موت من أجل القصة الصحفية.. عن ثمن العمل الصحفي

يموت كثير من الصحفيين أثناء تغطيتهم الأحداث في مناطق الصراع، وتتعطل أجساد بعضهم بسبب إصابات خطيرة يتعرضون لها أثناء وجودهم فيها، إلى جانب ما تتركه مُشاهَداتهم القريبة لفظائع الحروب والكوارث من مشكلات نفسية واجتماعية معقدة.

مع كل ذلك يُصرّ كثير منهم -خاصة المراسلين الحربيين- على الذهاب إلى ساحات القتال، وذلك بقناعة أن ما يقومون به يخدم الحقيقة ويُنبّه الناس إلى ما يجري على أرض الواقع، وأن نقل الأخبار والقصص الصحفية يستحق المغامرة وتحمّل تبعاتها الثقيلة. ذلك ما يريد المخرج والمراسل الصحفي “هيرنان زِن” الحديث عنه بالتفصيل في وثائقيه المبهر “موت من أجل القصة الصحفية”.

تجربة غنية لمراسل حربي

ينطلق المخرج “هيرنان زِن” (الأرجنتيني الأصل والمُقيم في إسبانيا) في كتابة نصّه من تجربته الشخصية وخبرته مراسلا غطّى العديد من الأحداث التي جرت في أكثر من أربعين بلدا، بينها أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، مثل أفغانستان التي غطّى أحداثها لصالح صحف ووكلات إسبانية، كما زار المنطقة العربية وأنجز خلال إقامته فيها وثائقيات مهمة من بينها “مولود في غزة” عام 2014، و”مولود في سوريا” عام 2016.

تميّزت أعمال هيرنان بطابعها الإنسانيّ، وذهابه إلى تجسيد آثارها المدمرة على المشتركين فيها وعلى ضحاياها في آن واحد، وانعكس ذلك في مفتتح فيلمه. فبدلا من الشروع بنقل انطباعات وتجارب زملائه الصحفيين الإسبان في مناطق الصراع، فَضَّل نقل مشاهد صوّرها في أفغانستان أثناء وجوده هناك عام 2008، حيث يُظهر فيها جنود وحدات أمريكية وهم يطلقون قذائف مدافعهم بفرح غامر. ويُحيل تعليقه عليها إلى الفارق بين من يختار المخاطرة مثله ويدرك جسامتها وثمنها الباهظ، وبين جنود شباب لا يعرفون ماذا ينتظرهم، ويبدون وكأنهم جاؤوا في نزهة كما صُوّر لهم، لكن الموت سيُغيّر من نظرة الكثيرين منهم عندما يقابلونه وجها لوجه.

ينطلق المخرج "هيرنان زِن" في كتابة نصّه من تجربته الشخصية وخبرته مراسلا غطّى العديد من الأحداث
ينطلق المخرج “هيرنان زِن” في كتابة نصّه من تجربته الشخصية وخبرته مراسلا غطّى العديد من الأحداث

تناقضات الوعي والواقع

على فكرة “الإدراك المسبق للمخاطر” وتصادمها مع الواقع يُشَيَّد جزء مهم من السرد الحكائي للفيلم. فالوعي وحسب تجارب من شاركوا في الوثائقي من صحفيين ومراسلين حربيين لا يكفي وحده لتبديد المخاوف ولا لإزالة الإحساس بالندم في اللحظات الحاسمة التي يجد الصحفي نفسه فيها مواجها موته.

الاستعداد لمواجهة المخاطر جزء من عمل المراسل الحربي، لكن التجارب العملية كما في كثير من القصص التي ينقلها الوثائقي تقول أشياء مختلفة لها صلة بالطبيعة البشرية والتشبث بالحياة. إلى جانب ذلك هناك الكثير من النماذج والقصص التي تحكي عن بطولات فردية وتضحيات جسيمة قدمها صحفيون قربانا لمهنتهم، والتي حرص الوثائقي على تثبيتها وقياس ترددات آثارها على القريبين منهم.

المراسل "آنجلز ساستر" يحكي قصة اختطافه رهينة من قبل مسلحين متشددين في حلب
المراسل “آنجلز ساستر” يحكي قصة اختطافه رهينة من قبل مسلحين متشددين في حلب

تجارب قاسية

ينقل الوثائقي عيّنات من تجارب قاسية، فالمراسل “آنجلز ساستر” يحكي قصة اختطافه رهينة من قبل مسلحين متشددين في حلب مع اثنين من زملائه، فوصْفه لحالته النفسية خلال فترة احتجازه تقول الكثير عن تضارب المشاعر الإنسانية وطغيان التفكير بالموت لحظتها.

تجربة ثانية في حلب أيضا ينقلها زميل له يصف الخوف الذي اعتراه يوم ذهب لعمل ريبورتاج عن المسعفين المدنيين “ذوي الخوذ البيضاء”، حيث كانوا يتحركون تحت وابل القنابل دون خوف، وينتشلون أجساد المدنيين من تحت الأنقاض ويهرعون بشجاعة نادرة لنقلهم إلى سيارات الإسعاف، بينما يصف وجوده لحظتها بينهم بـ”الجنون”.

ينقل عدد من المراسلين الإسبان تجاربهم في العراق وأفغانستان والبوسنة والهرسك، لكنهم يتوقفون مليا عند التجربة السورية بوصفها الأحدث زمنيا، وتميزها بممارسات تنظيم الدولة الإسلامية المرعبة ضد الصحفيين الأجانب، مما يطرح أسئلة جديدة عن العلاقة بين المهنة ونُبل أهدافها وبين الثمن الباهظ الذي يدفعه الصحفي مقابلها.

يكاد الوثائقي يُقسّم سرده الحكائي إلى ثيمات، فكل ثيمة تأخذ شكل سؤال
يكاد الوثائقي يُقسّم سرده الحكائي إلى ثيمات، فكل ثيمة تأخذ شكل سؤال

لماذا هو وليس أنا؟

يكاد الوثائقي يُقسّم سرده الحكائي إلى ثيمات، فكل ثيمة تأخذ شكل سؤال يُعالج صانعه من خلاله جانبا محددا من جوانب بحثه الموسّع المتعلق بحياة المراسلين الحربيين في مناطق الصراعات، بينما يترك للمشاركين فيه حرية الحديث عن تجاربهم، ولتشذيبها وتقسيمها يقوم المونتاج بفصل كل موضوع على حدة، ليتمكن المتفرج من استيعاب الصورة كاملة وفهمها بشكل صحيح.

من الملاحظات اللافتة أن الخطر لا يتأتى للصحفي أو المراسل الحربي بالضرورة من الأطراف المسلحة المتصارعة فيما بينها، بل يتأتى أحيانا من المنتفعين منها؛ اللصوص وتجار الحروب. وموت الصحفي “خوليو فونتيس” مثال عليها، فقد قامت مجموعة من قُطّاع الطرق الأفغان بإيقاف السيارة التي كانت تقله مع مجموعة من المراسلين قرب مدينة جلال آباد، وأمرت بقتلهم جميعا وأخذ كل ما يملكونه من معدات.

بالنسبة للصحفيات هناك عوامل سلبية أخرى تدخل في نطاق عملهن، أكثرها كما تشي أحاديثهن أمام الكاميرا مدعاة للذكر فعل التحرش الجنسي، فوجودهن في مناطق الصراعات غالبا ما ترافقه نظرة دونية واستغراب ممزوج برغبة في التحرش بهن، وأكثر ما يؤنب ضمير الناجين عند موت زميل لهم هو ذلك السؤال المتكرر: لماذا هو وليس أنا، لماذا؟

يذهب الوثائقي لرصد الجوانب النفسية وما تتركه الحروب في دواخل من يعيش تفاصيلها المؤلمة
يذهب الوثائقي لرصد الجوانب النفسية وما تتركه الحروب في دواخل من يعيش تفاصيلها المؤلمة

آثار ما بعد الصدمة

يذهب الوثائقي لرصد الجوانب النفسية وما تتركه الحروب في دواخل من يعيش تفاصيلها المؤلمة، حيث يقابل صانع الوثائقي المبهر عددا من المراسلين الحربيين المراجعين لعيادات نفسية، والذين يخضعون لعلاج ما يُمسى بـ”آثار ما بعد الصدمة”.

بين فهم دوره وبين صعوبة تحمّل ما يراه من فظاعات يُعيد الوثائقي طرح أسئلة إشكالية عن حدود عمل الصحفي، ومتى عليه التوقف عن التدخل فيما يراه أمام عينيه، وكيف ينبغي تدريب نفسه أن يكون “محايدا” ويتعامل مع الحالات مثل طبيب معالج؟

المصور الحربي “مانو برابون” الذي صوّر القصف الوحشي الإسرائيلي على سكان غزة عام 2014؛ يعتبر ذلك مستحيلا، حيث ينقل ما انتابه من حزن وألم حين شاهد الطفلة الفلسطينية “ماريا” ممددة على سرير في مستشفى الشفاء وهي مشلولة الأطراف لا تقوى على الحركة، فيصف عجزه وانهياره أمامها بالقول “تَصوّرتها ابنتي، لم أستطع السيطرة على مشاعري، انهمرت دموعي وخرجتُ مهرولا من الغرفة”.

زميل آخر له ينقل مشاهد قصف المدنيين في حلب بـ”براميل الموت”، وسقوط امرأة حامل أمام ناظريه، وكيف ظلّ يتذكر ذلك المشهد المؤلم بعد مدة طويلة على مغادرته سوريا.

واحدة من صعوبات عمل المراسل الحربي المتأثر بما يشاهده في الحروب والكوارث تتمثل في عجزه عن التكيَّف مع الحياة الطبيعية في موطنه، فقسم كبير منهم يعاني من حالة “الخوف من الجموع”، فتراهم يختارون الانسحاب بعيدا عن الناس والميل للعزلة، بينما يحاول بعضهم فصل ما عاشه “هناك” والتوافق مع الحياة العادية “هنا”. وعلى طول الخط ثمّة أشخاص يتوافقون مع الوضع سريعا ويقررون العودة إلى ساحات القتال؛ هؤلاء يُنظر إليهم كأبطال، بينما ينظرون هم إلى أنفسهم كمحترفين يقومون بما تستلزمه مهنتهم؛ “مهنة المتاعب”.

ينقل المخرج هيرنان زِن تجارب لعبت فيها زوجات بعض الصحفيين المختطفين دورا عظيما في تقوية معنوياتهم
ينقل المخرج هيرنان زِن تجارب لعبت فيها زوجات بعض الصحفيين المختطفين دورا عظيما في تقوية معنوياتهم

الأبطال الحقيقيون.. العائلة

ميزة الوثائقي الإسباني بحثه الدؤوب في تفاصيل زوايا الموضوع المتعلق بالمراسل الحربي وتضحياته الكبيرة، وذلك من أجل الحصول على الخبر والقصة الصحفية ونقلها بصدق إلى المتلقي، والتي من بينها علاقته بأهله وعائلته، فالمراسل الصحفي يُجبَر عمليا على ترك بلاده وأهله فترات طويلة، وبما أنه ينتقل إلى مكان يحيطه الخطر فإن قلقهم عليه لا يتوقف.

لعلاقة المراسل بالعائلة يكرس الوثائقي وقتا جيدا، فيعرض كيف يؤثر موقف كل طرف فيها على الآخر، حيث يُجْمِع تقريبا كل من التقى بهم على أن البطل الحقيقي في معادلة المراسل الحربي هي عائلته، فمواقفها التضامنية والمتفهمة لما يقوم به تساعده على أداء عمله بالشكل المطلوب.

ينقل المخرج هيرنان زِن تجارب لعبت فيها زوجات بعض الصحفيين المختطفين دورا عظيما في تقوية معنوياتهم والعمل دون كلل على إطلاق سراحهم. فثمة شعار يرفعه المختطفون المُطلَق سراحهم والمُعامَلون كأبطال يتضمن المعنى العميق التالي “لسنا نحن الأبطال الحقيقيين، بل هم أهلنا، وهم من يستحق التقدير”.

يذهب الوثائقي لرصد الجوانب النفسية وما تتركه الحروب في دواخل من يعيش تفاصيلها المؤلمة
يذهب الوثائقي لرصد الجوانب النفسية وما تتركه الحروب في دواخل من يعيش تفاصيلها المؤلمة

بين الخوف والشجاعة

سرعة اتخاذ القرار والخوف هما عاملان مهمان لا يمكن لوثائقي معني بموضوع الخبر والقصة الصحفية والتضحيات الجسيمة من أجل الحصول عليها تجاهلهما، فأحاديث الصحفيين عن أنفسهم وأخطر القرارات التي تم اتخاذها في لحظات حاسمة من حياتهم العملية مُثيرة ومشوقة، فالخوف يعتبره هؤلاء واحدا من عوامل نجاتهم، ومن دونه سيندفعون ويرتكبون الأخطاء.

ولأجل تحقيق ما يصبو إليه المراسل الحربي لا بدّ من أن يقرن خوفه دوما بالشجاعة، فالخوف وحده قد يعوق صاحبه ويربكه، لكنه حينما يقترن بالشجاعة فإن إمكانيات اتخاذ القرارات الصائبة غالبا ما تكون متاحة.

في مطلق الأحوال وحسب شهادات صحفيين إسبان تبقى مفاهيم الخوف والحذر نسبية مختلفة جرعاتها بين شخص وآخر، فبينما يميل بعضهم إلى الحذر الشديد وعدم الثقة الزائدة بالمحيطين به في ساحات القتال، يعتبر قسم آخر الاندفاع شكلا من أشكال مقاومة الخوف، وبفضله يمكن الوصول إلى القصص الصعبة.

يتوقف الوثائقي عند تجربة المراسل الإسباني “إريك فراتيني” الذي أطلق عليه الفلسطينيون حين كان بينهم لقب “المجنون”، وذلك لشجاعته واقتحامه الصفوف دون خوف من أجل نقل حقيقة ما كان يقوم به الجيش الإسرائيلي من جرائم ضدهم. بينما يصف الصحفي “كارلوس هيرنانديز” الخوف في لحظات المواجهة وتأثيره في اتخاذ القرارات الصعبة بأنه “مثل المطرقة يدقّ على رأسك ويستفزك، لكنه يجنبك غالبا الوقوع في الأخطاء، فلولاه لما نجا أحد منا”.

قصة المراسل والمصور الإسباني ميغيل جيل استثنائية
قصة المراسل والمصور الإسباني ميغيل جيل استثنائية

مراسل استثنائي

على المستوى الاحترافي ظهرت في العقود الأخيرة ظاهرة المراسل “المدني” التي تَميّزت عن المراسل الحربي المحترف، ودخول أشخاص على خط نقل الخبر والقصص من قلب الأحداث من خارج المؤسسات الصحفية. هؤلاء من الناحية النظرية لا يُدرَجون في قائمة المهنيين، لكن التجارب العملية تضعهم في تلك الخانة، بل يجري التعامل معهم أحيانا من قبل المحترفين وكأن هؤلاء جزء منهم.

قصة المراسل والمصور الإسباني ميغيل جيل استثنائية، فذلك الشاب جاء لأول مرة من برشلونة إلى البوسنة على دراجة بخارية، وذلك في إطار رحلة له أراد خلالها عبور بعض أصعب جبال دول القارة الأوروبية. وأثناء تواجده هناك نشبت “حرب البلقان”، ولسرعة انتقاله كلّفته إحدى محطات التلفزة بنقل معدات التصوير والتقاط بعض الصور بكاميرته الشخصية. ومع تصاعد حرب الإبادة ضد المسلمين وصعوبة وصول الصحفيين إلى مناطقهم المحاصرة كُلّف بتصوير ما يمكن تصويره، لكن هذه المرة بكاميرا فيديو تعلّم سريعا على استخدامها.

ما نقله من مشاهد وصور وضعته بين أهم مراسلي حرب البوسنة، فتصويره مشهد ترحيل المسلمين بعربات “قطار الموت” من مناطقهم اعتُبرت واحدة من أروع الصور المعبرة التي نال عليها العديد من الجوائز الصحفية. وقد أغراه العمل الصحفي وقرر لاحقا الذهاب لتغطية حروب وصراعات في مناطق أخرى من العالم. لكنه في أفريقيا سقط مراسلا حربيا شجاعا، ومات صحفيا محترفا لم يدرس الصحافة ولا علوم الإعلام.

يطرح موت ميغيل وغيره سؤالا إشكاليا عما إذا كان نقل الخبر والقصص الصحفية يستحق كل ذلك الثمن الغالي؟
يطرح موت ميغيل وغيره سؤالا إشكاليا عما إذا كان نقل الخبر والقصص الصحفية يستحق كل ذلك الثمن الغالي؟

هل الأمر يستحق؟

يطرح موت ميغيل وغيره سؤالا إشكاليا عما إذا كان نقل الخبر والقصص الصحفية يستحق كل ذلك الثمن الغالي؟

الجواب تركه الوثائقي يأتي من الذين خاضوا التجربة بأنفسهم وعانوا الكثير من أجل الحصول عليها، فأغلبيتهم أكدوا أهمية ما يقومون به، رابطين بين عملهم وقيمته الفكرية والأخلاقية، ومعتبرين أن نقل الحقيقة مهمة نبيلة تُسهم في إيقاظ العالم لما يجري حولهم.

ففي الحروب خاصة لا يريد المتحاربون نقل ما يرتكبونه من فظاعات وجرائم، بينما يَعتبر الصحفي مهمة الكشف عنها ونقلها إلى الجمهور من بين أكثر مهامه أهمية، فعمل الصحفي في النهاية هو نقل الحقائق والوقائع إلى الناس مهما كلفه ذلك غاليا.