“نحنا ولاد المخيم”.. يوميات الثورة السورية على أرض فلسطينية

بعد عدد جيد من الأفلام الوثائقية المهمة التي وثقت بملحمية يوميات من الثورة السورية من بداياتها وحتى دخولها نفق العنف العالقة فيه حتى اليوم، والتي عُرضت عام 2016. وَصَلَ أخيرًا إلى العروض المهرجانية السينمائية الدولية الفيلم الوثائقي الطويل الأول الذي يسجل بدايات ويوميات ومآلات الثورة ذاتها على حيوات أهل المخيمات الفلسطينية الكبيرة التي تقع على أطراف العاصمة السورية دمشق.

يقدم المخرج الفلسطيني السوري الشاب سامر سلامة في فيلم “194.. نحنا ولاد المخيم” حكاية داخل حكاية في عالم كان يموج بالبشارات وعلى مشارف انعطافات تاريخية حاسمة، وقد عُرض الفيلم في دورة عام 2017 للمهرجان السويسري “رؤى الواقع” (Visions du Réel Film).

 

الحرب تقترب.. كاميرا ترصد الشرارة الأولى

صُوّر الفيلم في وقت قاتم من يوميات المخيمات التي اعتاد ناسها الأحلام والخيبات، وعلى وقع قيامة بلد كان ينتفض. يسجل الفيلم سقوط القيم وتبدد الأحلام وولادة العنف، فالحرب تقترب بحزم من بيوت اللاجئين، وتشردهم في غضون عامين إلى مناف جديدة بعيدة.

يتشكل زمن الفيلم الجديد من أفلام صورها المخرج شخصيا أو عبر أصدقائه في مخيمات الفلسطينيين في دمشق، وأخرى من الأرشيف المتوفر من السنوات الخمس الأخيرة (2012 – 2017).

يبدأ زمن الفيلم قُبيل الثورة السورية، وينتهي مع هجرة أهل المخيمات الكبيرة، والتي تزامنت مع هجرة المخرج الذي انتقل حينها إلى لبنان، وبعدها إلى فرنسا حيث يعيش اليوم.

في قلب الحكاية العامة، هناك حكاية أخرى خاصة نتابعها عبر زمن الفيلم -والتي تبلغ مدته 90 دقيقة- عن الصداقة الحميمة التي ربطت المخرج بـشخص يدعى حسان؛ الشاب الفلسطيني المثقف الذي نشهد على محطات مفصلية من حياته؛ من قصة حبه وزواجه، وإصراره على البقاء في المخيم بعد أن هجره أغلب أهله، وحتى المصير العنيف الذي كان ينتظره.

ذكريات الماضي.. شخصنة أحزان شعب

بعد بداية مرتبكة غلب عليها التشوش، يعثر الفيلم على إيقاعه الخاص، والذي يقوده ويغلفه الحنين، إذ إن المخرج ينبش ويُقلب مادته المصورة ويعيد بناءها ليجعل منها وقفة طويلة على أطلال الماضي. هذا في الوقت الذي يأتي صوته في الخلفية ليقود المشاهد عبر نص نثري طويل هو الآخر ويقترب من الشعر، ويستعيد الماضي من مسافة لا تزال قريبة جدا.

يبدأ الفيلم بمشاهد لمخيم اليرموك في دمشق من قبل الأزمة، ويختتم من المخيم ذاته بعد أن مرَّت عليه حرب شوارع مدمرة وأُفرغ من معظم سكانه. وبين البداية والنهاية يفتح المخرج نافذة نادرة على الكابوس الذي عاشته مخيمات دمشق لسنوات ولم تتكشف كل تفاصيله بعد.

خيارات ومصائر صعبة.. سرديات مختلفة لألم واحد

هناك خطان سرديان رئيسيان في الفيلم، إلى جانب ما يلتقطه من أصداء الحدث العام الذي كان يقترب من المخيمات الفلسطينية مثل طوفان مدمر.

الخط السردي الأول عن المخرج نفسه الذي يتم استدعاؤه بعد بداية الثورة للخدمة في جيش التحرير الفلسطيني المقرب من النظام السوري. أما الخط الثاني فهو عن حسان صديق المخرج، وهو خط يتشكل ببطء عبر زمن الفيلم كبورتريه له.

يرتكز الفيلم على مواد مصورة، متنوعة من حيث جودتها وغاياتها وظروف تصويرها

يرتكز الفيلم على مواد مصورة، متنوعة من حيث جودتها وغاياتها وظروف تصويرهايوميات الشخصيتين الرئيسيتين تتأثر بالثورة السورية، ويضيق عالمهما وينتهيان معا في زمن ما في المنطقة المهجورة ذاتها من المخيم، قبل أن يتم اختطاف حسان من قبل جهة مجهولة، ويهرب المخرج إلى خارج سوريا.

بناء وتدمير.. تناقضات وزيف ونهايات الواقع

يرتكز الفيلم على مواد مصورة، متنوعة من حيث جودتها وغاياتها وظروف تصويرها، وتشكل الأساس لهذه الوثيقة التسجيلية.

لا يبدو أن هناك اهتماما فنيا أو موضوعيا أساسيا شغل المخرج أثناء التصوير ولاعتبارات مفهومة كثيرا، لكن هذا يصعّب إلى حد ما من مساعي المخرج بأن يجعل الفيلم يدور في فلك أو حول شخصيات معينة بذاتها، حيث كانت تنقصه المادة الصورية والبحثية الكافية لأن يمنح شخصية حسان أو المخرج نفسه الثراء المطلوب الذي يجعلها تهيمن على الفيلم.

هذا في الوقت الذي كان لموقع المخرج خلف كاميراته أغلب الوقت ومن ثم حضوره عبر التعليق الصوتي الذي ألقاه بنفسه؛ الأثر الكبير في أن يغير موقعه النهائي من الفيلم، ويجعله راويا للحكاية أكثر من كونه إحدى شخصياتها.

وكما هو الحال مع معظم الأفلام التسجيلية السورية الأخيرة، والتي انطلقت من رغبات أصحابها بتسجيل ما يدور حولهم دون أن تكون هناك خطط واضحة أو حتى نياتٌ وقتَها بتوظيف موادهم الصورية في مشاريع تسجيلية مستقبلية؛ بدأ البناء الفعليّ لهذا الفيلم في غرفة المونتاج، وهناك تم البحث وفهم المادة الصورية الضخمة والخروج منها بالتالي بقراءة تُبرز في قسم منها تناقضات وزيف ونهايات الواقع.

فالفيلم كان ينتقل من مشاهد لتدريبات عبثية تماما لشباب في جيش التحرير الفلسطيني، إلى لقاء عام لفصائل فلسطينية، حيث يتم -بفجاجة كبيرة- تدوير الخطاب القومي السلطوي المعروف ذاته.

كما زادت مشاهد عمليات بناء لمبنى في المخيم صوّرها المخرج من التناقض بين فعل البناء وجنون الواقع الذي سينطلق قريبا، في حين كانت مشاهد أطباق الفضائيات المنتشرة على سطوح بيوت المخيم تقترب من مجسّات خيالية للشخصيات لقراءة المستقبل، وهي التي كانت تبحث عن كوة في أفق كان ينغلق عليها.

فصول الموت والمعاناة.. تأريخ بصري لألم جماعي

على صعيد الأرشفة، هناك الكثير المهم والنادر الذي صوره وحفظه هذا الفيلم، خاصة من الحقبة الزمنية القليلة التي أعقبت الثورة في سوريا، وبعد أن فتح النظام هناك -في خطوة لئيمة- الحدود مع مرتفعات الجولان للفلسطينيين في سوريا الذين توهموا أن ربيعا عربيا آخر ينتظرهم هناك.

يسجل الفيلم مسيرات تشييع ضخمة لفلسطينيين شباب قتلوا على الحدود مع الجولان في حوادث لم تصل بشكل واسع للإعلام الشعبي حينها، وهناك أيضا المشاهد الصادمة الشديدة الندرة والقسوة لفلسطينيين مدنيين كانوا يهربون بالمئات من المخيم بعد أن وصلت الحرب الفعليّة إلى شوارعهم.

كما ينقل الفيلم بدايات وعي شخصياته بتحول الثورة إلى نزاع عسكري، واقتراب هذا النزاع منهم ببطء، كما في المشهد الذي يصور كيف عبرت رصاصة غرفة الحمام في البيت الذي يعيش فيه حسان والذي انتهى من بنائه للتو، أو المشهد الآخر لجلسة سهر لأصدقاء المخرج قطعها صوت انفجارات بدت قريبة.

 

يسجل الفيلم مسيرات تشييع ضخمة لفلسطينيين شباب قتلوا على الحدود مع الجولان
يسجل الفيلم مسيرات تشييع ضخمة لفلسطينيين شباب قُتلوا على الحدود مع الجولان

يختار المخرج -مثل زملاء سوريين له من السنوات الأخيرة- أن يكتبوا ويعلقوا بأصواتهم في أفلامهم، وكأنهم يرغبون تزيين أعمالهم بشهاداتهم المقروءة مدموغة ببصمة لغة عربية شاعرية، خاصة وأنهم قادمون من خلفيات ثقافية وأدبية.

بيد أن التعليق الصوتي في هذا الفيلم -كما في معظم الأعمال التسجيلية الأخيرة- يثقل العمل ويعرقل من سلاسته، إذ بدا النص العربي على فخامته وصدقه؛ في كينونة خاصة لا تتواءم دائما مع الصور التي تتعاقب على الشاشة، بل إن النص الذي كان يخبرنا أحيانا بما يجب أن نشعر به، عَكّر السكينة التي كانت مطلوبة لمشاهدة الصور البالغة القسوة والدلالة التي عرضها الفيلم.