“نحن من هناك”.. هواجس الهجرة السورية نحو المجهول

يقترح المخرج اللبناني وسام طانيوس في وثائقيه “نحن من هناك” رصد التحولات الدراماتيكية والأجواء الخانقة التي يعيش في ظلها المواطن السوري بعد سنوات من اندلاع الحرب الأهلية فيها، من خلال تجارب حياتية لأقارب له عاشوا فيها، وقرروا وهم في سن الشباب مغادرتها.

شدة قربه من ابني خاله السوريين (ميلاد وجميل حوام) تُتيح له إمكانية معاينة المشهد العام للبلد إبان المرحلة الحرجة التي يمر بها، ومعرفة العوامل الضاغطة التي تجبرهما شدة قوتها على التفكير بالهجرة نحو المجهول.

القرب والمعرفة الشخصية يوفران لصانع الفيلم مناخا ملائما لنقل انفعالات بطليه بروية وهدوء، فقبولهما بالوقوف أمام كاميرا ابن عمتهما والسماح لها بمرافقتهما في محطات وأماكن كثيرة مرا بها؛ يُحيل ما تلتقطه عدساتها وتوليفها سينمائيا فيما بعد (قام بالتوليف غني حشيشو وماتيلد مويار) إلى قصص فيها كثير مما هو حميمي وعائلي منفتح على بوح ومصارحة تقارب أسئلة وجودية وأفكار تقبل البحث في معنى الخلاص الفردي، في اللحظة التي لا يجد فيها المرء أمامه خيارا للتخلص من الواقع الضاغط عليه إلا بالرحيل وتجربة العيش في مكان آخر يتمنى أن يكون أفضل من المكان الأول وأقل قساوة منه.

تقلبات المكان والعائلة والمخرج.. مثلث درامي

يشتغل المخرج طانيوس على أركان مثلث درامي، لا يخشى هو (المُخرِج) من أن يكون أحد أطرافه، إلى جانب طرفيه الآخرين؛ عائلة خاله الدمشقية، والثالث هو المكان المتغير بوصفه عنصرا مركزيا في حكاية تتجاوز الشخصي في عمقها العام، وهو في أحيان كثيرة يغدو الفاعل والحاسم لمصائر المقيميّن فيه.

قيمة المكان في “نحن من هناك” تتأتى من قرار الأخوين السوريين الرحيل من مدينة دمشق إلى خارجها، وأيضا من ملازمة طانيوس اللصيقة لهما وهما يمضيان في دروب غريبة وطرقات مجهولة.

ميلاد حوام.. أستاذ الموسيقى يودع دمشق

يبدأ المدخل لحكاية الأخوين في سنة 2015، حيث تأخذ  الموسيقى الحزينة المُصاحبة له (التأليف الموسيقي لأمين بو حافة) المُشاهِد إلى أحياء الشام القديمة. الكاميرا تصطحبه معها إلى أزقتها الضيقة لتصل إلى صف مدرسي يعلن فيه أستاذ الموسيقى ميلاد حوام أمام طلبته أنه لن يلتقي بهم ثانية، لأنه سيغادر المدينة ويودعها كما يودعهم الآن.

ميلاد أستاذ الموسيقى يودع دمشق ويصل إلى ألمانيا فرحا بوصول آلته الموسيقية

هكذا يأتي إعلان أستاذ الموسيقى عن رغبته في السفر، بعد تيقنه من أن تحقيق أحلامه في بلده بات مستحيلا، فقد وجد في السفر بديلا للعيش في مناخ أفضل يُبدع فيه، ويُعبر عما يحسّ به بحرية، ومن دون أن يتورط في حرب لا يخفى البوح أمام ابن عمته بأنها ليست حربه.

عدسات الخال.. ذكريات الطفولة في عائلة شامية

للرحيل أسباب كامنة يعمل المخرج (المحاور) طيلة زمن الوثائقي على استنباطها عبر أسئلة يطوّق بها أبناء خاله. أسئلة حذرة تتجنب التصادم، يستبدلها في أحايين بمونولوج داخلي يعوّض بها ما لا تستطيع أسئلته المباشرة الوصول إليه.

المخرج وسام طانيوس خال ميلاد وجميل حوّام يوثق ذاكرة العائلة الشامية التي توزعت بين بيروت والشام

يسترجع المخرج وسام بالمونولوج أيام طفولته التي عاش فصولا جميلة منها مع خاله وأولاده في دمشق أثناء زيارته لها في عطله الصيفية، فهو أحب الشام رغم عيشه في بيروت، وشعر بأن له مكانا ثابتا فيها ما دام له فيها أقرباء وذكريات طفولة، وقد وثق خاله قسما كبيرا من تلك الطفولة بعدسات كاميرات فيديو منزلية.

ولعه وحبه للتصوير أعان على توثيق ذاكرة عائلة شامية توزعت بين مدينتين هما بيروت والشام، أما اليوم فهي في طريقها للتشتت. ما تختزنه كاميرات الخال من ذكريات يغني المتن السردي للوثائقي، ويُقوّي الإحساس اللاحق بفقدان مكان حميم تغيّر بفعل الحرب والدمار.

جميل حوام.. عامل مرآب في بيروت ينتظر الرحيل

إلى بيروت وصل جميل حوام من الشام، وأقام فيها مؤقتا. ذلك ما ترصده كاميرا “وسام” وهي تقترب كثيرا من ابن خاله الذي يعمل في مرآب للسيارات. ينظم حركته ويؤمن من خلاله مصدرا للعيش في لبنان إلى حين حلول ساعة رحيله إلى مكان آخر يحلم بتحقيق مستقبل له فيه، أفضل من ذاك الذي ينتظره في سوريا المضطربة.

ظروف جميل حوام تعكس عُسر تكيّف اللاجئ السوري في لبنان

تعكس ظروف عيش جميل عُسر تكيُّف اللاجئ السوري في لبنان، فصاحب العمل يستغل مستخدمين عنده لا يحصلون منه على أجور عادلة. على لسان الشاب السوري ترد تلميحات سريعة عن اختلاف مستوى العيش بين مدينتي بيروت والشام، ورغم أن المقارنة تميل لصالح بيروت فإن المكوث فيها لا يحقق حلمه بخلاص نهائي.

ورشة النجارة.. إرث الجد الذي يجمع قلوب العائلة

بينما تقترب خطوات ميلاد حوام من رحيل محفوف بالمخاطر عن طريق البحر، تتسارع خطوات أخيه لمغادرة لبنان. خلال الزمنين تنشط الذاكرة في استحضار المكان المشترك الذي أحبه الجميع، ألا وهو ورشة النجارة في دمشق.

صورة قديمة لورشة النجارة التي كانت إرثا من الجد الذي يجمع فيه قلوب العائلة

كل واحد يعبر عن علاقته بها، والجميع يعتبرونها المساحة الأرحب والأجمل التي ضمتهم جميعا ذات زمن، بينما هم يودعونها اليوم بحزن عميق، حتى المُخرج وجد في هجرها عنوانا لخسارة قرابة وعلاقات أسرية حميمة.

تَرْك الورشة يعني تَرْك الشام من غير رجعة، ويعني فقدانا لصداقات وخسارة قرابة لم يخطر على باله من قبل أنه سيخسرها. الخيط الباقي الذي يربط الورشة بعائلة حوام في هذه اللحظة هو حب جميل لمهنة النجارة التي يريد المضي في الاشتغال بها، وتوارثها من بعد جده وأبيه.

توزعت الورشة لحظة الافتراق بين عالمين؛ عالم جميل الذي يحب أخشابها، وعالم ميلاد عاشق الموسيقى الحالم بنجاح فني خارج أسوار دمشق، لكنه رغم ذلك لن ينساها، ولن ينسى ما قضى فيها من أوقات جميلة.

شمال أوروبا.. موطن جديد ورحلة غير شرعية

بالرغم من ابتعاد الأخوين عن عالم السياسة والحرب في سوريا، فإن هجرتهما للخارج لها صلة غير مباشرة بها، وستتعمق وتظهر قوتها كلما مضوا بعيدا في رحيلهما إلى أوطان وبلدان أخرى. قبل الوصول إلى أوروبا تسجل كاميرات الأخوين تفاصيل عبورهما البحر بطرق غير شرعية، تتخللها أحاسيسهم ومشاعرهم المضطربة التي تجلي خوفا عندهم من مجهول.

توثيق ذاتي لتفاصيل مغامرة عبور البحر بطرق غير شرعية عبر أوروبا

على اليابسة يعود المخرج وسام لإكمال مهمته، يضع الكاميرا بالقرب منهما لتسجل كامل تفاصيل وجودهما الجديد في مكانين. فجميل يصل إلى السويد، وأما ميلاد فيصل إلى ألمانيا، وكلاهما مرا ببلدان كثيرة مثل تركيا واليونان وبعض دول البلقان.

ما زالت النهايات مفتوحة على مجهول، فالأحلام ما تزال عالقة في فراغ، والخيبة تتجسد في تجربة موسيقار مرهف ارتبط بفتاة، لكنها سرعان ما غادرت ألمانيا وترتكه وحيدا، الإحساس بالخسارة يزداد، لا يخفف منه إلا الانشغال بالعزف.

في السويد يبدو جميل أكثر قربا إلى التصالح مع حلمه وإن كان ما يزال بعيدا، فقد حصل على عمل في اختصاصه كنجار مُلمّ بعالم الأخشاب. صلته بعائلة مستمرة، لكنها مهددة بفتور محتمل مع مرور الوقت. يحلم هو في أقاصي الشمال بتأسيس شركة نجارة تحمل اسمه، وتذكر بمهنة أجداده السوريين.

صورة العائلة.. آخر ما بقي من ذكريات البيت الدمشقي

الوحدة هي العنصر المشترك بين الأخوين في مكانيهما المختلفين، فميلاد يتمتع بقدرة أكبر على المصارحة والبوح أمام ابن عمته بما يشعر، بينما يراهن أخوه على العمل ليقلل به التفكير بالماضي والحاضر المثقل بهموم لا يُخفف من ثقلها تواصله الافتراضي مع الأهل عبر الأجهزة الذكية، ولا هي قادرة على تعويضه عن اللحظات الجميلة التي كان يعيشها معهم تحت سقف بيت شامي عتيق.

صورة قديمة تجمع ميلاد مع أخيه جميل وابن عمته كجزء من ذكريات الطفولة في بيت العائلة في دمشق

صورة واحدة قديمة تجمعه مع بعض إخوته أرسلتها له أخته، يعتبرها جميل في مهجره هي أهم ما بقي له من الوطن، فتفاصيلها هي أجمل ما تريد ذاكرته الاحتفاظ به من ذكريات يخاف في مهجره البارد التقرب من استعادتها في رأسه خوفا من آلام الحنين.

أما ميلاد فهو على -عكس أخيه- لا يخاف من الاعتراف بمرور الأفكار السوداء في رأسه خلال زمن البُعد مثل الانتحار. فقدان حبيبة ووطن وتبدد أحلام تُسوّد بالضرورة الرؤى وتشوشها، لكنه يظل قادرا على استعادة توازنه بفضل الموسيقى ورهانه على قدرتها للارتقاء بروحه عاليا.

وسام طانيوس.. عدوى الهجرة تتسرب إلى المخرج

المشهد المُتشكل أمام كاميرته يدعو المخرج هو الآخر لطرح فكرة الخروج من لبنان. ماذا لو خرج هو من بلده مثلهما، هل سيكون مصيره مشابها لمصيرهما؟ هل سيشعر بذات الأحاسيس الموجعة رغم تخلصهما من مكان كان يُقيد حريتهما ويحجم طموحاتهما؟

فكرة المضي في العيش رغم كل التحولات والخيبات هو ما يلفت انتباه المُخرج، وعندها يتوقف طويلا يتأملها عبر حوارات يحرص على تنويع مستوياتها، وكلاهما يكرر أن لا عودة إلى نقطة البداية. الجُمل المعبرة عن الفكرة تأخذ أشكالا عدة وفقا لحساسية زمن طرحها، لكن مضمونها يظل كما هو، ما دُمت قد تركت وراءك بلدا لم يحقق لك ما تحلم به، فعليك المضي لتحقيقها في مكان آخر مهما واجهت فيه من صعاب.

“نحن من هناك” يميل إلى تعميق فكرة الوجود الجديد أكثر من اهتمامه بفكرة الجذور والتشبث بها. إنه عن اللحظة التي يواجه فيها الكائن الغريب مصيره وحيدا في مكان بعيد. اشتغال صانعه وتميّز معالجته جعلت منه منجزا سينمائيا مُهما استحق عدة جوائز عالمية.