ميركوري 13: غزو نسائي للفضاء

عدنان حسين أحمد

لم تكن تَسمح العادات والتقاليد الاجتماعية بأن تصبح المرأة قائدة لطيّارة نفّاثة أو لمركبة فضائية لأن هذه المهنة مُقتصرة على الرجال

لا يكتفي بعض الأفلام الوثائقية الرصينة بفعل التوثيق نفسه، وإنما يتعداه إلى السرد الروائي الذي يبحث عن جماليات السينما في الفضاء الوثائقي الذي يهتمّ بالمعلومة، ويلهث خلفها بُغية الإمساك بالحقيقة أو ببعض جوانبها في الأقل. وهذا ما يحدث بالضبط في فيلم “ميركوري 13” للمُخرجَين ديفيد سنغتون وهيذر وولش. فثمة لقطات سينمائية مُبهرة يندر أن تجدها في فيلم وثائقي مثل مشهد الركض في الماء أو الحركات البهلوانية التي تقوم بها بعض النسوة الطيّارات وهنّ يقدنَ طائراتهن في أعالي السماء، وسواها من المَشاهِد الكثيرة التي يزخر بها هذا الفيلم المعبِّر الذي يناصر قضية المرأة، ويحث على مساواتها مع الرجل في كل شيء بما في ذلك قيادة المركبات الفضائية التي تستكشف الكواكب القريبة من كرتنا الأرضية.

لابد لأي فيلم، روائي أو وثائقي، من قصة يسردها على المتلقين، ومن دونها سوف يفتقر هذا الفيلم إلى الحبكة الفنية، والبناء المعماري. ويبدو أن قصة مشروع “ميركوري 13” لا تنطوي على تصعيد درامي كبير، بل هي في جوهرها لا تتعدى معلومة خبرية قد تكون عابرة مفادها: “أن أحلام مجموعة من الطيّارات الأمريكيات الماهرات قد تحطمت عام 1961 عندما طُلب منهن التنحّي جانبًا لأن الاختيار قد وقع على الرجال فقط ليصبحوا روّاد فضاء”. ولو دققنا في هذه الجملة الخبرية لوجدنا فيها أكثر من فكرة حسّاسة وأولها “التحامل”Prejudice   ونعني به التحيّز أو الظلم أو الإجحاف الذي تتعرّض له النسوة في المجتمع الأميركي في ستينيات القرن الماضي، إذ لم تَسمح العادات والتقاليد الاجتماعية آنذاك بأن تصبح المرأة قائدة لطيّارة نفّاثة أو لمركبة فضائية لأن هذه المهنة مُقتصرة على الرجال، لكن ليس كل ما يتمناه الرجال يبقى حكرًا لهم، فالمرأة منذ الأزل تبحث عن المساواة بينها وبين الرجل، وعليهما أن يتقاسما كل شيء بالعدل والإنصاف.

تتشظّى من فكرة التحامل ثيمات فرعية مثل المغامرة العلمية، والاستئثار بالأضواء، والاستمتاع، والإثارة، والشعور بالحرية، ومحاولة تغيير الرأي النمطي السائد وما إلى ذلك من أفكار لكنها تصبّ جميعًا في الثيمة الرئيسية التي بُني عليها الفيلم برمته، غير أن ذكاء المخرج ديفيد سنغتون، صاحب “في ظل القمر” و “رُهاب العدد 13″، والمخرجة هيذر وولش هو الذي سحب الفيلم إلى مدارات عالمية مثل سباق الفضاء بين الدولتين العظميين، أمريكا والاتحاد السوفييتي سابقًا، وقد تفوق هذا الأخير في أسبقية الدوران حول الكرة الأرضية، وإرسال أول امرأة إلى الفضاء الخارجي قبل أن تترجح كفّة الأميركان على غريمهم السوفييتي. تتلاقح الثيمة مع شخصيات أخرى ذائعة الصيت مثل جاكلين كوكرن، من أبرز طياري السباق في جيلها، وآيلين كولينز، قائدة رحلة الفضاء STS 93 ، وفالنتينا تريشكوفا، رائدة الفضاء الروسية وهي أول امرأة طارت في الفضاء الخارجي وحيدة من دون طاقم وسواها من الشخصيات التي أثْرت الفيلم وعمّقت أفكاره الفكرية والعلمية على حدٍ سواء.

لابد من ممهدات لهذه القصة السينمائية، فخلال الأربع عشرة دقيقة الأولى من الفيلم نتعرف على شخصيات ينتمينَ إلى الثلاث عشرة امرأة طيّارة مثل والي فانك، ريّا ولتمان، سارة راتلي، جين نورا جيسين اللواتي يتحدثنَ عن ولعهنَ بالطيران، وشغفهنَ بهذا العالم الساحر الذي خلب ألبابهن، ومنحهن نوعًا من التحرر الذي لم يشعرنَ به من قبل. ثم نتعرّف على جاكلين كوكرن، سيدة السماء الأولى التي تأخذ مساحة لا بأس بها على مدار الفيلم الذي بلغت مدته 78 دقيقة. وإذا كانت طيّارة فرنسية قد حققت رقمًا قياسيًا قدره 444 كم في الساعة فإن جاكلين كوكرن قادت طائرتها بمعدل 472كم في الساعة لتكون أسرع قائدة طيّارة بلا منازع. كما كانت تحلق بطائرة “لوكهيد لودستار”بشكل منفرد علمًا بأنها تلّقت تدريبًا مدته خمس ساعات وخمس دقائق لا غير! حاول البعض أن ينسب نجاحها كسيدة أعمال في مجالي الطيران ومستحضرات التجميل إلى زوجها المليونير فلويد بوستويك أودلم وكان ردّها المُفحم أنها أبلت بلاءً حسنًا قبل زواجها وكأنّ لسان حالها يقول بأنّ الأموال الطائلة لا علاقة لها بمواهبها الشخصية في التجارة والطيران، فهي امرأة استثنائية بوجود المال أو بغيابه. وقد شكّلت سلاح الجو النسائي للطيارات اللواتي حلّقن بمختلف أنواع الطائرات العسكرية لكنهن لم يشاركن في الحرب العالمية الثانية على الرغم من أنهن حظينَ بنفس التدريب الشاق والمُتقن الذي حظي به الرجال وقد حققن نفس معدلات السلامة التي حققها الطيارون الرجال. ومع ذلك فقد ظلت النظرة النمطية سائدة ومُهيمنة على أذهان المجتمع الأمريكي الذي يعتبره الكثيرون أنه يأتي في مقدمة الدول المتطورة في العالم.

الفيلم يحض الفتيات على دراسة العلوم والهندسة الفضائية، ويشجعهن على الالتحاق بوكالة ناسا، وأن يتدربن على كل أنواع الطائرات المدنية والعسكرية

تنبثق الثيمة الرئيسة من قصة رواد الفضاء السبعة المتشابهين في جنسهم الذكري المهيمن على أشياء كثيرة في هذه الحياة وبضمنها احتكار الريادة الفضائية حيث تتقدم 33 امرأة إلى اختبار أجراه الدكتور لافليس بعيدًا عن الجانب الرسمي لوكالة ناسا وأطلق على هذا المشروع اسم “ميركوري 13″ في إشارة واضحة إلى الثلاث عشرة امرأة طيارة اللاتي أردن أن يصبحن رائدات فضاء ولكن ينبغي عليهن اجتياز 75 اختبارًا جسديًا ونفسيًا خلال خمسة أيام. تتكون الاختبارات من ثلاث مراحل أساسية وهي على التوالي: المرحلة الأولى التي يتم فيها وضع النساء في أجواء مشابهة للفضاءالخارجي للغلاف الجوي لمعرفة ردود أفعالهن. كما يتم تعريضهن للأشعة السينية، وحقن آذانهن بالماء الساخن لقياس ردود فعل الدوار. أما المرحلة الثانية فهي مخصصة لاختبار قوتهن النفسية حيث يتم وضعهن في صهاريج التجريد الحسيّ، ووفقًا للتقارير الطبية فقد ثبت أن النساء أكثر قدرة على الصمود من الرجال الذين يخضعون لاختبارات مماثلة. وقد تفوقت جيري كوب في تحطيم الرقم القياسي واستغرقت ما مجموعه تسع ساعات ونصف الساعة في خزّان الماء، وقالت إنها استمتعت بالتجربة. فيما تقتصر المرحلة الثالثة على التدريب على الطائرات النفاثة في أماكن مُحددة في بينساكولا بفلوريدا. لم تضع المُختَبِرات الثلاث عشرة في حسبانهن أن الترتيبات المعدة ستُلغى لأن واشنطن أخبرتهم:”لسنا بحاجة إلى رائدات فضاء. انسين الأمر”! حتى أن الدكتور لافليس قد صرّح قائلاً: إنها أكبر صفعة تلقاها على وجهه.

لا يفتقر الفيلم إلى المرجعية التاريخية فالفيلم يعود بنا إلى الرئيس الأمريكي الرابع والثلاثين وايت آيزنهاور الذي سنّ قانونًا يقول:”بأن النساء اللواتي يردن الطيران بطائرة حربية يجب أن يكنّ رجالاً”. لم تكن مواقف رائدي الفضاء سكوت كاربنتر وجون غلين مناصرة للمرأة وربما يخشيان من مزاحمة المرأة لهما. كما قلبت جاكلين كوكرن ظهر المجن للنساء الطيّارات اللواتي يحلمن بقيادة المركبات الفضائية والتحليق في أعالي السماء فدفعت بهن خارج  برنامج الفضاء ويبدو أن هذه الأخيرة قد اقتنعت بما قاله جنرالات الجيش الأميركي.

وفي عام 1969 تحاول ناسا أن تسبق الروس في الوصول إلى القمر. يركز الفيلم على آيلين كولينز التي كانت تطمح لأن تكون رائدة فضاء. وبالفعل تحقق حلمها حينما سألها رائد الفضاء جون يانغ الذي سار على القمر إن كانت ما تزال تريد أن تصبح رائدة فضاء فكان ردّها بالإيجاب لكنها استفسرت: هل ستكون طيّارة أم أخصائية مهمات أخرى؟ فأثلج الردّ صدرها حينما عرفت بأنها ستجلس على مقعد القيادة وستكون أول امرأة أمريكية تطير بمكوك فضائي. ولعل كلمتها أمام الرئيس بيل كلينتون وزوجته هيلاري ما يشير صراحه إلى اعترافها بجهود النساء الأخريات حيث قالت بالحرف الواحد:” إنني لم أحقق هذا بمفردي، نساء كثيرات خلال هذا القرن حلقن قبلي في السماء بداية من أوائل طيارات الاستعراض الجوي، مرورًا بطيارات القوة الجوية في الحرب العالمية الثانية ونساء ميركوري في بداية الستينيات اللواتي خضن الاختبارات الطبية القاسية وكنّ نماذج ملهمة لي”. وحينما عادت أشادت بنساء ميركوري 13 وطلبت منهن الوقوف وبعد أن قرأت أسماءهن جميعًا قالت:” لولا ميركوري 13 لما كنت هنا اليوم”.  رسالة الفيلم واضحة لا غُبار عليها بأن آيلين كولينز هي أول قائدة تقود رحلة إلى الفضاء في التاريخ، وليس من المستبعد أن أول من يمشي على المريخ قد يكون امرأة! الفيلم يحض الفتيات على دراسة العلوم والهندسة الفضائية، ويشجعهن على الالتحاق بوكالة ناسا، وأن يتدربن على كل أنواع الطائرات المدنية والعسكرية، فلم يعد التمييز على أساس الجنس ممكنًا بعد اليوم شرط أن يأخذ كل ذي حقٍ حقه.

يحتوي الفيلم على لقطات أرشيفية كثيرة وُظفت بشكل فني دقيق أثرى هذا الفيلم الوثائقي ومنحه قدرًا كبيرًا من المصداقية. كما أن جمالية الفيلم لا تعتمد على رصانة القصة السينمائية فقط وإنما على جماليات التصوير، والمونتاج، والمؤثرات السمعية والبصرية التي نفّذها مدير التصوير نيكولاس روسي، والمونتيران ديفيد فيرهيد، وباول هولاند، إضافة إلى الموسيقى الممتعة  لفيليب شيبارد التي تناغمت مع أحداث الفيلم وساهمت في عمليات التصعيد الدرامي التي شهدناها على مدار الفيلم.