نتفليكس وأخواتها.. غول إنتاج الترفيه الإلكتروني الكاسح

مع نهاية عام وولادة عام جديد، يطيب لموقع الجزيرة الوثائقية أن يفتح ملف حصاد العام المنصرم (2019) في السينما العربية والعالمية، فيبحث  في أهم ما تناولته صالات السينما من مضامين وعروض وأفلام روائية أو وثائقية. ويبحث هذا المقال وضعية شركات إنتاج الترفيه الإلكتروني التي باتت تنافس صالات السينما بعد أن حلت محل التلفزيون التقليدي.

 

محمد موسى

قبل يومين من انقضاء عام 2019، أعلنت شركة نتفليكس عن قائمة أعمالها الحصرية الأكثر مشاهدة على خدمتها للعام الذي كان يقترب من نهايته. لم تشأ الشركة الأمريكية -التي تُهمين اليوم على مشهد الترفيه في العالم الغربي- أن تودع العام دون مفاجأة جديدة لها، فذلك الإعلان يُخالف تقاليد الشركة في تعاملها مع البيانات التي تجمعها عبر خدمتها الإلكترونية، فقد كانت نتفليكس ترفض -وإلى حدود مُبالغ فيها- الإفصاح عن أرقام مُشاهدة المحتوى الموجود على خدمتها، سواء لأعمالها الحصرية أو تلك التي تشتري حقوق عرضها.

يُمكن قراءة الكثير في قائمة نتفليكس، حيث إن الأخيرة تكشف عن أنماط وطبيعة وأساليب الأعمال الفنيّة التي تجذب الجمهور اليوم، والتي تُعرض على منصة واحدةٍ من أكبر شركات البث التدفّقي في العالم (ستريمنغ).

بيدَ أن خطوة نتفليكس بالإعلان عن هذه القائمة أمر يستدعي الكثير من الأسئلة عن حال سوق شركات الترفيه التي تبث عبر الإنترنت اليوم، والمنافسة القوية القادمة بين هذه الشركات للاستحواذ على حصص في السوق الأمريكية والأسواق العالمية.

ذلك أن نتفليكس التي كانت تتحفظ كثيراً على الإعلان عن أرقام مُشاهدة أعمالها، تشعر هي أيضاً بتغييرات السوق من حولها، كاستعداد شركات عالمية عديدة لدخول هذه السوق، أو استثمار أموال مضاعفة فيها. من هذه الشركات من دخل فعلاً في عام 2019، كما هو الحال مع شركة “أبل” التكنولوجية التي دشنت العام الماضي خدمتها (أبل تي في بلس)، وتضم مجموعة من الأعمال الفنية الحصرية، ويمكن التمتع بها مقابل اشتراك شهري، وشركة “ديزني” الأمريكية المعروفة التي وضعت أفلامها ومسلسلاتها الحصريّة في خدمة جديدة مُتوافرة منذ أشهر في الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية.

نتفليكس منذ بدايتها اختارت السرية العالية، فهي تريد أن تتحكم بالكامل في العلاقة بين ما يُعرض على خدمتها والجمهور

 

السرية العالية.. لماذا تخفي نتفليكس بياناتها؟

صحيح أن نتفليكس في إعلانها الأخير عن أفضل المسلسلات الحصرية مشاهدة، اكتفت بذكر أسماء هذه الأعمال دون تحديد عدد الذين شاهدوها، لكن هذا يُمكن أن يعتبر مقدمة فقط لتغيير قادم في تعاطي الشركة مع البيانات التي تحصل عليها، ومشاركة هذه المعلومات مع الإعلام ومع المشتركين في خدمتها. فما زالت الألغاز تحيط بالكثير مما يدور داخل نتفليكس، إذ أننا لا نعرف مثلاً (على خلاف المحتوى الذي يعرض على القنوات التلفزيونية الغربية) أرقام المشاهدة للأعمال التي تُعرض على نتفليكس (سواء التي أنتجتها الخدمة أو التي اشترت حقوق عرضها لفترات زمنية مختلفة)، ولماذا يتوقف إنتاج بعض هذه الأعمال على المنصة الإلكترونية؟ كما لا تتوافر أي معلومات عن طبيعة مشاهدي هذه الأعمال (جنسهم أو أعمارهم مثلاً).

اختارت شركة نتفليكس منذ بداية انطلاقها أن تحمي بياناتها بحرص كبير للغاية، فهي تريد أن تتحكم بالكامل في العلاقة بين ما يُعرض على خدمتها والجمهور، لما لهذه العلاقة من تبعات إستراتيجية على صعيد السياسات الإنتاجية للشركة. ويُمكن للشركة اليوم أن تجرب مع بعض الأعمال التي تنتجها ولا تضطر لإيقافها بسبب الضغط الإعلامي الذي يُمكن أن ينشأ بسبب الإقبال الضعيف على مشاهدة هذه الأعمال، كما يُمكن أن يؤثر نشر أي بيانات في الإعلام على شهية جمهور كبير لمشاهدة هذه الأعمال من الذي يتابع هذه التفاصيل على الصحف والمواقع الإلكترونية، أو على مواقع التواصل الاجتماعي التي تنشر صفحات فيه أخبار مسلسلات وأفلام الجمهور المفضلة.

علينا أن لا ننسى أن خطوة نتفليكس في الإبقاء على بياناتها سرية يرجع أيضاً إلى القيمة الكبيرة التي تنطوي عليها البيانات من كل الأنواع في السنوات الأخيرة، فهذه البيانات تحولت إلى القيمة الأكثر أهمية في عصر التنافس الرقمي الذي نعيشه، وتتصارع في سبيل الحصول عليها شركات من كل الأنواع من غوغل وفيسبوك إلى أبل وغيرها، فجميع هذه الشركات -التي تستحوذ على القسط الأكبر من وقتنا على الإنترنت- ترغب في معرفة كل شيء عنا: من نحن وماذا نحب وبم نتأثر، حتى تُعد سياسات إعلانية تناسب كل واحد منا.

بطلا فيلم “لغز القتل” الذي حصل على المركز الأول في قائمة أعمال نتفليكس الأكثر مشاهدة لعام 2019

 

لغة الأرقام.. قرصة أذن لصالة السينما التجارية

لم يكن إعلان نتفليكس لأكثر أعمالها الحصرية مشاهدة لعام 2019 الأول في العام المنصرم الذي يكشف تفاصيل داخلية للشركة، فقد كانت أعلنت في أوقات سابقة من العام الماضي عن أرقام المشاهدة لبعض أفلامها الحصرية التي عُرضت على الخدمة. حيث حصل فيلمها “لغز القتل” على 31 مليون مشاهدة في الأيام الثلاثة الأولى من عرضه على الخدمة، متفوقاً على فيلم “بيرد بوكس” الذي حصد 45 مليون مشاهدة في الأسبوع الأول من عرضه على الخدمة، أما فيلم المخرج الكبير “مارتن سكورسيزي” “الإيرلندي” فقد شوهد 26.4 مليون مرة حول العالم في الأسبوع الأول من توفره على خدمة نتفليكس.

والحال أنه يُمكن تفسير إعلان نتفليكس عن أرقام مشاهدة بعض أفلامها الحصرية بأنه جزء من سياسة الترويج الإعلامية للشركة عبر الاحتفال بأرقام تُظهر تفوق نتفليكس في كسب جمهور هائل لبعض أعمالها عند عرضها الأول. كما أن الأمر فيه مشاكسة مبطنة لأستوديوهات السينما في الولايات المتحدة التي تخوض معها سباقاً محتدماً، حيث يتفوق عدد مشاهدي أفلام نتفليكس اليوم على ما يُمكن أن يحصل عليه أي فيلم هوليودي كبير عندما يُعرض في الصالات السينمائية التجارية في الولايات المتحدة.

في السياق نفسه، يُمكن اعتبار الإعلان عن عدد مشاهدي بعض أفلام نتفليكس بأنه دعاية لخط إنتاج الأفلام السينمائية في الشركة -الذي تعزز في عام 2019- عبر عرض مجموعة من الأفلام السينمائية الكبيرة، بعد أن كانت الشركة تركز في السابق على إنتاج المسلسلات التلفزيونية.

كما أن نتفليكس تخطط لطرح فيلم جديد كل شهر أو كل أسبوع، وسيكون توقيت وضعه على الخدمة في عطلة نهاية الأسبوع، أي الوقت الأمثل للكثيرين للذهاب إلى الصالات السينمائية، ليزيد هذا من الضغط على شركات الإنتاج السينمائية التي تحاول جاهدة الإبقاء على تقاليد المشاهدة في الصالات السينمائية.

في هولندا
في هولندا يقضي المتفرج وقته في مشاهدة البرامج الترفيهية التي يحصل عليها عبر شركات الستريمنغ المدفوعة الثمن

 

في هولندا.. الإنترنت يتغلب على التلفزيون

كشف استطلاع لمؤسسة “ملتي سكوب” (Multiscope) البحثية الهولندية في عام 2019، تفوّق الإنترنت على التلفاز في استحواذه على الوقت الأطول أمام الشاشات. وهذه هي المرة الأولى التي يتفوق فيها الإنترنت على المشاهدة التقليدية للتلفاز في البلد الأوروبي الذي يُعدّ نموذجا مثاليا للدراسة بسبب طبيعته السكانية، وجودة وتنوع صناعته التلفزيونية، حيث تأتي هولندا في المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في تصدير الفورمات التلفزيوني في العالم.

وبيَّن الاستطلاع الذي اعتمد على عينة تتألف من 3600 شخص، أن 27% من الوقت الذي يقضيه المتفرج على الشاشات بكل أنواعها يذهب في مشاهدة البرامج الترفيهية التي يحصل عليها عبر شركات الستريمنغ المدفوعة الثمن (نتفليكس أو غيرها من شركات تزويد المحتوى الفنيّ عبر الإنترنت)، و24% من الوقت في المشاهدة التقليدية للتلفاز، أما الوقت الباقي فيتوزع على النحو التالي: 19% في متابعة مواقع التواصل الاجتماعي، و12% للاستماع للموسيقى التي تبث عبر الإنترنت، و8% لمتابعة المواقع الإخبارية الإلكترونية، و8% للألعاب الإلكترونية، و2% لقراءة الكتب الإلكترونية.

ولعل واحدا من التفاصيل المُقلقة للمؤسسات التلفزيونية التقليدية التي كشفها الاستطلاع المذكور، أن هولندياً من كل خمسة أشخاص من الذين شملهم الاستطلاع يُفكر جدياً بإلغاء اشتراكه في شركات الكيبل التلفزيونية التي تجهز خدمة التلفزيون في هولندا، وتوقع 18% من الذين شملهم الاستطلاع بأنهم سيشاهدون تلفزيوناً أقل في السنة القادمة، في حين أعرب 4% من المشتركين بأنهم سينقطعون تماماً عن مشاهدة التلفزيون التقليدي.

أما بالنسبة للميزانيات المخصصة لإنتاج المواد الترفيهية في هولندا ذاتها، فما زال التلفزيون يستأثر بحصة تُقارب النصف من هذه الميزانيات، فوفقا لتوقعات مركز “ماغنا غلوبل” (MAGNA Global) البحثي الأمريكي، سيبلغ الإنفاق الكلي على الإعلام عام 2020 في هولندا 4 مليارات يورو؛ يذهب 2.1 مليار يورو منها إلى الإعلام الرقمي، والباقي للتلفزيون.

ومن الجدير بالذكر أن أكثر من نصف ميزانية الإعلام الرقمي في هولندا (1.1 مليار يورو)، ستستحوذ عليه منصات إعلامية مخصصة للهواتف الذكية، وذلك في تأكيد جديد على أهمية هذه الهواتف اليوم كوسيلة نتلقى عبرها الترفيه والمعلومات، كما بيَّنت عدة استطلاعات في دول أوروبية عدة.

طرق الدفع المصرفية تشكل عائقا أمام الكثير من سكان الدول العربية للاشتراك في شركات الإنترنت

 

الدول العربية.. واقع يعوق نمو شركات الترفيه الإلكتروني

على صعيد العالم العربي، لم يكن 2019 عاماً استثنائياً لجهة الحصول على معلومات تُبيّن علاقة المشاهد العربي بمنصات المشاهدة الرقمية الغربية، فما زلنا نتخبط في الظلام بالنسبة إلى شعبية هذه المنصات أو تأثيرها على ذائقة هذا المشاهد، إذ لم تصدر في عام 2019 أي إحصائيات من شركات الترفيه الإلكترونية الغربية تتعلق بالعالم العربي، كما لم تصدر أي بحوث مستقلة في العالم العربي عن علاقة المشاهد العربي بالمنصات الرقميّة الحديثة.

بيد أن الأمر الوحيد الذي يُمكن الاتفاق عليه أن الوضع الاقتصادي لسكان معظم الدول العربية لم يشهد تغييرات تذكر في العام الماضي، بل ربما ازداد سوءاً في بعض الدول، وما لذلك من انعكاس على المبالغ التي يصرفها الفرد العربي في شراء الترفيه من المنصات الإلكترونية الأجنبية. وهذه الظروف تقود سريعاً إلى افتراض أن معظم أعمال شركات البث التدفّقي الغربية يتم تداولها عن طريق القرصنة الإلكترونية (كما هو الحال منذ سنوات مع الأفلام السينمائية والمسلسلات الغربية من كل الأنواع)، وهذا بالطبع مع استثناءات قليلة كما هو الحال في بعض دول الخليج الغنية، وطبقات اجتماعية محدودة في الدول العربية.

يشترط نظام الدفع المالي للاشتراكات الشهرية لشركات مثل نتفليكس (الدفع يجري بالبطاقات البنكية أو عن طريق نظام باي بال الذي تملكه شركة غوغل) توفر بنية مصرفية تحتية هي اليوم ضعيفة أو هامشية في الكثير من الدول العربية، وهذا يُشكّل أحد محددات انتشار شركات الترفيه الإلكترونية الغربية في العالم العربي. فدول معروفة بكثافتها السكانية مثل مصر والمغرب والسودان وغيرها، تعاني من نسب مُتدنية لحاملي البطاقات المصرفية مقارنة بعدد السكان (نصف المصريين لا يملكون حساباً مصرفياً وفق تقرير البنك الدولي الذي نشرته جريدة المال المصرية في 17 سبتمبر/أيلول 2019).

في موازاة الجانب الاقتصادي المُتردّي وغياب البُنى المصرفية التحتية، ما زال العالم العربي -حاله حال الكثير من الدول في العالم- يعاني من صعوبة التخلص من تقاليد الفرجة المجانية التي تعوّد عليها منذ بدء تعرفه على وسائل الإعلام وحتى اليوم، فالانتقال من حقبة التلفزيونات الوطنية قبل الثورة التكنولوجية إلى عصر الفضائيات لم يصاحبه تحول لجهة الدفع المالي مقابل المادة الترفيهية التي نحصل عليها في العالم العربي.

ولم تشترط معظم الفضائيات مبالغ مالية مقابل التمتع بما تقدمه من مواد ترفيهية أو تعليمية، واكتفت بالنموذج الاقتصادي الذي يقوم على جني العائدات من الإعلانات التجارية، في حين تمتعت فضائيات عديدة بالدعم السخي الذي تقدمه حكوماتها. أما النموذج العربي المتواضع الذي يشترط دفع اشتراكات شهرية مقابل المشاهدة فعانى منذ البداية من مشاكل كبيرة، ولم يتحول إلى ظاهرة أو تقليد إلا في حدود ضيقة جدا.

مجموعة من المسلسلات العربية التي تُعرض على منصة “شاهد” السعودية

 

“شاهد”.. منصة عربية يتيمة

في مقابل نتفليكس ونظيراتها التي تحجز اليوم مكانة عند المُشاهد العربي، شَكَّلت تجربة منصة “شاهد”، بشقيها المجاني أو الذي يشترط اشتراكات مالية شهرية (شاهد بلس)، تجربة عربية وحيدة في عالم الترفيه الرقمي المدفوع الثمن (هناك أيضاً مشروع “واتش إت” الحكومي المصري الذي انطلق العام الماضي وعانى منذ تدشينه من مشاكل تقنية جمَّة).

تستند خدمة “شاهد” على التجربة الطويلة لقنوات “أم بي سي” السعودية في التمويل، وهو الأمر الذي يمنحها المادة الترفيهية التي تبثها والقدرة على التجربة والاستمرار والتطوير.

كما أن خدمة “شاهد” أعدت العدة أيضاً لدخول عالم إنتاج المواد الحصرية الخاصة كما أعلنت في منتصف العام الماضي، وستُعرض الأعمال الحصرية القادمة لـ”شاهد” على الخدمة الإلكترونية فقط، ولن تمرّ على أي من قنوات المؤسسة السعودية.

وبغياب الإحصاءات المُستقلة عن أرقام المشاهدة لخدمة شاهد في الشرق الأوسط وخارجه، علينا أن نقبل مؤقتاً بالأرقام التي تصدرها المؤسسة السعودية بين الفينة والأخرى، فوفق بيان صدر عن المؤسسة في منتصف 2019، ارتفع عدد المشتركين بخدمة “شاهد” المجانية والمدفوعة في نهاية شهر رمضان الماضي بنسبة 23% عن العام 2018، ليصل إلى 27 مليون مشترك. فيما بلغ عدد المشاهدات للمواد المعروضة على خدمة شاهد المجانية والمدفوعة 248 مليون مشاهدة، وهو ما سجّل نموّاً يبلغ 46% عن عام 2018 بالنسبة إلى خدمة شاهد المجانية، و62% زيادة بالنسبة لخدمة شاهد المدفوعة.

وإذا صحت الأرقام التي ذكرتها الشركة الإعلامية السعودية، فإنها تكون حققت قفزة مهمة على كل المنافسين الدوليين الحالين أو القادمين في المستقبل.

تملك خدمة “شاهد” قاعدة عريضة من الجمهور الذي يفضل مشاهدة المواد الترفيهية العربية (معظم ما يتوفر على “شاهد” هو عربي المحتوى)، كما أن الشركة سهلت -على خلاف نتفليكس- طرق الدفع لاشتراكاتها الشهرية، إذ يمكن تسديد القسط الشهري لخدمتها “شاهد بلس” عن طريق البطاقات البنكية أو الهواتف النقالة، والأخيرة وسيلة دفع لها شعبية كبيرة في الدول العربية.

ليس معروفا ما إذا كان التنافس بين نتفليكس وشاهد سيكون له نتائج كبيرة على مستوى وطبيعة المواد الفنية الترفيهية التي سيشاهدها المشاهد العربي في المستقبل، سواء المواد الأجنبية التي تعرضها نتفليكس (نتفليكس تنتج وتعرض أعمالاً فنيّة عربية أيضاً)، أو العربية التي توفرها “شاهد”.

بيد أن هناك إشارات في صفحات عربية على شبكة الإنترنت تشير إلى شعبية كبيرة لنتفليكس، فالإعلان باللغة العربية على موقع يوتيوب لموسم جديد لمسلسل شعبي يُعرض على نتفليكس مثلاً؛ يحصد أرقام مشاهدة عالية جدا، والنقاش باللغة العربية يكون حامياً على مواقع التواصل الاجتماعي عند التطرق لواحد من الأعمال الحصرية التي تعرضها نتفليكس.

تطبيق “تي في تايم” الذي يسجل فيه المشتركون الأعمال التي شاهدوها

 

التلفزيون الغربي.. تعذر وجود إحصاءات دقيقة

الواقع أنه وبسبب تعقيد المشهد التلفزيوني الغربي وتعدد منصات العرض؛ أصبح من الصعب كثيراً تحديد عدد المشاهدين، فشركات الإحصاء الغربية لحساب أعداد المشاهدين في العالم الغربي ما زالت تحاول أن تجد وسائل جديدة تتناسب مع تعقيد المشهد الإعلامي اليوم.

كما لم تعد المشاهد الحيّة هي السائدة اليوم، فمعظم ما يتم مشاهدته في العالم الغربي يكون عن طرق خدمة المشاهدة حسب الطلب، والمحتوى التلفزيوني يُشاهد غالباً بعد ساعات أو أيام من عرضه الحيّ، وهو الأمر الذي لم يعد يقتصر على شركات الترفيه الإلكترونية التي تملك هذه الإمكانيات، إذ إن معظم شركات تجهيز الكيبل التلفزيوني الغربية توفر هذه الإمكانية للمشتركين عن طريق أجهزة إلكترونية خاصة.

ومن أجل الإلمام بالمشهد التلفزيوني الغربي، لا يُمكن الاستغناء اليوم عن بيانات البرامج التطبيقية التي تُنصب على الهواتف الذكية وتسجل عادات المشاهدة التلفزيونية للراغبين، مثل برنامج “تي في تايم” الشعبي الذي يسجل المشتركون فيه أسماء البرامج التلفزيونية التي شاهدوها، فقد تحولت البيانات التي تعلنها الشركات المالكة لهذه البرامج من الأهمية بمكان للمهتمين بعالم التلفزيون، حتى إن العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية صارت تهتم وتعتمد على هذه البيانات، وتفرد مساحة لها جنباً إلى جنب مع حسابات شركات الإحصاء المتخصصة، أو البيانات التي تعلنها القنوات التلفزيونية نفسها.

 

“الأصدقاء”.. مسلسلات قديمة في الصدارة

تُظهر القائمة التي أصدرتها الشركة المالكة لتطبيق “تي في تايم” في عام 2019؛ تفوّق مسلسلات غير متوقعة، بعضها قديم جدا مثل مسلسل الأصدقاء (فريندز) الذي جاء في المركز الثاني في القائمة (مُتوفر على خدمة نتفليكس)، فيما جاء في المركز الأول مسلسل “لوسفير” (Lucifer) الذي لا يتميز -رغم الجرعة الترفيهية فيه- بعناصر تجديدية خاصة. وكذا الحال مع مسلسل “غريس أناتومي” (Grey’s Anatomy) الذي يقدم يوميات العمل في مستشفى أمريكي.

وما يُميز الأعمال التي احتلت المراتب العشر الأولى في القائمة (ما عدا مسلسل “لعبة العروش” الذي جاء في المركز السادس)، هو جودة العناصر الأساسية التي تقوم عليها، بيد أن هذه الأعمال لم تجتهد في المواسم الكثيرة التي أعقبت المواسم الأولى منها على تجديد هذه العناصر.

ومن جهتها فإن منصة “ريلغود” (reelgood) التي تجمع العديد من شركات تجهيز الترفيه الإلكترونية في موقع واحد حيث يمكن الاستمتاع بكل المحتوى الذي تقدمه الشركات دون الحاجة إلى تسجيل الدخول في كل شركة على حدة؛ أصدرت هي الأخرى إحصاءات العام الماضي (2019)، فاحتل مسلسل قناة “أتش بي أو” “واتشمان” (Watchmen) الصدارة في قائمة أكثر المسلسلات مشاهدة على هذه المنصة.

وجاء في المركز الثاني والخامس مسلسلا نتفليكس “العيش مع نفسك” (Living with Yourself) و”بيغ ماوث” (Big Mouth)، وفي المركز الثالث والرابع مسلسلا “المكان الجيد” (The Good Place) من إنتاج قناة أن بي سي الأمريكية و”باتومن” (Batwoman) من إنتاج قناة “ذي سي في” الأمريكية. والملاحظ أن مسلسلين فقط من مسلسلات نتفليكس حظيا بمواقع ضمن أكثر خمسة مسلسلات مشاهدة على منصة “ريلغود”.

 

الأعمال التلفزيونية.. انفجار غير مسبوق

يُقدّر عدد الأعمال الفنية التلفزيونية التي عُرضت العام الفائت في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها ما بين 500 و600 عمل جديد (وفق موقع قناة إف إكس الأمريكية)، بزيادة 90% عن عام 2011. ويقف وراء هذا الانفجار التلفزيوني شركات تجهيز المحتوي الترفيهي نتفليكس وأمازون وهولو وغيرها، والتي تعرف أن الصراع على القمة يكون عبر الإنتاج الحصري، حيث إن الإنتاج الحصري وحده القادر على جذب المشترك إلى هذه الخدمة أو تلك.

لم تكتفِ شركات الإنترنت بإنتاج المحتوى الغربي، إذا أنها -وبخاصة نتفليكس وأمازون- تتوجه اليوم إلى الأسواق العالمية مُقدمة أعمالاً باللغات المحلية لهذه الأسواق ومنها السوق العربية، حيث قدمت نتفليكس في عام 2019 أعمالاً حصرية خاصة للمتحدثين بالعربية.

وشهد العام الماضي عرض مجموعة من الأعمال الكبيرة والمُثيرة للجدل، أهمها مسلسلات لقناة “أتش بي أو” الأمريكية التي ما زالت الأولى على صعيد التجريب وتقديم الأعمال المُتقنة والرصينة، فقد عُرض العام الماضي للقناة مسلسل “تشرنوبل” الذي حظي بأهم تقدير نقدي لمسلسل في السنوات الأخيرة. وفي خريف العام الماضي عرضت القناة الأمريكية ذاتها مسلسل “واتشمان” الغريب الأجواء والشديد العنف، وعلى رغم أنه يستند إلى قصة مصورة، فإنه يُقارب الكثير من القضايا الإشكاليّة الشديدة الحساسية في الولايات المتحدة، وبالتحديد العلاقات العرقية المُتوترة في البلد في السنوات الأخيرة.

كما ودّعنا في العام الماضي مسلسلات كبيرة، أهمها “لعبة العروش”؛ جوهرة مسلسلات قناة “أتش بي أو” الأمريكية الذي وصل إلى نهاية الطريق، لكن مع وعود بإنتاج عدة مسلسلات تتابع مصائر بعض الشخصيات في المسلسل.

ومن المسلسلات المعروفة التي شهدت في العام الماضي نهاية آخر مواسمها: “البرتقالي هو الأسود الجديد” و”بيغ بانغ ثييري” و”هوملاند” و”فيب” و”مستر روبرت” و”جين ذي فيرجن” و”ذي ديوس” و”إلمنتري” و”ذي إكس غيلفريند” و”شي آفير”.

 

“سر الجريمة”.. الأفلام تتفوق

وبالعودة إلى قائمة شركة نتفليكس التي أصدرتها في نهاية العام وتضمنت أكثر الأعمال الحصرية مشاهدة على الخدمة، تصدّر فيلم “سرّ الجريمة” جميع الأعمال التلفزيونية والسينمائية على حد سواء. ويجمع الفيلم بين الكوميديا والجريمة في قصة مشوقة عن مقتل رجل غني على باخرته، والبحث بعدها عن القاتل بين الأقارب والأصدقاء الذين كانوا على الباخرة وقتها.

وحلَّ مسلسل “أشياء غريبة” في المرتبة الثانية من القائمة، وبعدها فيلم “6 أندرغراوند” (6 Underground)، وفي المرتبة الرابعة فيلم التحريك “ذي إنكريديبلز 2” (The Incredibles 2)، فيما جاء فيلم “الإيرلندي” في المرتبة الخامسة رغم أن عروض الفيلم بدأت في الأول من شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، أي أنه حقق في شهرين من وضعه على الخدمة عدد مشاهدات تفوق أفلاما ومسلسلات مُتوافرة على الخدمة منذ أشهر عديدة.

اللافت في قائمة نتفليكس لأفضل عشرة مسلسلات مشاهدة على خدمتها هو خلوها من مسلسلها “التاج” الذي يُعد أكثر المسلسلات كلفة في تاريخ الإنتاج التلفزيوني (يقال إن ميزانيته زادت عن 200 مليون دولار للموسم الواحد)، الأمر الذي يشكك في مستقبل هذا المسلسل على الخدمة، إذ من المعروف عن نتفليكس حزمها الشديد مع الأعمال التي تفشل في جذب العدد المتوقع لها من المشاهدة، حتى لو عنى ذلك التخلي عن مسلسل مثل “التاج” الذي حصل على جوائز عديدة في الأعوام الأربعة الأخيرة.

لم تهيمن مسلسلات الأجزاء لنتفليكس من التي حصلت على شهرة في الأعوام الأخيرة؛ على قائمتها لأفضل المسلسلات مشاهدة في 2019، فقد وصل إلى القائمة مسلسلات أُنتجت العام الماضي ووصلت إلى الخدمة في أشهر مُتأخرة من السنة، مثل المسلسل البوليسي “لا يصدق” الذي حلّ في المركز السابع، وتضطلع ببطولة هذا المسلسل سيدتان تحققان في مجموعة من جرائم الاغتصاب التي يرتكبها مجرم شديد الحذر.

كما حقق المسلسل القصير القوي “عندما يروننا” المركز السادس في القائمة. ويستعيد المسلسل حادثة اغتصاب هزَّت مدينة نيويورك في نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، وأُدين فيها خمسة مراهقين سود، ليتبين بعدها أنهم أبرياء. لم تكن الحادثة عادية في تاريخ نيويورك، حيث إنها عكست الاحتقان العرقي في المدينة، وكشفت عن قسوة لافتة لـ”دونالد ترامب” الذي كان وقتها من أشد الداعين لمحاكمة سريعة وعقاب قاس للمراهقين السود المتهمين.

وحجزت مسلسلات متوجهة للشباب على مكانة في قائمة نتفليكس لأكثر المسلسلات مشاهدة العام الماضي، في تأكيد لشعبية الخدمة لدى فئات المراهقين والشباب. فقد حلّ مسلسل “التربية الجنسية” في المرتبة الثامنة في القائمة، ويُركز المسلسل على أسئلة الجنس والحب في مدرسة بريطانية.

وفي المرتبة التاسعة في القائمة جاء الموسم الثالث من مسلسل “13 سببا”، الذي تدور أحداثه أيضا في مدرسة ثانوية، لكن في الولايات المتحدة هذه المرة، ويغوص المسلسل في موضوعات قتل النفس الحساسة، إذ يستعيد حياة ويوميات طالبة نعرف في بداية المسلسل أنها انتحرت وتركت خلفها مجموعة من أشرطة الكاسيت التي سجلت عليها حياتها، والأسباب التي دفعتها للانتحار.

 

مسلسلات عربية في نتفليكس.. خيبة أمل كبيرة

للمرة الأولى في تاريخ علاقة التلفزيون الغربي بالمشاهد العربي، طرحت شركة نتفليكس في عام 2019 مسلسلين عربيين من إنتاجها وتتوجه بهما للمشاهد العربي على وجه الخصوص. وهناك خطط لإنتاج مجموعة جديدة من الأعمال في الفترة القادمة.

والمسلسلان هما “جن” الذي تدور أحداثه في الأردن عن مجموعة طلاب مدرسة إعدادية يتعرضون لحوادث غريبة لا يمكن تفسيرها، والمسلسل الكوميدي اللبناني “دولار” عن قصة صراع تغلب عليه الكوميديا بين رجل وامرأة للظفر بمبلغ مليون دولار، لكن من أجل الحصول عليه يجب عليهم أولاً تعقب ورقة دولار معينة، وهذا يقود في كل حلقة إلى مجموعة من المواقف الكوميدية.

نال مسلسل “جن” على قسط وافر من النقد الأخلاقي بسبب كلمات السباب النابية فيه، والتي لم يعتد عليها المشاهد العربي في المسلسلات العربية التي يشاهدها. كما تضمن المسلسل مشاهد حميمية بين أبطال العمل تعرضت بدورها إلى نقد قاسٍ من الإعلام العربي والأردني على وجه الخصوص. بينما مرَّ عرض مسلسل “دولار” دون أن يثير الكثير من الضجيج لعادية مستواه، وترهله الذي جاء سريعاً، وبعد حلقات قليلة فقط.

خيب المسلسلان العربيان لنتفليكس توقعات الجمهور والمختصين من الذين كانوا ينتظرون الكثير من دخول الشركة الأمريكية السوق العربية، فمسلسل “جن”، وبعيداً عن النقد الأخلاقي الذي تعرض له، كان بعيداً بمناخاته وأجوائه عن البيئة التي تدور قصصه فيه، كما أن اختيار ممثلين عرب يعيشون في دول غربية للقيام بالبطولة في المسلسل؛ وبعضهم لا يجيد اللغة العربية جيداً، وعدم تجانس شريط الصوت والصورة أحياناً في المسلسل.. كل ذلك ساهم في تغريبه، حتى بدا وكأنه واحد من المسلسلات المدبلجة التركية التي تُعرض على كثير من الشاشات العربية.

وعلى الرغم من أنه لا إشارات على انسحاب نتفليكس من سوق إنتاج الأعمال الفنيّة الحصرية باللغة العربية، فإن الشركة تحتاج لأن تعيد ترتيب خططها، وأن لا تنجرّ سريعاً إلى التعاون مع أسماء عربية مُكرسة، بل ينبغي عليها أن تبحث في الهوامش عن أسماء جديدة قادرة على بث دماء حيوية في الأعمال العربية التي تُنتج لنتفليكس، وهي الشركة التي يُمكن أن تستأثر بمكانة غير مسبوقة في عالم الترفيه العربي، إذ أنها غير معنية بقوانين الرقابات العربية المعقدة التي تُعرقل مشاريع معظم المؤسسات الفنيّة العربية، وقادرة بيسر على الوصول إلى ملايين المشاهدين العرب والتأثير فيهم.