هل خانت باكستان أسامة بن لادن؟

محمد موسى

اختار البرنامج التسجيلي البريطاني المعروف “هذا العالم”، الذي يُعرض على القناة الثانية لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، في أولى حلقات موسمه الصيفي الجديد، فيلماً عن أسامة بن لادن حمل عنوان “مُؤامرة بن لادن..؟”. هذه ليست المرة الأولى التي تقارب فيها السينما التسجيلية “بن لادن” ولن تكون الأخيرة. فهو موضوع قديم جديد لا ينتهي الجدال فيه. هذا رغم أن سنوات أربع صارت تفصلنا عن مقتل قائد تنظيم القاعدة بعد العملية المباغتة التي نفذّتها قوة عسكرية أمريكية خاصة في بيته الباكستاني. لازال هناك الكثير الذي يُمكن أن يُقال في حياة الرجل الظاهرة التي يلفّها الغموض والتكهنات، وخاصة السنوات التي غاب فيها عن الظهور الإعلامي، ونهايته المُريبة. والأخيرة هي ما سيُركز عليه هذا الفيلم التسجيلي بشكل تفصيلي.

أما مناسبة الفيلم، فهو مقال طويل للصحفي الأمريكي الاستقصائي سيمور هيرش، تحت عنوان “قتل أسامة بن لادن”، والذي يكشف فيه عن مُؤامرة باكستانية، سَلمت في النهاية رأس بن لادن إلى الحكومة الأمريكية. فالاستخبارات الباكستانية، وحسب المقال ذاك، هي التي وفرّت الملجأ الذي كان يختبأ فيه بن لادن، وحمته لسنوات طويلة، وهي التي قررت ولأسباب غير معروفة التخلِّي عنه، وكشف سره لنظيرتها الأمريكية. يستند المقال في جزء كبير منه إلى شهادة لقيادي في “سي.أي.إن” الأمريكية، رفض الكاتب كشف هويته. ليس هيرش اسماً عادياً، فالصحفي الذي يقترب من عقده الثامن، هو واحد من أهم الصحفيين التحقيقيين في الولايات المتحدة والعالم، بسيرة ناصعة أهلّته للفوز بعدة جوائز صحفية مرموقة، وهو الأمر الذي جعل مقاله الذي نشره في بداية هذا العام، يحظى باهتمام إعلامي كبير، وأثار رغبة البرنامج التسجيلي البريطاني للتحقيق في الحادثة مُجدداً.

تقود المهمة التحقيقية في الفيلم المراسلة البريطانية جين كوربن، وهذه بدورها لها قصتها الخاصة مع بن لادن وتنظيم القاعدة، فهي قضت ما يقارب عقدين من السنوات، تلاحق أخبار زعيم تنظيم القاعدة كمُراسلة شؤون الشرق الأوسط، إذ ذهبت إلى مغارة تورا بورا في أفغانستان، بعد إشاعة أن أسامة بن لادن يختبي هناك، وزارت البيت الذي قُتل فيه بن لادن في اليوم التالي من العملية الاستخباراتية  في عام 2011. تنجح الصحفية البريطانية في مقابلة الأمريكي سيمور هيرش، كما ستحظى بلقاء نادر مع مايكل موريل، المدير المتقاعد في “سي.آي.أي”، والذي سيدحض تماماً نظرية المؤامرة، وسيؤكد أن العملية التي قام بها فريقه وقتها، هي نتاج سنوات من العمل السريّ في تعقب آثار بن لادن، والذي قاد في النهاية إلى ساعي البريد الخاص بزعيم القاعدة ومن ثم لبيته المُحصن، أي جاءت شهادة المسؤول الأمريكي السابق في مُجملها تأكيداً جديداً للرواية الرسمية للحادثة.

الصحفي الأمريكي سيمور هيرش

يدور الفيلم التسجيلي حول هوية الأمريكي الذي سرّب نظرية مؤامرة تعاون الاستخبارات الباكستانية مع السلطات الأمريكية في عملية اغتيال بن لادن، لكنه لن يقترب من الوصول لكشفها، فالصحفي الأمريكي هيرش سيمتنع عن البوح بالاسم. في المقابل يحاول الفيلم أن يصل إلى حقيقته الخاصة، عبر التحرِّي عن قصة المقال. فيقابل شخصيات مهمة، منها مراسلة صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية “كارلوتا غال”، الخبيرة في شؤون القاعدة والإرهاب والتي قضت سنوات طويلة في باكستان، التي ستؤكد أن من الصعب جداً تخيّل أن بن لادن قضى سنوات طويلة في منطقة تتواجد فيها بكثرة القواعد العسكرية والأمنية الباكستانية، دون أن تكون السلطات في البلد متورطة بشكل أو بآخر في احتضان بن لادن. هذه الفرضية سيؤكدها جُلّ الذين تحدثوا للفيلم، ومنهم من سيذكر أن القوات الأمنية الباكستانية وصلت بعد نصف ساعة على العملية الأمريكية، رغم أنها قريبة جداً من بيت بن لادن.

يحفل الفيلم التسجيلي بالتفاصيل الصغيرة المُثيرة عن السنوات الأخيرة من حياة بن لادن، منها حذره الشديد من الاستخبارات الغربية، والذي دفعه إلى منع استخدام أي هواتف نقالة أو أجهزة اتصالات في البيت، كذلك منع زعيم القاعدة السابق زوجاته الثلاث وأطفاله من الخروج تماماً من البيت ذو الجدران العالية ولسنوات طويلة. كما ركز الفيلم على نهم بن لادن للقراءة، فالقوة الأمريكية عثرت على عشرات الكتب التي تدور حول الإرهاب وعنه شخصياً، في مكتبه في غرفة نومه. مرَّ الفيلم كذلك على الروايات التي تقول أن القوات الأمريكية عثرت على أدوية جنسية مقوية وأفلام إباحية في البيت، وهو الأمر الذي استبعده الإعلامي العربي عبد الباري عطوان الذي كان أحد وجوه الفيلم. كذلك ناقش الفيلم بتفصيلية ما يُزعم أنها وثائق وُجدت في بيت بن لادن، وتخص نشاط تنظيم القاعدة الإرهابي، الذي بدا أن بن لادن كان يقوده بكل تفاصيله وحتى ساعات حياته الأخيرة.

لا شك أن الشخصيات التي وافقت الحديث للفيلم، هي التي ستمنح هذا الأخير  مصداقية كبيرة، وترفعه من مجرد تحقيق بحث عادي في نظرية مؤامرة، إلى فرصة نادرة للإطلاع على أفكار وانطباعات مجموعة من المختصين، من الذين قضوا سنوات طويلة بتعقب حياة بن لادن. فالذين تحدّثوا للفيلم كانوا واعين كثيراً بما صرّحوا به، ولم تجنح قصصهم إلى التهويل أو العاطفية. حتى مايكل موريل المسؤول الأمريكي السابق، كان متزناً كثيراً في حديثه. إذ اعترف بأن الحكومة الأمريكية لم تكشف كل الحقائق التي تخصّ حادثة اغتيال بن لادن، لكنه عاد وأكد أن ما تم الكشف عنه، هو ما وقع فعلاً. المسؤول نفسه كشف أنه شاهد فيلماً عن جنازة بن لادن الإسلامية التي أقيمت على ظهر باخرة حربية في وسط البحر، وأن “العالم” ربما سيرى يوما ما ذاك الفيلم الذي صورته حكومته، وأيضا اللقطات التي تُظهر بن لادن جثة هامدة، والتي قررت الحكومة الأمريكية عدم عرضها إعلامياً، رغم الضغط الكبير عليها لفعل ذلك وقتها.