“نرجس ع”.. عدسة تقفو آثار فتاة جزائرية ثائرة

عبد الكريم قادري

كانت الجمعة الثالثة من عمر الانتفاضة الجزائرية في وجه النظام، حين أبكرت نرجس مثل غيرها من الجزائريين والجزائريات، ونزلت إلى الشارع لتواجه النظام القوي وتنادي بإسقاطه وإدخال الرئيس وحاشيته السجن ومحاكمتهم، وقتها كانت مُستعدة للمواجهة الكبرى، وفي الوقت نفسه خائفة من الاعتقال وقمع الشرطة المنتظر، وقد حدث ذلك يوم 8 مارس/آذار 2019 المتزامن مع اليوم العالمي للمرأة. فما الذي جرى لها وللجزائر في ذلك الوقت حين خرجت؟

نزل ملايين الجزائريين يوم 22 فبراير/كانون الثاني 2019 للشوارع ليقولوا للرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة “ارحل”، وذلك بعد أن دفع المقربون منه ملف ترشحه لعهدة رئاسية خامسة، رغم أنه كان مقعدا لا يتحرك أو يتكلم، وربما لا يفهم حتى ما يجري حوله، لكن المقربين منه وخصوصا أخاه السعيد بوتفليقة -الذي يقبع حاليا في السجن- دفع ملف ترشحه حتى يفوز بولاية خامسة، ليصبح من خلاله الرئيس الفعلي للبلاد، بينما يكون عبد العزيز مجرد دمية في يده يحركها كما يشاء، أي يتلاعب به وبأكثر من 40 مليون جزائري.

لهذا خرج الجزائريون في انتفاضة شعبية أذهلت في سلميتها وحضاريتها العالم، بعدما احتل الملايين منهم معظم ساحات المدن الجزائرية، ولم تسجل وقتها حادثة واحدة ولو عرضية، ولم تسل قطرة دم، ليعطي من خلال هذه السلمية درسا للنظام الذي أطبق على صدره لأكثر من 20 سنة كاملة، وأحاط به الفاسدون واللصوص الذين سرقوا خيرات البلاد، وحولوها في أرصدتهم بالعملة الصعبة في الخارج، والدليل أن أكثرهم موزعون حاليا على السجون الجزائرية يقضون أحكامهم الطويلة.

 

الثامن من آذار.. ثورة الابتسامة بعيون “نرجس”

استطاع المخرج البرازيلي ذو الأصول الجزائرية كريم عينوز أن يشارك في عملية القبض على اللحظة المهمة في تاريخ الجزائر الحديث، متمثلة في الحراك وما تركه من أثر محلي وعالمي، عن طريق فيلمه الوثائقي “نرجس ع.. يوم في حياة متظاهرة جزائرية” (2020) الذي شارك في الدورة الـ70 لمهرجان برلين السينمائي، وقد اختار كريم عينوز يوما واحدا من عمر الحراك ليقول كلمته السينمائية، عن طريق تسليط عدسة كاميرته على تحركات شابة حالمة تسكن في أحد الأحياء الشعبية للعاصمة، وهي نرجس عسلي التي تنحدر من عائلة ثورية وثائرة.

استعار المخرج عيون هذه الفتاة، ليرى من خلالها هذه الثورة التي اتفق الجزائريون على تسميتها باسم “ثورة الابتسامة”، مع اختيار يوم 8 مارس/آذار 2019 ليكون خلفية زمنية للفيلم، وهو اليوم العالمي للمرأة، ليحوّله ليوم خاص تكريما للمرأة الجزائرية التي لم تفوّت هذه الفرصة وخرجت رافعة علم الجزائر عاليا، لتنادي بالحرية والانعتاق والسلمية، وإنهاء عهد العصابة، وتحرير العدالة من الانتهازية، ورسم معالم لجزائر جديدة يكون فيها الجميع متساوين في الحقوق والواجبات.

هذه هي الشعارات التي رُفعت في المظاهرات، وقد ركّز المخرج عدسته على الأصوات المتعددة للنساء اللواتي كن حاضرات يرددن الشعارات والهتافات، ويرفعن اللافتات عاليا، حتى يسمع الكل مطالبهن ومطالب كل من ذاق صبرا من النظام الفاسد الذي كرّس للرداءة والجور والظلم حسب قولهن.

وبين هذه الجموع، كانت تتحرك نرجس التي تحمل حقيبة ظهر فيها بعض الحاجيات الضرورية، أهمها قارورة مادة الخلّ الذي كانت تقدمه لكل من تدمع عينيه نتيجة للقنابل المُسيّلة للدموع التي تهاجمهم بها الشرطة، وكأنها كانت تعرف مسبقا ألاعيب النظام الجزائري الذي يستعمل أسلوب الترهيب عن طريق قمع الشرطة ليطفئ لهيب الحراك المستعر.

صورة تجمع المخرج كريم عينوز مع بطلة فيلمه “نرجس العسلي” في مهرجان برلين السينمائي

 

بين ثورة التحرير وحراك التغيير.. صدفة صنعت فيلما

لم يكن المخرج كريم عينوز يعتقد بأنه سينجز فيلما وثائقيا عن الحراك، لأن زيارته لبلده الجزائر لأول مرة في حياته كان قبل أيام من انطلاق حراك 22 فبراير/شباط، فقد وصل عن طريق باخرة انطلقت من ميناء مارسيليا صوب العاصمة الجزائرية مع فريق صغير من صنّاع السينما، وجاء وفي يده سيناريو فيلم وثائقي عن الثورة الجزائرية (1954-1962)، لكن بعد أيام من مكوثه وتعرّفه على الجزائر انطلقت شرارة الحراك وهو فيها.

من هنا قام المخرج بتغيير البوصلة اتجاهها تماما، وبرمج نفسه وفريقه لتغطية هذه الوثبة التاريخية المهمة وتوثيقها، لكن في ذلك الوقت قام بعرقلتهم النظام الجزائري الذي لم يكن يحب الكاميرات، خاصة عندما تكون الفرق أجنبية، ولهذا منعهم من التصوير، بيدَ أن إرادة عينوز كانت أقوى، لذلك تحدى الواقع ونزل إلى الشارع وصوّر عددا من المشاهد رفقة ملايين الجزائريين، وتغيرت فكرة تصوير فيلم عن الثورة التحريرية إلى تصوير فيلم عن الحراك الجزائري.

يقول المخرج في أحد تصريحاته: “جاء الفيلم على شكل رسائل أخاطب فيها أمي لأروي لها انطباعاتي عن الجزائر، حتى لو لم تعد على قيد الحياة”. وهذا عن طرق أحلام وكوابيس نرجس عسلي التي رأت في هذه الثورة الجديدة نورا ينبثق في آخر النفق، لتشرق من خلاله شمس الجزائر الجديدة.

الحشود الجزائرية تملأ شوارع العاصمة في حراك يُنادي بإسقاط العهدة الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة

 

الأبيض والأسود.. مقارنة دالة بين جزائر الأمس واليوم

بدأ المخرج فيلمه الوثائقي “نرجس ع.. يوم في حياة متظاهرة جزائرية” بلقطة تأسيسية بالأبيض والأسود، تُظهر صورة بانورامية عن العاصمة، وهي تقريبا نفس الصورة التي عادة ما يستغلها المخرجون عندما يصورون فيلما عن العاصمة، بحكم أنها مدينة ذات تضاريس مختلفة، وليست ذات امتداد واحد، ومن هنا تصنع جماليتها من أحيائها المختلفة والتواءاتها وانحداراتها وعمرانها الاستعماري والعثماني.

وقد جاءت صورة كريم عينوز لتثبّت هذه الهوية، لكن باللون الأبيض والأسود، وعلى وقع أصوات النوارس التي تغطي سماءها وتبشر بجزائر جديدة، وسرعان ما حلّت الألوان عندما ملأت الحشود شوارع العاصمة، وكأن المخرج يخلق مقارنة بين جزائر الأمس واليوم، ليثبت بأن هناك دماء جديدة ستغير الخارطة السياسية للجزائر.

بعدها يأخذنا مباشرة إلى مشهد داخلي، حيث يسلط الكاميرا على وجه الشابة نرجس التي تجلس أمام مرآتها، ترتب زينتها وهيئتها لتخرج إلى اليوم الموعود في الجمعة الثالثة من عمر الحراك، لتبدأ بعدها رحلة التتبع التي بدأها المخرج من خلال بداية يومها، وصولا إلى انطلاق الحراك، حيث صوّرها وهي بين الجموع ترفع صوتها بأهازيج تنادي بإسقاط العهدة الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وشعارات أخرى تبيّن فساد هذا الرئيس الذي خلق نظاما أوليغراشيا (حكم الأقلية) أرجع الجزائر سنوات إلى الخلف.

نرجس تنظر بعين الفرح والأمل للجزائريين الذين نزلوا للشوارع لإسقاط النظام

 

تتبع خطوات نرجس.. خطة التنويع البصري في الميدان

اعتمد المخرج كريم عينوز في هذا الفيلم على لقطات القطع السريع وتنويع المشاهد، وهذا من خلال ضبط إطارات مختلفة الأبعاد والأحجام، والتقاط عدد من الوجوه من الحراك تتلقّف إيقاع الأهازيج ذات المدلول المختلف والشعارات ذات الرمزيات القوية، والأناشيد التي تُتلى من طرف الجموع بصوت واحد، مما يخلق بينها انسجاما في الرؤية والطرح.

يبدو المخرج وكأنه طرح هذه الخطة في المعالجة للحفاظ بشكل أساسي على الخيط السردي لقصته الثورية، وبالتالي يحافظ عن طريقها على المتلقي الذي يبحث دائما عن التنوع البصري والموضوعي، ليبقى وقتا أطول أمام عرض الفيلم، وكل هذا ليعوّض خياره الأهم، وهو الاعتماد على الصوت الواحد الذي تمثله نرجس في الفيلم، وكأن طريقة المخرج في الإخراج عدم التورط مع ضيوف جدد كي لا يشتت نفسه، ولا يضيع المتفرج في التفاصيل التي يمكن أن تقتل الفرجة بدل أن تُحييها.

واصل المخرج تتبع خطوات الشابة نرجس إلى أن انتهى يوم الحراك وتفرق الناس، لتحمل هاتفها وتبدأ في اتصالات مع بعض الأصدقاء للسؤال عن المعتقلين وعن أماكن اعتقالهم وعن المفرج عنهم، لتنهي يومها في أحد المطاعم على مائدة مع شباب الحراك، حيث يبدأ النقاش من جديد، وتطرح الرؤى ويتطرق لما حدث ذلك اليوم، لتتوج هذا الزخم برقصة ربما تداري بها أحداث يومها، أو تعبر بها عن فرحتها مما حدث ويحدث مع شباب بلادها الذين يتطلعون ليوم جديد بوجوه جديدة لا يوجد فيها عبد العزيز بوتفليقة ولا أخوه السعيد ولا العصابة التي ضمنوا بها عشرين سنة من الحكم.

العلم الجزائري تحوّل إلى ظاهرة في الحراك الجزائري كتعبير عن الوطنية والتمسك بالجزائر

 

ملء الفراغ في سينما الحراك.. تأسيس المشهد

من الأمور التي تدعو للحيرة الغياب شبه الكلي للأفلام الوثائقية والروائية التي تتطرق للحراك الجزائري رغم الزخم الكبير الذي أحدثه على مستوى العالم، خاصة من لدن صُنّاع السينما الجزائريين الذين يعيشون في الداخل، وقد استُغل هذا الغياب من بعض الجهات وخاصة الفرنسية منها، وذلك لملئه بأفلام مُسيّسة تغيب فيها الموضوعية وتنتصر لاتجاه واحد، لتخدم بدرجة رؤيتها الفرنسية المقتصرة على المصالح.

وقد حافظ كريم عينوز على مساحة الموضوعية في فيلمه الوثائقي “نرجس ع.. يوم في حياة متظاهرة جزائرية” الذي أنتج إنتاجا مشتركا فرنسيا جزائريا ألمانيا قطريا، كما أنه يبشر بتأسيس مشهد سينمائي مستقبلي يعتمد فيه على ترسيخ فكرة الحراك والتطرق له من جهات مختلفة، خاصة مع عودته القوية الجديدة بعد غياب دام تقريبا سنة كاملة بسبب فيروس كورونا.

مخرج فيلم “نرجس” البرازيلي من أصول جزائرية كريم عينوز الذي درس الهندسة ثم انتقل إلى صناعة الأفلام

 

كريم عينوز.. رحلة من الهندسة إلى محافل السينما

كريم عينوز هو مخرج برازيلي من أصول جزائرية، وقد سبق أن أنجز عدة أفلام سينمائية مهمة، وشارك بها في عدد من المهرجانات الدولية، وحصد بها جوائز مهمة، وقد بدأ حياته العملية كمهندس بعد أن حصل على شهادة في الهندسة المعمارية من جامعة برازيليا، وشهادة في الدراسات السينمائية من جامعة نيويورك، كما التحق بعد حصوله على شهادة الماجستير في برنامج الدراسات المستقلة في متحف “الويتني” للفن الأمريكي.

عُرض فيلمه الروائي الطويل الأول بعنوان “مدام ساتا” لأول مرة عام 2002 في مهرجان “كان” السينمائي (قسم مسابقة نظرة ما)، وعُرض فيلماه التاليان “سولي في السماء” و”أسافر لأنني مضطر لذلك.. أعود لأني أحبك” (إخراج مشترك مع مارسيلو غوميز) لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي (أوريزونتي) في 2006 و2009 حسب ترتيبهما.

كما عُرضت أعماله التركيبية في بينالي متحف “الويتني” للفن الأمريكي (1997)، وبينالي ساو باولو (2004)، وتضم أفلامه القصيرة “بايكساو ناشيونال” (1996) و”سيمز” (1993). وفيلم “فيوليتا”، ليكون فيلم “نرجس ع.. يوم في حياة متظاهرة جزائرية” آخر أعماله السينمائية.