غامقا كلون القهوة، فهو غير ملون، ودقائقه العشر كثير منها في الليل، إذ يبدأ “العم جمعة” يومه قبل أن يطلع الصباح ليبيع القهوة للعُمال وطلبة الجامعات وسائقي السيارات، وفي الوقت ذاته يبحث ويسأل عن عمل.

تردي الأحوال الاقتصادية جعل أصدقاء بائع القهوة مثل ظروفه، وكما يبدو فهم يتناولون القهوة من دلته بالمجان، لدرجة أن أحدهم لو غاب عن فنجان القهوة يعتقد “العم جمعة” أنه وجد عملا، فالمستغرب أن يذهب أحد الرجال إلى العمل، بينما الاعتيادي جلوسهم جميعا في الشارع.

وفي إحدى المرات تناول أحد سائقي السيارات الفاخرة فنجان قهوة “العم جمعة” أثناء مروره، وطلب منه أن يجد عُمالاً للعمل لصالحه، فرحب “العم جمعة” بذلك عارضا نفسه وبعض أصدقائه، لكنهم أثناء اتجاههم بالسيارة الفاخرة إلى مكان العمل يعرفون أن مهمتهم ستكون هدم منزل رجل يُدعى “أبو أيوب”، وقد أجبره الاحتلال الإسرائيلي على هدم منزله بنفسه.

وبعد د��ائق من الصمت تعتقد فيها أن “العم جمعة” لا إشكالية لديه في ذلك، يرتفع صوته فجأة بعصبية قائلاً “أنزلني”، وينتهي الفيلم بأن يعود لمنزله منكسر الأمل، ومعه دلة القهوة صاحبته الأُثيرة في الفيلم والحياة.

من الصعب أن يكون "العم جمعة" شيئا آخر سوى بائع قهوة مع دلته وملامح وجهه وإتقانه للدور

“أحب بيت لحم”.. أفلام روائية ووثائقية

الفيلم يجمع بين الروائي والوثائقي إلى حد ما، فمن الصعب أن يكون “العم جمعة” شيئا آخر سوى بائع قهوة مع دلته وملامح وجهه وإتقانه للدور، وهذا الأسلوب السينمائي الحداثي في جعل أصحاب المهن الحقيقية ممثلين في الفيلم، أو أهل المنطقة التي يجري فيها الفيلم من ضمن طاقم التمثيل؛ هو أسلوب عفوي وصادق، ونراه في فيلم “فرش وغطا” للمخرج أحمد عبد الله.

 إلا أن مخرجنا الشاب العزة هنا في أولى تجاربه، وقد يكون خاف أن يذهب بعيداً بالتجريب، أو ربما لم تكن هذه قصته منذ البداية ولم يكن التكنيك همه، بل مجرد فيلم قصير عن بطولة بائع قهوة رفض هدم منزل، وما أكثر هذه الأفكار في السوق المحلي الصحفي والسينمائي الفلسطيني.

وتم إنتاج هذه الأفلام الثلاثة ضمن مشروع “أحب بيت لحم” عام 2018، وذلك لتعزيز مهارات المخرجين والمخرجات الشباب وتجسيد أفكارهم وواقعهم في أفلام روائية ووثائقية، والمشروع بإشراف كلية دار الكلمة الجامعية للفنون والثقافة، وهي أول مؤسسة تعليم عال فلسطينية تركز تخصصاتها على الفنون الأدائية والمرئية، وهي المكان الذي يدرس فيه المخرجون الثلاثة.

من الصعب أن يفشل فيلم صنعه أفراد عائلة واحدة مع أصدقائهم، حتى لو كان تجربة جديدة وفيها مثالب البدايات

“ما دخلني”.. فيلم تصنعه العائلة

من الصعب أن يفشل فيلم صنعه أفراد عائلة واحدة مع أصدقائهم، حتى لو كان تجربة جديدة وفيها مثالب البدايات، فهناك من الحميمية والصدق والعفوية ما سيجعل الفيلم مختلفاً. هكذا كان فيلم “ما دخلني” للمخرج الشاب آدم خليل ابن الخمسة عشر ربيعا ونيف، والذي استقر في فرنسا بعد قدومه مع عائلته الفلسطينية من مخيم اليرموك في سوريا، حيث ولد وعاش طفولته هناك.

ويجمع الفيلم بين مسارين للقصة؛ الأول يحكي قصة سجون النظام في سوريا وتعذيب المعتقلين، والتأليب بينهم كي يقتلوا بعضهم البعض، وإجبارهم على الاعتراف بأنهم يتبعون جماعات متشددة مسلحة، والمسار الثاني يروي يوميات أحد هؤلاء المعتقلين في منزله قبل أن يحدث كل هذا، ودقائق اللعب والضحك مع زوجته وابنتيه وابنه الوحيد في الحقيقة وفي الفيلم، وهو ذاته المخرج آدم.

وهذا المعتقل يؤدي دوره الكاتب “أبو سلمى خليل” الذي كتب سيناريو الفيلم أيضا، في حين مثلت ابنته سلمى مع صديقتها “فرح أضنة لي” دورهما كشقيقتين وابنتين لأبي سلمى، إضافة إلى الإعلامية فداء حطاب التي قامت بدور الأم.

وتجري هذه الدقائق في منزل العائلة في مشاهد هادئة وبسيطة وعفوية بخلفية يغلب عليها اللون الأبيض للأثاث والستائر، إلى جانب السعادة والحديث عن الأمنيات، لكنْ تقطعُها مَشاهد المعتقل المعتمة الشديدة التراجيدية والمبالغة، مما يجعل المُتلقي يتساءل عن رابط المسارين، وهل هذه المَشاهد قبل المُعتقل أم بعده، أم أنها مجرد فانتازيا ومخيال المعتقلين؟

هذه الأسئلة والحيرة هي ذاتها قوة الفيلم، فالمخرج الشاب لم يهتم كثيرا بأن يكون ترتيب المَشاهد منطقيا ومتسلسلا، بل يجمع بينها في عناوين تظهر مكتوبة على الشاشة بين المشهد والآخر، وربما لو كانت هذه اللقطات متسلسلة يغدو فيلما تقليديا يتحدث عن عائلة عانت من النظام السوري، لكن آدم قام بالمونتاج بشكل مختلف وسوريالي (فوق الواقع) إلى حد ما.

وانتهى الفيلم بمشهد للمنزل فارغ وقد تحققت أمنيات الشقيقتين، فالغيتار الذي تمنته إحداهن يظهر على أحد المقاعد، وعلبة الألوان التي حلمت بها الأخرى تفترش أرضية الصالون، لكن البيت فارغ من الجميع ومن ضحكاتهم وأملهم بالمستقبل.

وحاول المخرج الشاب جاهدا أن يسيطر على الممثلين الكُثر في المُعتقل، لكن الأمور خرجت أحياناً من بين يديه، فلم يكن أداء الجميع بنفس القدر من الجدية والاحتراف كما كان أداء والده، ومن قام بدور الشاويش في المعتقل، وهو ممثل مسرح سابق من قطاع غزة مقيم في فرنسا اسمه درويش حمد.

أخرج آدم خليل فيلم "ما دخلني" وهو لم يتجاوز الـ16 عاما

آدم خليل.. ذكريات المخيم

وهذه الهنات لم تمنع المسرح أن يضج بالتصفيق للفيلم الذي يمتاز بالصدق من قلب شاب ودع الطفولة مؤخراً، لكنه لم يودع ذكرياته عن الثورة فسجلها في فيلم بسيط وحقيقي يحمل فكرة وجهدا من الجميع. فهناك والده الذي كتب ومثّل، وشقيقته ووالدته ميسون زعطوط التي كانت مسؤولة الأزياء والمكياج، ناهيك عن الأصدقاء الفرنسيين والسوريين والفلسطينيين الذي تبرعوا بمنازلهم وبعض من الموارد لإنجاح المشروع.

ولم يستطع البعض حبس دموعه ممن تواجدوا في عرض الفيلم، وتركزت التعليقات على الدهشة من أن الفيلم تم تصويره وتمثيله في فرنسا وليس في الشرق الأوسط، وهو ما يعني أن المخرج نجح في خلق بيئة تلائم الحكاية المأساوية لأب وابن في السجن.

ويقول المخرج الشاب آدم خليل للجزيرة الوثائقية “كان من الصعب ضبط الممثلين، خاصة أنها التجربة الأولى لهم ولي أيضا، مما جعلني أعيد التصوير عدة مرات، وتراكمت لدي ساعات من التصوير، لكن تم حل هذه المشكلة في المونتاج، وهي المنطقة التي أحب أيضاً، وكان معي أصدقاء وقفوا معي كالصديق مساعد الكاميرا عبد الله اللامي”.

ومن الواضح أن آدم رغم صغر سنه فإن لديه الكثير من الطموح السينمائي، خاصة أن هذا الفيلم اشتغل عليه منذ نحو عامين، أي حين كان في الـ13 من عمره ووسط تشجيع عائلته، وهو ما يشي بأن الذكريات الشخصية في المخيم أثرت عليه والحكايات التي رآها هناك أراد أن يتحرر منها بالتعبير السينمائي والتجريب المرئي، وهذا ما كان.