“هروب”.. رحلة العودة بالذاكرة إلى ماضي الألم في كمبوديا

د. أمــل الجمل

“أبدا، لا يمكن أن أفعل ذلك بدون ابنتي”. هكذا ظلت الأم تردد بحزم على المُهرّب الذي قال لها مرارا وتكرارا إنه “سيتعين عليها أن تترك ابنتها حتى ترتفع فرصها هي في البقاء على قيد الحياة”، مؤكدا على أنها “تُعرِّض حياة الجميع للخطر في ظل وجود طفلة عمرها ثلاثة أشهر، لأن بكاءها سيلفت أنظار اللصوص وأمن الحدود”.

أمام إصرار الأم ظهر اقتراح بأن يجعلوا الطفلة الرضيعة تبتلع قرصا مُنوّما بالكامل، لقد كان هذا مجازفة لأنه يُشكل خطرا على حياة الرضيعة، لكنه ظل الخيار الأوحد، وعندما استيقظت الطفلة وتعالت صرخاتها في منتصف طريق الصعود وعبور “تل الموت”؛ أعطوها قرصا آخر.

كانت الأم في حالة رعب وفزع من أن تفقد ابنتها، لذلك عندما فتحت الطفلة عيونها في صباح اليوم الذي انتهوا فيه من عبور غابة الموت وتلالها؛ صرخت. هنا فقط عادت الحياة للأم، وكان رد فعل الآخرين “أنت محظوظة بنجاة ابنتك، هناك آخرون فقدوا حياتهم”.

بقايا ذكريات الخمير الحمر القاسية.. معاناة الشعب الكمبودي

هكذا تحكي الأم لابنتها المخرجة “نيري أديلين هاي” ذات الأربعين عاما، وذلك بالفيلم الفرنسي المُعنون بــ”هروب” (Escape) البالغ 71 دقيقة عن فترة الخمير الحمر في كمبوديا (نظام الإبادة الجماعية)، ورحلة الهروب العظيم؛ هروب مئات الآلاف من الجوع، من الموت، ومن المستقبل المجهول، حتى نجحت الأم فأقامت لفترة في منطقة بين كمبوديا وتايلاند، ومن هناك واصلت الهروب إلى فرنسا، فأقامت في أحد المخيمات بالمناطق النائية بفرنسا مع آخرين.

 

كانت الأم ترفض الحديث، ترفض استعادة تلك الأيام القاسية، وتُحاول أن تسقطها من ذاكرتها، تريد أن تستمتع بالحياة التي تعيشها حاليا، فالفيلم الوثائقي من توقيع ابنتها، ويبدأ بها وهي تمارس السباحة وسط الأمواج، ثم يعود إليها وهي تُخطط للسفر لقضاء إجازة على شاطئ البحر.

نسمع ابنتها -من خارج الصورة- تحاول إرغامها على رسم لوحة تُصوّر الشعب الكمبودي وهو يحصد محصول الأرز، ترد الأم عليها بأن هذا تعذيب، إنها تريد أن تنسى هذه الفترة.

“هل ستأتين معي لزيارة كمبوديا؟”.. نبش في جراح غائرة

تعاود البنت إلحاحها على أمها قائلة “هل ستأتين معي لزيارة كمبوديا؟”، فترد الأم برفض قاطع “لا.. لن أذهب، أنا حياتي هنا، أحافظ على جذوري وتقاليدنا، لكنني لا أريد أن أذهب لهذا المكان مجددا، أنا بنيت حياتي هنا”.

تُواصل المخرجة حصارها، فتسألها عن جدتها، لتقول المرأة الثمانينية بلهجة جافة وكأنها تُغلق باب التورط العاطفي في الماضي “لقد مرضت وماتت، لم تكن تملك القوة والإرادة لتعيش في كمبوديا وتحت حكم الخمير الحمر، إن مرضت غالبا ستموت لأنك لا تملك الدواء”.

تسألها المخرجة مجددا”وجدي؟ ألم تعرفي مصيره؟ ألم تبحثي عنه”، فترد الأم بلهجتها الباردة “لا، لم أعرف عنه شيئا، هناك نداء الغريزة،، نداء البطن أولا، عندما يشعر الإنسان بالجوع ولا يجد ما يعيش عليه، فلا بد أن يضمن أن يوفر طعامه أولا، لابد أن يحمي نفسه من الموت جوعا قبل أن يفكر في الآخرين”.

“عندما تلمس الأشياء تجعلها تزدهر”.. شخصية ثمانينية أنيقة

رغم مرور أربعين عاما على المأساة التي عاشتها في كمبوديا، ورغم حياتها المرفهة حاليا بفرنسا، فإن الأم لا تزال تواصل رحلة الهروب من الماضي والذكريات المؤلمة، فتهرب عبر الغرق في التفاصيل الصغيرة بالانشغال في كافة أمور الحياة، تُراكمها فوق بعضها لتصنع سدا صخريا يُغلق الباب المؤدي للماضي، فنعيش معها أثناء رحلتها في الأسواق وفي الحياة.

والدة المخرجة المرأة الأنيقة التي تهتم بملابسها في لحظة تأمل للحياة والماضي

 

إنها امرأة أنيقة من دون مبالغة، تهتم بملابسها ولمسات الزينة الخفيفة وتسريحة شعرها، تتفقد أنواع الأسماك وفواكه البحر، تختبرها، تتذوقها بمتعة كبيرة قبل أن تشتري أيا منها، تساوم على الأسعار. إنها امرأة مفعمة بالحيوية رغم سنوات عمرها التي تتجاوز الـ80.

تقول بثقة للصديقات المجتمعات في بيتها “أنا شخصيتي عندما تلمس الأشياء تجعلها تزدهر، أنا أقاوم، أرفض الاستسلام، أحب أن أُعمّر المكان من حولي. هذا البيت لم يمنحوه لي، لكني أنا الذي هيأته وأعددته بجهودي وقدراتي، بعملي المتواصل. في فرنسا لم يمنحوني شيئا مجانيا على الإطلاق. كانت بعض الجهات تعطينا معونة لا تغني ولا تسمن من جوع، فكان لا بد أن أعمل باجتهاد، هناك أناس آخرون سقطوا وماتوا في كمبوديا، أو على طريق الهروب، لأن شخصيتهم ليست قوية، لأنهم يفتقدون للإرادة”.

“من أجل لحظة التطهر هذه”.. عودة إلى نقطة البداية

فجأة، عندما تزور المكان الأول الذي استقبلها حين وصلت إلى الأراضي الفرنسية، وعندما رأت المرأة التسعينية التي ساعدتها في تلك الأزمة؛ هنا فقط تُفتح بوابة السد المنيع، ينطلق الفيضان فتبدأ الأم في الحكي بعد رفض طويل وممانعة، وتبدأ في التحرك في المكان بلهفة من دون توقف، حتى أن ابنتها تقول “فعلت كل ما فعلت من أجل هذا، من أجل لحظة التطهر هذه”.

لقطة لبيت المخرجة ووالدتها الذي هجروه في كمبوديا بعد رحلة العذاب التي تعرضوا لها هناك

 

صحيح أنها رفضت بحسم أن تعود إلى كمبوديا رفضا قاطعا لتصوير أي لقطات بالفيلم، حيث البيت الذي هجروه، كما رفضت استعادة أي من تفاصيل الرحلة بالمكان الواقعي، لكنها على الأقل وافقت على الحكي بتحفظ في البداية، ثم خضعت لإرادة وإلحاح ابنتها “نيري أديلين هاي” التي كانت تُحاول أن تسترجع الخطوات التي اتخذتها عندما كانت طفلة لاجئة، فهل حقا المخرجة كطفلة ذات ثلاثة أشهر فقط تستطيع أن تحتفظ ذاكرتها بشيء حتى سن الأربعين؟ هل تستعيد ما كانت تشعر بعد انقضاء فترة الخمير الحمر في كمبوديا؟ أم أنه الوهم والرغبة في توثيق مرحلة من تاريخ بلدها الأم؟

مقابر جماعية.. عقاب محاولات الإفلات من مصير مجهول

تعود المخرجة الفرنسية “نيري” إلى مسقط رأسها كمبوديا، وذلك للتصوير مع عمها وعائلته الذين لم يتمكنوا من الهروب لأنه لم يكن يمتلك أموالا كافية، بينما نجح والدها في تدبر الأمر مع المهربين، لأنه كان يمتلك ذهبا كافيا لذلك، حيث كان الذهب هو العملة الوحيدة القابلة للمقايضة مع المهربين.

حاول كثير من الناس الإفلات من المصير القاتم المظلم، وسعوا للهروب بما يمتلكون من ذهب، لكن الحظ لم يحالف الجميع، فقد كانت هناك معسكرات وخيام بناها رجال الخمير الحمر، كانوا يجمعون فيها المقبوض عليهم، وكان أهالي المكان يُشاهدون رجال الجيش يحفرون حفرا عميقة من دون أن يفهموا ما السبب وراءها، إلا بعد أن انتهت تلك الفترة، وأخليت المخيمات، ليكتشفوا المقابر الجماعية.

لقطة علوية بطائرة الدرون لأحد الأماكن التي اختبرتها المخرجة، حيث وضعت نفسها في وسط الكادر وكأنها تتمثل دور المُشاهد

 

نرى تلك الأماكن بكاميرا معلقة بالطائرة “الدرون”، بينما في عدد من اللقطات تضع المخرجة نفسها في وسط الكادر كأنها تتمثل دور المُشاهد، حيث تعطي ظهرها للكاميرا بينما تتأمل المكان، لكنها تحكي بصوتها وتطرح تساؤلاتها وذكرياتها، وتجادل والدتها أحيانا، وتمارس معها بعض الطقوس في الأماكن الدينية.

“الصورة المفقودة”.. عمل مشحون بالعاطفة من وحي الألم الكمبودي

ربما تستدعي مشاهدة هذا الفيلم فيلما وثائقيا آخر هو “الصورة المفقودة” (L’image manquante) بتوقيع المخرج العبقري “ريثي بانه”، لكن المؤكد أن المقارنة ستظلم فيلم “هروب”، لأن الصورة المفقودة تحفة سينمائية بل لؤلؤة خالصة، وفي تقديري الشخصي أنه من أهم مئة فيلم في تاريخ السينما العالمية، فالمخرج يحكي عن تجربة مروعة عاشها بنفسه، وشاهدها بعيونه في طفولته، حيث كان يعيش حياة ثرية ثقافية مليئة بالموسيقى والرقص مع أفراد عائلته، قبل أن تُفتح أبواب المجزرة والإبادة، فيشاهد موتهم بعيونه.

في الفيلم تتجلى موهبة وعبقرية “ريثي بانه” في قدرته على المزج بين الأرشيف وبين نماذج الصلصال الإبداعية التي صنعها بيديه ليسرد حكايته وحكاية عائلته، وذلك بأسلوب فني شاعري جذاب ومؤلم للغاية، مع مراعاة أن “ريثي بانه” نفسه عندما قدّم فيلمه التالي “ملوث بالإشعاع” لم ينجح في خلق تحفة سينمائية مماثلة لعمله السابق، فـ”الصورة المفقودة” يُعد عملا استثنائيا مشحونا بالعاطفة والإبداع البصري.

 

أما فيلم “هروب” فهو عمل يُنحي جانبا العواطف إلا في عدة مشاهد قليلة جدا في النصف الثاني من الفيلم، إنه عمل ليس عمّا ارتكب من مجازر في كمبوديا، بقدر ما هو فيلم عن المقاومة ورحلة الهروب ومحطات التوقف. وربما يكون السبب في ذلك أن للمخرجة تجارب سابقة، منها تجربة مع والدها حكى فيها ما حدث له ولعائلة أثناء الهروب، كذلك للمخرجة تجربة روائية عن تلك الفترة.