“نساء صغيرات”.. أحلام المرأة الأبدية بمنظور سينمائي جديد

رشا حسني

ازداد مؤخرا الاهتمام بتلك الأفلام التي هي من إخراج النساء، أو الأفلام التي تكون محورها إحدى قضايا المرأة كالاغتصاب أو الإجهاض، وذلك تماشيا مع المزاج العام العالمي الذي أصبح يولي اهتماما خاصا بهذا النوع من الموضوعات والقضايا، خاصة بعد انطلاق حركة “وأنا أيضا” (Me Too) التي أثرت منذ انطلاقها على الإنتاج الدرامي سواء السينمائي أو التلفزيوني، وذلك على مستوى عالمي، وليس فقط داخل الولايات المتحدة الأمريكية التي انطلقت منها الحركة كنتيجة مباشرة للكشف عن فضائح الاستغلال الجنسي للمُنتِج السينمائي الشهير “هارفي واينستين”، وأصبح الحديث كل عام عن نسبة تمثيل وحضور المخرجات السيدات في أغلب المحافل والأحداث السينمائية العالمية -وعلى رأسها جوائز الأوسكار- موضوعا متكررا.

وعلى الرغم من النتيجة الإيجابية التي خلقها هذا الاهتمام في البداية، فإن الأمر تحوّل شيئا فشيئا إلى مبالغة، كالاهتمام المبالغ فيه بأفلام عادية جدا في مستواها الفني والتقني، أو حتى دون المستوى، لمجرد فقط أنها من إخراج سيدة، وأصبحت توضع تلك الأعمال المتواضعة المستوى الفني جنبا إلى جنب مع أعمال أخرى أكثر تميزا للسبب نفسه؛ وهو أنها كلها أعمال لمخرجات سيدات، وبات الأمر اعتياديا لدرجة ظُلم فيها كثير من المخرجات الموهوبات المجتهدات، وأعتقد أن هذا النوع من الظلم هو الذي تعرضت له المخرجة “غريتا غيرويغ” في ثاني وأحدث تجاربها الإخراجية “نساء صغيرات” (Little Woman).

وقع التعامل مع فيلم “نساء صغيرات” على أنه مجرد تجربة إخراجية جديدة لمخرجة سيدة، وليس كتجربة فنية متميزة تستحق أن تقيَّم فنيا بعيدا عن هذا الاعتبار، حتى إن الكثير من الكتابات النقدية التي تناولت الترشيحات النهائية لجوائز الأوسكار انتقدت عدم ترشيح “غيرويغ” في فئة أفضل إخراج. الفيلم هو معالجة من كتابة وإخراج “غيرويغ” للرواية الكلاسيكية الشهيرة التي تحمل نفس الاسم للكاتبة الأمريكية “لويزا ماي ألكوت” التي نُشر جزؤها الأول عام 1868، وهي من بطولة مجموعة متميزة من النجوم على رأسهم “سيرشا رونان” التي جسدت دور البطولة في أولى تجارب “غيرويغ” الإخراجية فيلم “ليدي بيرد” (Lady Bird) عام 2017، مع “إيما واتسون” و”فلورانس بيو” و”تيموثي شالاميه” و”لورا ديرن” و”إيليزا سكانلن”، ويعتبر الفيلم هو النسخة السينمائية السادسة للرواية الكلاسيكية، وقد ترشح الفيلم لخمس جوائز أوسكار من بينها جائزة أفضل فيلم، وجائزة أفضل سيناريو مقتبس عن عمل أدبي، لكنه فاز بجائزة أفضل إسهام فني في تصميم الملابس.

 

روح الرواية.. معاناة لم تتغير منذ 150 عاما

يعتبر تصدّي “غيرويغ” لتقديم معالجة جديدة من تلك الرواية الكلاسيكية الضخمة بمثابة تحدٍّ كبير على مستويات عدة، نظرا للمكانة المتميزة التي تحتلها الرواية في عالم الأدب العالمي، وأيضا للشعبية الجارفة التي تتمتع بها حتى الآن، ثم يأتي السؤال المنطقي؛ ما الجديد الذي يمكن أن تقدمه معالجة “غيرويغ” عن المعالجات السينمائية السابقة سواء نسخة عام 1933 من بطولة الأيقونة “كاثرين هيبورن” في دور “جو مارش” التي تعتبر أول نسخة سينمائية ناطقة للرواية الكلاسيكية؟ أو النسخة الأشهر التي أُنتجت عام 1994 من بطولة “وينونا رايدر” في دور “جو”، و”سوزان ساراندن” في دور “الأم”، و”كريستيان بيل” في دور “لوري”، والتي كانت المرة الأولى التي تقوم فيها امرأة بإخراج معالجة سينمائية للرواية الكلاسيكية وهي المخرجة “جيلان آرمسترونغ”؟

توصلت “غيرويغ” في معالجتها الحديثة لروح الرواية التي جعلتها خالدة ومحبوبة لأكثر من 150 عاما، مما جعلها نصا عابرا للزمان والمكان، حيث التقطت ما بها من قضايا وموضوعات للأسف ما زالت تستحق الدراسة والنقاش في عام 2020.

من أهم ما يمكن أخذه على النسخ السينمائية السابقة لمعالجة الرواية، هو أنها كانت مجرد ترجمة بصرية للأحداث الرئيسية للرواية، ومجرد ترجمة وفقط دون إضافة أي أبعاد لهذه الترجمة، ليعتبر الجيد من هذه النسخ ما هو إلا عمل رومانسي جيد الصنع يدور في إطار تاريخي بعيد، وإطار مكاني جميل ومريح، مع سرد لحكايات أربع فتيات جميلات كنسخة عام 1994.

أما نسخة “غيرويغ” فعلى الرغم من حفاظها على أحداث ومشاهد الرواية الكلاسيكية، فإنها استطاعت أن تستنبط من الرواية معاني وقضايا، كأبعاد اجتماعية مهمة تتماشى مع طبيعة العصر الحالي والمجتمعات الحديثة التي -للأسف- أثبتت أن الحداثة والمدنية شملت بها كل شيء عدا قضايا حقوق المرأة فما زالت مناقشتها أمرا يصلح مع نص يزيد عمره على 150 عاما. ومن هذه القضايا الاستقلال المادي للمرأة، وهل يقتصر دور المرأة في المجتمع على الزواج والإنجاب؟ أم يجب على المجتمعات أن تعامل المرأة على أنها كائن مستقل لها طموح مهني واجتماعي، وليست مجرد تابع للرجل، وذلك من خلال شخصية “جو مارش” التي قررت أن تسعى خلف حلمها بأن تكون كاتبة، وأن تتكسب وتستقل ماديا، بل وأن تدعم أسرتها ماديا من خلال كتاباتها، وأن تتجاهل في سبيل تحقيق حلمها كل ما يمكن أن تتعرض له من مضايقات نظرا لاختلافها عن قريناتها، ولتفضيلها مصيرا مغايرا عن مصائر نساء وفتيات هذا العصر التي كانت تتلخص في الزواج والإنجاب.

جو تصارج لوري بأنها لا تحبه ولن تتزوجه

 

خيار الزواج والأسرة.. تميز فكرة الاستقلالية

مما يُحسب لمعالجة “غيرويغ” عدم إدانتها أو انتقاصها لخيار الفتاة التي تنحاز لخيار الزواج وتكوين الأسرة، وذلك من خلال شخصية “ميغ” التي تشرح وجهة نظرها بوضوح لشقيقتها “جو” وهي تنهرها لقبولها الزواج من صديق معلم “لوري”، معللة رفضها بأنه خيار خاطئ، فتدافع “ميغ” بقوة وثبات عن خيارها قائلة “ليس لمجرد أنه ليس خيارك وليس ما تفضلينه يصبح قرارا أو خيارا خاطئا، أنا أُحبّ، وسأكون سعيدة معه، وهو أيضا”، مما يعكس رؤية “غيرويغ” المتميزة لفكرة الاستقلالية، وهي أنه ما دام خيار الزواج والإنجاب وتكوين الأسرة هو قرار الفتاة دون ضغط أو إلزام أسري أو مجتمعي؛ فهو حقها تماما، ولا ينتقص منها شيئا، ولا يُعتبر قرارا أو خيارا معيبا، ما يجعله هكذا في الواقع، هو الإجبار عندما تجد الفتاة نفسها لا تملك سوى الإذعان والموافقة.

كما يُعد من أهم نقاط تميز معالجة “غيرويغ” أيضا؛ التركيز على الشخصيات التي كانت تبدو ثانوية في النسخ أو المعالجات السابقة، حيث كان ينصبّ كل التركيز على شخصية “جو” كشخصية رئيسية ومحورية وتغافل بقية الشخصيات، في حين أضاف إبراز “غيرويغ” لتلك الشخصيات ثقلا سرديا للفيلم، فنقترب أكثر من شخصية “آيمي” التي تُصرّ هي الأخرى على دراسة الفن والرسم في فرنسا، وترفض حُبّ الشخص الذي أحبته طوال عمرها، لمجرد أنها أدركت أنه لا يريدها لشخصها، لكنه يريدها لأنها بالنسبة له مجرد ظل لشقيقتها “جو” التي رفضته. فترفض “آيمي” حبه الذي طالما تمنته، وتعلن أنها شخصية مستقلة وأنها عاشت تكافح طوال حياتها كي لا تكون مجرد ظلّ لأختها “جو”، وأنها ستستمر في كفاحها هذا حتى على حساب قلبها، ليدرك “لوري” أنه لن يفوز بها إلا لو أصبح شخصا جديرا بها، وهو ما حدث فيما بعد عندما سافر وعمل جاهدا ليعود لها شخص يُعتمد عليه، ليؤازرها في محنة وفاة شقيقتها “بيث”.

“الفلاش باك”.. سرد مُغاير

اعتمدت “غيرويغ” في معالجتها للرواية الكلاسيكية على نمط السرد غير التقليدي وغير الخطي، وذلك على عكس كل النسخ السينمائية السابقة التي اتبعت نفس نهج البناء الدرامي للرواية.

لكن “غيرويغ” اعتمدت على الفلاش باك، أو أن يكون هناك حدث أساسي في الحاضر يحيلنا إلى حدث له علاقة به في الماضي، حيث نرى أو نتعرف من خلاله على جزء من الحكاية، وهي التقنية التي أجادت “غيرويغ” استخدامها وتوظيفها، خاصة فيما يخص التأثير العاطفي، مثل مشهد رقصة “جو” مع “فريدريك” التي تحيلنا إلى رقصتها مع “لوري” وبداية علاقتها المعقدة به.

جو بعد أن قصت شعرها وباعته كي توفر المال اللازم لأمها، وذلك كي تسافر وتحضر والدها المصاب في الحرب الأهلية

 

خيارات الحياة القاسية.. معاناة الإنسانية الشاملة

من أهم ما يميز معالجة “غيرويغ” للرواية الكلاسيكية، هي أن المعالجة لم تكن معالجة نسوية قاصرة فقط على العرض والتركيز على قضايا المرأة المزمنة منذ ذلك الوقت والمستمرة حتى الآن مثل التحقق والاستقلالية، لكنها أيضا تُعتبر معالجة إنسانية حياتية يمكن أن تلمس العديد من النماذج البشرية بما فيها الرجال، مثل فكرة خيارات الحياة التي تجبرنا على التضحية بأحلام غالية وتوديعها إذعانا منا للحياة وقسوتها، بالضبط كما أذعنت “جو” لرغبات ناشرها في كتابة قصص من منطلق تجاري بحت، فقط كي تتكسب منها لمساعدة أسرتها، وذلك في ظلّ غياب ربّ الأسرة لمشاركته في الحرب الأهلية الأمريكية، أو حتى حينما اضطرت لقص شعرها -مصدر جمالها الوحيد على حد تعبير شقيقاتها- وبيعه كي توفر المال اللازم للأم، لتسافر وتحضر الأب بعد إصابته في الحرب.

من أكثر مشاهد الفيلم تأثيرا مشهد الحوار والمصارحة الذي يدور بين “جو” وبين والدتها بعد وفاة شقيقتها “بيث”، حينما تنهار “جو” وتخبر والدتها بشكها في قرار رفضها الزواج من “لوري”، وهل تسرعت في هذا القرار؟ وتخبرها بأنه لو عاد وطلب منها الزواج فستوافق على الزواج منه لأنها تشعر بالوحدة الشديدة.

تعبر “جو” من خلال ذلك المشهد عن الخوف والقلق وعدم اليقين الذي يمر به ربما كل إنسان في حياته، الشك الذي قد تفرضه الحياة علينا رغم يقيننا الشديد بما نريده في الحياة وما نريد أن نفعله، شعور إنساني بحت غير قاصر على النساء دون الرجال أو العكس.

جو يُخيّم عليها الحزن بعد وفاة شقيقتها المقربة بيث

 

“ألكوت”.. حين يعاني الكاتب فيرسم نفسه

تحلت “غيرويغ” بشجاعة نابعة من فهمها العميق لكاتبة النص الأصلي “لويزا ماي ألكوت” وظروف حياتها، حيث جعلتها تغير نهاية الرواية، لتضع في الفيلم النهاية التي أرادتها “ألكوت” نفسها لروايتها، ورفضها الناشر “توماس نايلز” الذي كانت تتعامل معه.

لم تكتب “ألكوت” روايتها أصلا بمحض إرادتها، حتى إنها كتبت جزأها الأول الذي زاد عن 400 صفحة في أقل من عشرة أسابيع فقط، لكنها نزلت على رغبة “نايلز” الناشر حينما طلب منها أن تكتب عملا موجها للفتيات على أن تكون نهايته سعيدة، وعندما رفضت رفض نشر كتاب والدها المفكر والشاعر والمعلم الذي كان يعاني في تلك الفترة من الاكتئاب الشديد.

فقررت “ألكوت” أن تكتب الرواية مستلهمة معظم أحداثها تقريبا من حياتها الشخصية هي وأسرتها وشقيقاتها، حتى أنها جعلت بطلات روايتها ينتمين إلى كونكورد بولاية ماساتشوستس شمال شرق الولايات المتحدة الأمريكية، وهي المنطقة التي تنتمي لها وعاشت بها طفولتها وصباها وشهدت كل ذكرياتها مع أسرتها وشقيقاتها.

جو تصارح والدتها بوحدتها الشديدة وشكها في خياراتها الحياتية

 

نهاية الرواية التي لم تنشر.. انتصار ولو بعد حين

أرادت كاتبة الرواية “ألكوت” في البداية أن تنتصر لخيارات “جو” الحياتية وشغفها وعشقها للكتابة، وعلى حد تعبير كل من “ألكوت” في رسائلها لأصدقائها وما جاء على لسان بطلتها “جو” في الرواية؛ فإنها تُفضّل أن تحيا كعانس مستقلة تتحكم في حياتها بنفسها، على أن تدعَ رجلا يتحكم في حياتها، وهو ما كان مصير “ألكوت” فعلا التي عاشت حياتها دون أن تتزوج ودون أن تنجب، بل عاشت فقط للأدب والكتابة، ثم لرعاية ابنة شقيقتها التي توفيت وتركتها، وكأن “غيرويغ” أيضا أرادت لـ”ألكوت” أن تحظى بالنهاية التي أرادتها، فانتصرت لرغبتها بعد 150 عاما، كتحية لها على فكرها التقدمي، وقبل كل شيء على نصها العابر للزمن.

انتصرت “غيرويغ” لواقعية الحياة ولمحدودية الخيارات التي ما زالت تعاني منها المرأة حتى الآن، وانتصرت لنظرة التحقق والرضا التي ارتسمت على ملامح بطلتها “جو” وهي تشاهد مراحل تجميع وطبعات حروف وكلمات روايتها، حتى حملت الكتاب بين يديها وكأنها تحمل وليدها، في دلالة على أنه يمكن للمرأة أن تشعر بالرضا والتحقق من قدرتها على بث الروح والخلق بطرق وأشكال أخرى غير إنجاب الأطفال.

استطاعت “غيرويغ” بتلك النهاية أن تنتصر للواقع الصعب على النهايات الرومانسية الحالمة غير الواقعية للأعمال الكلاسيكية التي تداعب رغبات الجمهور، سواء كان هذا الجمهور من مشاهدي الأفلام أو من قُرّاء الأدب، كما أكدت بتلك النهاية على أن “جو مارش” أيقونة نسوية حقيقية.