“نحن نبقى في المنازل”.. عدسات الأطفال ترصد ألوان الجائحة

قيس قاسم

يدفع الفضول المخرجة النرويجية “مارين فيكتوريا تينغنيس” ومساعدتها “مارينه مورك” لمعرفة ماذا حدث لأطفال العالم خلال السنة الأولى من اجتياح وباء كورونا، وبدلا من مُعاينة المشهد بنفسها، أعطت كاميرات فيديو لمجموعة من الأطفال في مناطق مختلفة من العالم، وطلبت منهم تصوير وتوثيق تجاربهم الشخصية، ونقل أحاسيسهم بحُرية من دون تدخل منها.

بهذا ضمنت المخرجة توثيقا شاملا واسع المساحة متعدد المستويات لفئة عمرية اضطرت بسبب “الإغلاق” العام الذي اتخذته الحكومات والجهات الصحية منعا لانتشار الوباء وحفاظا على أرواح الناس؛ إلى عُزلة لم يعرفوها من قبل، ولم يتحملها الكثير منهم، فتركت آثارا نفسية سيئة ما زال بعضهم يعاني من قسوتها.

الوثائقي النرويجي “نحن نبقى في المنازل” (Vi Blir Hjemma)، لا يكتفي بعرض العزلة التي عاشوها فحسب، بل يكشف عبر ما نقله الأطفال بأنفسهم المستويات المتباينة للدول والحكومات في مواجهة الجائحة، وأيضا تباين نظرتهم للعالم الذي يعيشون فيه، والمشاكل التي تواجه كل واحد منهم في بلده.

 

إغلاق المدارس.. قاسم مشترك بين جميع أطفال العالم

يتتبع الفيلم مسارا زمنيا تصاعديا لعرض تطورات وباء كورونا، وتجربة الأطفال المشاركين في توثيقها منذ إعلان منظمة الصحة العالمية في 11 مارس/ 2020 مرض كورونا (كوفيد 19) جائحة عالمية، ثم يذهب لأخذ المشتركات بينها، عبر عملية توليف سينمائي معقدة، لكثرة الخامات المسجلة وتباين مستوياتها الفنية والتعبيرية.

يجد صُناع الفيلم أثناء مراجعتهم أن المدرسة وإغلاق أبوابها كانت قاسما مشتركا أكبر بين أطفال العالم وشبابه، وفي المقابل كشفت اعتمادهم وفي كل مكان على وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت بديلا مؤقتا عن العلاقات المدرسية المباشرة، وفي الوقت نفسه وسيلة حيوية للتعبير عن مشاعرهم ومخاوفهم من المرض والموت، وخشيتهم من إطالة مدة الإغلاق الاجباري الذي راح يخنق وجودهم داخل منازلهم شيئا فشيئا.

الصبية اللبنانية كريستينا يتضح وعيها المبكر بأسباب ما يمر به بلدها من اضطراب وفوضى خلال أزمة كورونا

 

شباب الثانوية.. ضرورات الوحدة والانتقال عن المنزل

لتوسيع المشهد العام للجائحة وآثارها التدميرية، يُعطي الوثائقي فرصة لأعمار سنية تتجاوز مرحلة الطفولة بقليل، وبشكل خاص أولئك الذين كانوا على مشارف انتهاء مرحلة الثانوية، وبسبب الجائحة والإغلاق العام اضطروا إلى المكوث في المنازل، فعاشوا نفس تجربة الأطفال الأقل سنا منهم، مع اختلاف عنهم في القدرة على التعبير، وعلى عكس ما يجري في خارج منازلهم بصورة أوضح.

هذا يتجلى في تجربة الشاب العربي الأصل محمد (17 سنة) في الخروج من منزله في النرويج إلى البرية، وخوض تجربة العيش بعض الوقت وحيدا، في حين عانى أغلب المشاركين من عزلة ووحدة يُعبّر عنها الأمريكي “كلود” (9 سنوات) بالدموع، فتجربته مُركّبة لأنه لم يترك المدرسة والدراسة التي يواظب عليها باجتهاد فحسب، بل لأنه أُجبر على ترك مدينته التي يحبها ويحب اللعب مع جيرانه في شوارعها، فقد اضطر لمغادرتها بعد قرار عائلته بترك منزلهم في نيويورك (التي تفشى فيها الوباء بشكل سريع ومخيف)، والانتقال مؤقتا إلى مدينة أخرى، حيث يعيش أقارب لهم هناك.

في هذا المشهد تظهر الفوارق الشاسعة بين مستويات العيش في مدن الولايات الأمريكية الكبيرة وبين الأخرى الصغيرة. اختلافات طبقية حادة واجتماعية تظهر تفاصيلها من خلال تذمر القادمين من بساطة عيش الناس المُقيمين فيها.

شتات العائلة.. وحدة المراهقين الأوروبيين في منازلهم

يظهر مثل تلك الفوارق أيضا في تجارب أطفال يعيشون في دول غربية غنية، وأخرى تعاني من مشاكل اقتصادية وسياسية متفاقمة مثل البرازيل، حيث إن إمكانيات الناس فيها للتأقلم مع الإغلاق وتوفير أجواء منزلية مناسبة للأطفال شبه معدومة، لكن فيها من الحميمية الأسرية ما تفتقده أغلب المنازل الغربية.

الحالات المنقولة عن يوميات شباب ومراهقين أوروبيين تركز على تذمرهم من خسارتهم لأشياء جميلة كانت متوفرة لديهم، من بينها متع الحياة في الخارج التي كانوا معتادين عليها قبل الجائحة، وأيضا شكواهم من انشغال الأهل عنهم، وتركهم يواجهون اضطراباتهم وخوفهم لوحدهم.

في حين نجد تآزرا عائليا كبيرا في بيت طفل برازيلي كان يعاني من مرض الربو، ومع ذلك كانت والدته إلى جانبه دوما، كما ظل شقيقه الأكبر يقدم له العون المطلوب في محنته.

هناك قاسم مشترك بين أطفال العالم بعد أن أغلقت المدارس أبوابها بسبب انتشار فيروس كورونا

 

حميمية العلاقات.. حين تكون العائلة في المرتبة الأولى

لتجنب الإطلاق والتعميم، يأخذ الوثائقي حالات متناقضة في جغرافيات متشابهة، مثل العائلة الإسبانية التي عانت كثيرا من كورونا بسبب عجز الأم عن الحركة واضطرار ابنتها لمساعدتها طيلة الوقت.

يعكس المشهد الإسباني روحا طيبة لصبية تنشغل برعاية عائلتها، وتحجب عنهم مخاوفها مما تسمعه من أخبار تصل إليها من الخارج، وتعلن عن التفشي المريع للوباء، وموت أعداد كبيرة من السكان.

مثلها نجده داخل عائلة محمد العربية المقيمة في النرويج، فرغم المحاذير القوية فإن والده لم يتردد بالسفر إلى تونس لزيارة والدته المريضة هناك، حيث يشجعه ابنه على الذهاب لرؤيتها، ويوصيه بالحذر الشديد.

العلاقات الأسرية الحميمية أخذت جانبا مهما من الوثائقي، كما كشفت تسجيلات أخرى عن أنانية وتفكير بالذات يسبق كل تفكير.

تذبذب مواقف السلطات الرسمية فيما يخص عودة طلابها إلى مقاعد الدراسة أثر بشكل سلبي نفسيا على الأطفال

 

تذبذب السلطات.. تضامن الأطفال الذي يسبق التذمر

من دون قصد يذهب الوثائقي لنقل تدرّج مستوى انفعال الطلبة والأطفال منذ بداية الجائحة حتى مرور أشهر بعدها، وتغيّر بعض مواقفهم من التضامن المجتمعي الذي ساد في المرحلة الأولى من انتشارها.

أحد العوامل التي أثرت سلبا على معنويات الأطفال هو تذبذب مواقف السلطات الرسمية -وبشكل خاص الأوروبية منها-، وتأرجح قراراتها حول عودة طلابها إلى مقاعد الدراسة، بعد التأكد من قلة احتمال إصابتهم بكورونا، أو بقائهم في المنازل، فبعضها قَبِل بعودتهم، والآخر سمح للجمع بين التعليم عن بُعد والحضور المدرسي.

في البداية كان مستوى التضامن عاليا بين الجميع، فكلام وشهادات الأطفال المنقولة عبر الكاميرات تشي برغبة للتضامن والنظر إلى العالم كوحدة متكاملة، لكن بعد أشهر، وبسبب القرارات المتذبذبة للسلطات الصحية والمدرسية، وتذرّعها بالخوف من أن يتسبب وجودهم في المدارس في نقل المرض إلى كبار السن والعجزة؛ تراجعت حكومات عن قرارتها، وأعلنت إغلاقا جديدا لمدارسها.

أثار هذا القرار ردود فعل عكسية عند طلاب المدارس، وصاروا ينظرون إلى كبار السن كسبب في حرمانهم من المدارس، وعامل مُقيّد لحريتهم وعيشهم السوي، إذ تنقل تسجيلات كثيرة ذلك التذمر المؤلم الذي لا ذنب للكبار والعجزة فيه، وفي الوقت نفسه تنقل القلق عند الأطفال من بقاء الحياة كلها في حالة عدم استقرار.

صورة لانفجار مرفأ بيروت تزامن مع انتشار جائحة كورونا

 

انفجار مرفأ بيروت.. وعي المراهقين بالظروف السياسية

مقابل التذمر والخوف ثمة كشف ربما هو من بين أهم ما يأتي في ثنايا تسجيلات الأطفال، ويتمثل في زيادة وعيهم بما يحيط بهم، فمخطئ من يظن أن الأطفال لا يتفاعلون مع الأحداث السياسية في أوقات المحن.

من تسجيلات الصبية اللبنانية كريستينا (17 سنة) يتضح وعيها المبكر بأسباب ما يمر به بلدها من اضطراب وفوضى، وتحيل انفجار المرفأ الذي تزامن مع تفشي كورونا، وأدى إلى موت أبرياء وخراب بيوت؛ إلى دمار عام يحل بلبنان وشعبه، وأنها لم تعد تطيق صبرا عليه، حيث تعلن عدم سعادتها من كثرة الأخبار السياسية السيئة التي تسمعها كل يوم، ومن تشابه أيامها وضجرها من البقاء في المنزل.

كل ذلك لا يمنعها من التعامل واقعيا مع مرحلة كورونا، فهي لا تريد المبالغة في الإحاطة من الوباء، لكنها تُراعي في الوقت نفسه شروط التباعد بالحدود التي تضمن سلامتها وسلامة عائلتها والآخرين. ومع كل الغضب الكامن في داخلها فإنها تتفاءل بالحياة، وتجد في رعاية أهلها لها واهتمامهم بها عونا لتكملة بقية حياتها.

محمد كان يقضي وقته في الجامع مُتعبّدا، لكن بعد كورونا تم إغلاق الجوامع

 

إغلاق الجامع.. رمضان وعيد مختلفان بالنرويج

يجد محمد بالنرويج في مغامرة البقاء في الخارج نوعا من الاندماج مع المجتمع النرويجي الذي يمارس بعض سكانه تلك الهواية، ويريد هو أيضا الاستمتاع بها مثلهم، مع سخريته من أن الاندماج المطلوب يأتي عن طريق الوباء، إلا أنه يقر بالمتعة الملازمة لصعوده إلى قمة الجبل وحيدا، ومشاهدة المدينة من بُعد كما لم يرها من قبل.

وهو يجد في التجربة الموثقة بعناية بعض العزاء لإغلاق الجامع بسبب الوباء، فقد كان يقضي فيه وقتا للتعبد ولقاء الأصحاب، ويتحسّر لتزامن الجائحة مع حلول شهر رمضان وبعده العيد، فعيد 2020 لا يشبه أبدا أي عيد سبقه.

الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي استهتر بفيروس كورونا وادعى بأنه لا يُشكل

 

سقوط “ترامب”.. غضب ضد القادة الشعبويين والمستهترين

على مستوى سياسي أكثر حدة تظهر تسجيلات طالبة أمريكية حالة الغضب التي تجتاحها بسبب الممارسات العنصرية التي تمخضت عن مقتل الشاب الأسود “جورج فلويد”، وخروجها رغم الجائحة في مظاهرات منددة بالعنصرية، وبسلوك الشرطة العنيف وغير المبرر.

يظهر في تسجيلاتها اهتمام خاص بالانتخابات الأمريكية، وخوفها الشديد من إعادة انتخاب الرئيس “دونالد ترامب” ثانية، حيث تنقل كاميراتها لحظة إعلان فوز المرشح “جو بايدن” بالرئاسة، وخروجها مع الجموع في شوارع المدينة للاحتفال بانقضاء فترة تعتبرها من بين أسوأ الفترات التاريخية التي عاشتها الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي مناطق مختلفة من العالم يعيب آخرون على القادة الشعبويين تصريحاتهم واستهتارهم بالمرض، ويسخرون من ادعاءاتهم بأنه لا يشكل خطرا على أرواحهم، يتجلى ذلك في تسجيلات الصبي البرازيلي الذي يشعر بالحزن على موت أعداد كبيرة جدا من مواطني بلده، بسبب استهتار قادة البلد بأرواح الناس، واهتمامهم فقط بمصالحهم ومنافعهم الخاصة.

الأطفال ازداد وعيهم بضرورة الاهتمام بالآخرين مهما ابتعدت بلدانهم واختلفت ثقافاتهم

 

وعي الأطفال المغلف بالبراءة.. حصاد عام الجائحة

تنقل تسجيلات الأطفال بكل تنوعها وبراءتها مشهدا عامّا مرت به البشرية خلال عام كامل، ونقلها على الشاشة يوصل متابعها إلى خلاصات، من بينها وجود فوارق كبيرة في مستويات عيش البشر على الأرض، إنها فوارق مؤلمة، لكن الشيء الإيجابي الذي أفرزته الجائحة يتمثل في اهتمام الجميع بما يجري في العالم، ومشاركة البشرية مصيرا واحدا.

لم يعد أحد يعيش لوحده في جزيرة معزولة، بل الخوف من المجهول يحفز الجميع للنظر إلى ما حولهم والاهتمام به، وفي مقدمتهم الأطفال الذين ازداد وعيهم بضرورة الاهتمام بالآخرين مهما ابتعدت بلدانهم واختلفت ثقافاتهم، فالوعي المكتسب عندهم يدعو إلى إعادة التفكير في منابعه، والنظر إليهم ككائنات حساسة تعي ما يجري حولها، وتشعر بالفطرة من أين تأتي الشرور.