“همسات الحرب”.. ضجيج معارك الشرق يفسد هدوء برلين

ندى الأزهري

بعد موجة أفلام أمريكية عن حروب مُعاصرة وجنود أمريكيين في العالم من أفغانستان إلى العراق؛ تَظهر اليوم هذه النوعية في السينما الغربية، سواء أكانت وثائقية أم روائية، حيث تسعى أفلام كتلك لتوصيل صورة وفكرة وحدث، تكشف واقعة أو مجزرة، تُبدي تأثيرات نفسية على الجنود، أوضاع سكان محليين، تُظهر دور الإعلام في التعامل مع الوقائع. جميعها مواضيع مهمة ومُثيرة يُسلّط تناولها الضوء على خفايا، أو ربما فقط قضايا منسية.

 

في مهرجان سالونيك الأخير في اليونان (عُقد ما بين 4 و14 نوفمبر/تشرين الثاني 2021) عُرضت عدة أفلام من هذه النوعية، كان أحدها “همسات الحرب” (Whispers of War) الذي أنتج عام 2021، وقام بإخراجه المخرج وكاتب السيناريو الألماني الشاب “فلوريان هوفمان”، حيث شارك الفيلم مع 23 فيلما آخرين في قسم “آفاق مفتوحة”، وهو مُكرّس -كما يصفه المهرجان- “للأفلام الأكثر أهمية في زمننا الحالي، تلك التي تذهب في رحلة عبر الاتجاهات الأساسية الأربعة”. وقد نال الفيلم جائزة الجمهور، وهي مالية يمنحها الراعي الأساسي للمهرجان “فيشر”، وتُمنح لستة أفلام من مختلف أقسام المهرجان.

“إنه ألماني حقا”.. صدمة في حياة المهاجر المندمج في المجتمع

يطرح الفيلم تلك الرابطة التي لا تنفصم بين الصدمة والذاكرة وقوة الصورة ودور الإعلام، ويُبنى على شخصية “خليل” (الممثل الإيراني هادي خانجان بور)، وهو مدرّس في مدرسة ابتدائية، ويعيش مع صديقته الصحفية الألمانية ليلى (الممثلة كريستين سوكاو) في برلين.

من خلال هذه الشخصية يُعالج الفيلم محاور تتعلق بالانتماء، ووضع الإعلام الألماني المحلّي وأولوياته، لا سيما تلك المُتعلقة بالعالم “الخارجي”.

خليل هو مثال للمُهاجر المندمج في المجتمع كما يصفه أصدقاء في الفيلم “إنه ألماني حقا”، فهو ملتزم في عمله، يتعامل مع تلامذته بهدوء ومسؤولية، ويحاول حلّ الخلافات بين انتماءاتهم المتعددة بكل صبر وحكمة، لكن حياته المنظّمة اضطربت، وبدأت بالتلاشي عندما عرضتْ عليه ليلى العاملة في محطة تلفزيونية ألمانية مقاطع فيديو سجلها هُواة عن أحداث عنف ارتكبتها السلطات التركية في مسقط رأسه “سيزر”، وهي منطقة تقطنها أغلبية كردية في جنوب شرق تركيا.

البطل خليل يعمل مدرّسا في مدرسة ابتدائية في برلين، وهو مثال للمُهاجر المندمج في المجتمع

 

تريد ليلى -قبل بثّ هذه المقاطع- مساعدته لترجمتها والتحقق من مصداقيتها، لقد أصابته المُشاهدة بصدمة كبيرة، وجعلته هذه المقاطع يتأثر على نحو غير متوقع، ويُعيد النظر في أشياء كثيرة كان ظنّ أنه تخلّص منها. لقد خُيّل إليه أنه يسمع فيها صوت أخته، بل يرى صورتها، وهي التي أُعلنت وفاتها منذ سنوات مع الأبوين في أحداث العنف هناك.

محاولات التواصل عن طريق الجالية الكردية.. أزمات الوجود والهوية

تبدأ بوادر أزمة وجودية وهوياتية لدى خليل، وتُطرح في الفيلم على نحو مكثف وعميق، وإن انحرف بها الإخراج أحيانا نحو المبالغة، لا سيما في نهاية الفيلم، فبعد حدث طارئ يُعيد الماضي إلى الواجهة تبرز تحولات شخصية خليل، ويبدو وكأن كل ما سعى لدفنه والتهرب منه كان دائما هنا، ومستعدا للظهور عند أدنى مُحرّض.

يُحاول خليل الاتصال بأخته التي ظهرت له من جديد، ويعرف أن لا سبيل أمامه لذلك سوى التواصل مع جالية كردية نشطة سياسيا في برلين، تتابع وتحاول نشر كل ما يتعرض له الأكراد في تركيا، لكن وعلى مبدأ “ساعدني لأساعدك”، فإنهم مقابل مدّ يد العون له، يطلبون منه توصيل مقاطع فيديو مصوّرة تنقل ما يحدث في مدينة سيزر التركية إلى محطات الأخبار الألمانية. إنما ليس الأمر بديهيا، على الرغم من عمل صديقته في إحداها.

مقطع مصوّر ينقل أحداث عنف ارتكبتها تركيا في مدينة سيزر التركية ذات الغالبية الكردية

 

هنا عامل تحريض إضافي يدفع بخليل للتأمل بهويته ومدى اندماجه في المجتمع الألماني، ويشكّل هذا محورا ثانيا للسرد يتعلق بكيفية عمل الإعلام ومواقفه الخلفية والظاهرة أمام أحداث تقع في الجهة الأخرى من العالم.

أولويات البث.. قضايا مصيرية في مهبّ ريح الإعلام

من خلال محاولات خليل إقناع الإعلام بنشر قضيته، يبرز على نحو واضح ما يدور في الكواليس، حيث لا يوجد أي معدّ برامج ومذيع مهتم حقا بمتابعة تفاصيل ما يجري هناك، إلا إذا تدخلت عوامل جديدة، أو تحلّى الشريط بتفاصيل مثيرة، كأن يكون المصوّر إمرأة مثلا، أو أن تظهر مُقاتلة بزيّ محاربين.

كما سيكون من الأفضل أن تُسمع نبضات قلب، أو لهاث المصور، أو أن يظهر المتحدث خلال التصوير دلالة الخطر. فأولويات البثّ ليست واحدة، فثمة ما له في الأعراف الإعلامية قيمة إخبارية أعلى، ويحقق مشاهدات أكثر.

أبرزت مشاهد عدة من الفيلم من خلال نقاشات المسؤولين في التلفزيون وجدال خليل وليلى، أن ما يعتبره بعض (وهو هنا خليل والأكراد) قضايا مصيرية وربما أولوية طالما يتعلق الأمر بموت وقمع، فإن بعضا آخر ينظر له على أنه قضية من بين أخريات، وليست هناك حاجة لتركيز دائم عليها مهما بلغ ضحاياها.

صناعة المقاطع.. لعبة الإثارة التي يحبها الإعلام

يؤثر اختلاف وجهات النظر سلبا على خليل وعلى علاقته بصديقته، فهما ليسا على نفس الموجة، وهذا الاختلاف في النظرة يعكس فوارق ثقافية أيضا، فالماضي والشعور بالانتماء الهوياتي للكرد يُحركان رغبات خليل وأفعاله.

الممثل الإيراني هادي خانجان بور الذي قام بدور”خليل” وصديقته الممثلة كريستين سوكاو التي قامت بدور ليلى 

 

في مقابل ثقافة أخرى تُمثلها ليلى الألمانية التي تنظر للأمور بمقياس آخر، وتوجّه نظرة أكثر تجردا وحيادية، فهي تدرك أن بثّ شريط فيديو عادي مُشابه لعشرات مثله سيجعل الناس ينسونه خلال يومين، وبالتالي عليهم فعل ما يجعله أكثر إثارة وقبولا.

مع هذه النظرة النسبية للأمور يقرر الاثنان في سبيل إخضاع المؤسسة الإعلامية التلاعب بالفيديوهات لإدخال عناصر أكثر جذبا؛ ويظهر في مشهد توضيحي مهم في الفيلم سهولة هذا التلاعب.

هكذا حصلا أخيرا على اهتمام وسائل الإعلام الذي أراداه، فالتقارير الإخبارية والنقاشات السياسية عن أحداث سيزر تتسارع في ألمانيا، لكن عندما وصل الصراع إلى فصل المدرسة حيث يعمل خليل، وحيث هناك أتراك وكرد، وحين أدرك تلاعب المؤسسة الكردية معه لعمل ما يُساهم في نشر قضيتهم؛ يدرك أن الأمر لم يعد مجرد مسألة الفوز في المنافسة على اهتمام الأخبار، بل حماية حياته ومهنته في برلين.

محور الخير والشر.. صراع الإعلام وأصحاب القضايا

يحاول المخرج إيجاد نوع من التوازن في فيلمه، وهو أن لا يُظهِر محورين يقف كل منهما في مواجهة الآخر، فهناك شرير ممثل بوسائل الإعلام، وخيّر ممثل بأصحاب القضايا، بل يبرز أن المحورين خاضعين لظروف يمكن فيها لأيّ منهما في لحظة ما أن يكون في ميدان معاكس.

الصحفية الألمانية ليلى تتناقش مع مديرتها حول تغطية التلفزيون الألماني لقضايا الأكراد في مدينة سيزر

 

قد يُغضب الفيلم الجميع، أو على العكس قد يرضيهم، كلهم إذا نظرنا له بعين حيادية، فالأتراك يقمعون مدينة، والأكراد يتلاعبون بالفيديوهات وبمشاعر إنسان، فنشر القضية هو الأهم، والإعلام الألماني يسعى لنسب مشاهدة عالية، مُفضّلا أحيانا الاهتمام بالتفاهات على قضايا إنسانية رئيسية. فيلم متوازن كفيلم وثائقي، وهو مشابه في أسلوبه الإخراجي لهذا النوع، خاصة أن المخرج قادم من الوثائقي.

“فلوريان هوفمان”.. نشأة وسط الخلافات الكردية التركية

في لقاء مع الجمهور بعد عرض الفيلم في سالونيك، تحدث المخرج “فلوريان هوفمان” عن مسؤولية السينمائيين في إبراز النظرة للإعلام كمادة استهلاكية، وعدم انشغال النشرات الإخبارية بإبداء ما يجري حقا. وقال إنه أبرز هذا في أحد مشاهد الفيلم حين تقول ليلى: ما يهم هو وجود امرأة في الفيديو وفي الزي الرسمي العسكري، وليس مشاهد الحرب.

كما أكد على أهمية الفبركة الإعلامية من خلال رد فعل خليل، فبالنسبة له تكفي الصورة ومشاهد العنف، لكن ليس لليلى والمسؤولين الإعلاميين، كما أنه سعى لإظهار كيفية تحليل صور الحرب، حيث لم يعد لقسوتها وعنفها تأثير، أو أنه أقل فأقلّ.

صورة تجمع المُخرج “فلوريان هوفمان” مع الممثلة “كريستين سوكاو” التي قامت بدور ليلى 

 

وفي حوار قصير خاص مع الجزيرة الوثائقية قال المخرج إنه نشأ في وسط كردي، فقد اجتمع في طفولته مع أتراك وأكراد في صفّه المدرسيّ، ونشأ مع خلافاتهما، ولاحظ كيف أن كل طرف  لم يكن راغبا بمعرفة ما يحصل للطرف الآخر، وأنه حين سمع بما حصل في سيزر عامي (2015-2016) قرر السفر إلى هناك، وعندما دخل المدينة لم يكن في باله إنجاز فيلم، بل فقط الاطلاع على ما يجري، وحين قرر عمل الفيلم، كان مهتما برصد تأثير هذا الخلاف على الجاليتين التركية والكردية في برلين، والتغييرات التي طرأت على العلاقة بينهما، كما كان لديه دافع آخر، وهو الإشارة إلى مسؤولية الألمان في نقل ما يحدث  في سيزر.

لقد التقى بهؤلاء الذين يصورون النشطاء هناك، والذين يذهبون للحرب بالكاميرا؛ آملين أن يتعرف العالم على ما يحصل، وآملين بالضغط على الحكومة للتدخل.