هوليوود.. عودة سينما الحرب

أمير العمري

بوستر فيلم خمسة عادوا.

كقاعدة عامة- يقال إن الدعاية نقيض الفن، وأن الفنان عندما يسخر عمله من أجل الدعاية السياسية لقضية من القضايا، فإنه يُفقد عمله الكثير، خاصة لو كانت موهبته تشهد عليه، وسمعته الفنية الجيدة تسبقه ويكون قد أصبح واحداً من السينمائيين المجددين في بلاده. هذه القاعدة يمكن تجاوزها أحيانا أمام التحدي في كيفية موازنة الفنان بين إيمانه الحقيقي بعدالة القضية التي يدافع عنها ورغبته في تسخير موهبته الفنية من أجل ذلك، وفي الوقت نفسه المحافظة على الموهبة نفسها من السقوط في هوة الدعاية الفجة التي تجعل من الفيلم مجرد قطعة عمياء من التعصب.

كان الحماس الصهيوني مثلاً عند عدد من المخرجين اليهود الأمريكيين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، دافعهم إلى إخراج أفلام سيئة السمعة للدعاية لإسرائيل لكنها هبطت كثيرا بالمستوى الفني لمخرجيها، وجعلتهم عرضة للسخرية حتى أمام من كانوا ينشدون الحصول على إعجابهم.

مثالاً على ذلك، اشير هنا إلى أن فشل فيلم “الخروج” Exodus (1960) الذي أخرجه المخرج اليهودي النمساوي أوتو بريمنجر ورصدت هوليوود له ميزانية ضخمة، وشارك فيه عدد كبير من كبار نجوم السينما الأمريكية، في تحقيق هدفه الدعائي، وقيل إن الممثل الكوميدي اليهودي مورت سال، الذى دعاه بريمنجر لمشاهدة الفيلم في عرض خاص، انتفض واقفاً بعد ثلاث ساعات وصاح: “أوتو.. دع شعبي يذهب”. أما الناقد البريطاني توم ميلن فقد علق على الفيلم في “دليل الأفلام” بقوله: “رغم كل ما اتُبع من حذر فقد جاء الفيلم، على الأقل في ضوء التاريخ اللاحق، قطعة بغيضة عمياء من الدعاية الصهيونية”. وقال ناقد آخر إن في فيلم “الخروج” أبواب للخروج أكثر من عدد النوافذ في فندق والدورف أستوريا”!

 

 

 

يمكن الحديث طويلاً عن معظم أفلام الدعاية النازية التي لم ترق قط إلى مستوى الأعمال الفنية، مع استثناء وحيد يتمثل فيما أبدعته المخرجة الألمانية ليني ريفنشتال. وأذكر هذه المخرجة تحديدا في هذا السياق لأن الفيلم الذي سأتطرق لمناقشته في هذا المقال، توقف أيضا عند فيلمها الوثائقي الشهير “انتصار الإرادة” (1935).

الفيلم الذي أتوقف عنده في هذا المقال هو الوثائقي الجديد “خمسة عادوا” (2017) Five Came Back الذي استلهمه مخرجه الأمريكي (الفرنسي الأصل) لورون بوزيرو Laurent Bouzereau من كتاب مارك هاريس الصادر عام 2014 ويروي فيه كيف وضع خمسة من كبار مخرجي هوليوود بصماتهم على سينما الحرب بعد أن خاضوا معركتهم الخاصة ضمن القوات الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، بحيث غيروا إلى الأبد، صورة الفيلم الحربي متجاوزين بشكل واضح تأثير “الجريدة السينمائية”.

يقع فيلم “خمسة عادوا” في ثلاث ساعات، وهو مقسم على ثلاث حلقات، تقع كل منها في ساعة واحدة، وهو من إنتاج شبكة نيتفليكس التي تتقدم في مجال صناعة الأفلام الوثائقية والروائية تقدماً مذهلاً، حيث أصبحت تهدد نفوذ هوليوود. وقد عرض الفيلم كاملا في عدد من دور العرض الأمريكية، ويرجع السبب إلى الرغبة في اللحاق بسباق الأوسكار. أما المخرجون “الخمسة الكبار” الذين يدور حولهم الفيلم فهم: وليام وايلر (أشهر أفلامه “بن هور” و”أجمل سنوات حياتنا”) وفرانك كابرا (“مستر سميث يذهب إلى واشنطن” و”إنها حياة رائعة”)، وجون فورد (“ريو غراندا” و”الرجل الهادئ” و”الباحثون” و”عناقيد الغضب”) وجون هيوستون (الصقر المالطي” و”الملكة الافريقية” و”موبي ديك”) وجورج ستيفنز (“مكان في الشمس” و”شاين” و”العملاق”).

يشترك هؤلاء المخرجون الخمسة في انتمائهم للجيل الثاني في السينما الأمريكية، الجيل الذي عاصر السينما الصامتة وانتقل منها إلى الفيلم الناطق، بعد جيل المؤسسين الأوائل (ديفيد وارك جريفيث وبستر كيتون وشابلن..الخ). وقد ابتكر هؤلاء “الأنواع” الفيلمية genres أو قاموا بتطويرها واكسابها ملامحها المميزة الراسخة حتى اليوم. لكن ما يجمع بينهم أنهم وجدوا أنفسهم مشدودين لمتابعة ما كان يجري في أوروبا منذ صعود هتلر الى السلطة ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية، وبعد ذلك، الهجوم الياباني على قاعدة بيرل هاربر ثم دخول أمريكا الحرب. هنا حسم الخمسة أمرهم وقد التحقوا بالجيش الأمريكي والبحرية الأمريكية، وسخروا الفن السينمائي بحماس، في خدمة جهود الحرب وتقديم ما يصلح تسميته “رؤية” فنية لأكبر عملية عنف عرفها التاريخ. وكان مبررهم في ذلك التصدي لقتال البربرية النازية واليابانية، وحماية الحضارة الغربية من الانهيار، ولا شك أن هذا الاختيار الفني لا يخفي طابعه الدعائي مهما اجتهد صناعه في اخفاء ذلك.

 

 

في مقابل الخمسة الكبار الذين يظهرون في الفيلم من خلال المقابلات المصورة القديمة معهم أو التسجيلات الصوتية الإذاعية، يتحدثون عن تجاربهم في الحرب، يظهر أمامهم لتسليط الأضواء على رؤيتهم وتحليل تجاربهم في سينما الحرب، خمسة مخرجين من المشاهير الذين أخرجوا بدورهم أفلاماً تدور عن الحرب، لكنهم يختلفون اختلافات واضحة في أساليبهم واتجاهاتهم الفنية عن أسلافهم القدامى، هؤلاء المخرجون هم فرنسيس فورد كوبولا وستيفن سبيلبرج ولورانس كاسدان، والمكسيكي جليرمو ديلتورو، والبريطاني بول جرينجراس. أما التعليق الصوتي الذي يربط بين أجزاء الفيلم المختلفة فجاء بصوت ميريل ستريب.

هناك عدة مستويات ينتقل فيما بينها شريط الصوت: أحاديث المخرجين (القدامى) والذين عملوا معهم، وتعليقات المخرجين المحدثين، وتعليق ميريل ستريب، وأصوات المقاطع العديدة المأخوذة من الأفلام، والموسيقى والأغاني التي تعود إلى فترة الحرب. ويظهر في الفيلم المونتير روبرت باريش الذي تعاون مع جون فورد في فيلمه الوثائقي الحربي الشهير “ميدواي” (منتصف الطريق) Midway الذي نشاهد مقاطع عديدة منه، وقد صوره فورد في جزيرة ميدواي بالمحيط الهادئ عام 1942 أثناء المعركة التي دارت بين القوات الأمريكية والقوات اليابانية. وكان هذا الفيلم الذي يعتبر بمقاييس الفترة عملا فنيا سابقا لعصره، أول فيلم من الحرب وعن الحرب يشاهده الأمريكيون بالألوان الطبيعية. وفيه يركز فورد كثيرا على اللقطات القريبة للجنود أثناء القتال كما يصور الجرحى والذين فقدوا حياتهم خلال القتال، وكان الفيلم بالتالي يختلف في بنائه ومحتواه عن أفلام الجريدة السينمائية في كونه يبرز الوجه الانساني للجنود ويقربهم من المشاهدين. ويتعمد فورد اظهار الكادرات المقلوبة والانتقالات الحادة بين اللقطات بحيث يضفي طابعاً واقعياً فقد كان يصور المعركة مباشرة دون تدخل في ضبط الكادرات وزوايا الكاميرا.

كان مونتير الفيلم روبرت باريش في ذلك الوقت، مجنداً بالفعل في سلاح البحرية، وكان قد عمل بالفعل مونتيراً في ستة من أفلام جون فورد أشهرها “عناقيد الغضب” (1940)، وهو يظهر في بعض اللقطات في فيلمنا هذا، بملابس البحرية مع فورد الذي التحق بدوره بالبحرية وأصيب إصابة خفيفة أثناء تصوير الفيلم، ثم يصف تعاونهما معاً، وكيف كان فورد صارماً، وأراد أن ينجز فيلما وثائقيا يختلف تماما عما كان سائداً من قبل. وقد عرض الفيلم في ثلثي دور العرض الأمريكية.

يحتوي “خمسة عادوا” على الكثير من اللقطات من أرشيف الحرب الثانية: لهتلر، روزفلت، قصف لندن، قادة النازية، موسوليني وغيرهم. ويتضمن أيضاً رسوماً وخرائط وجرافيكس.

يسير الفيلم في بناء زمني “كرونولوجي”، حسب تتابع الأحداث من عام 1928 فصاعداً حتى نهاية الحرب، ليرصد كيف تطورت الأمور في الثلاثينيات والأربعينيات، وتظهر على الشاشة تواريخ تشير إلى تعاقب السنين. يتم مثلاً التوقف أمام عام 1938 لنشاهد لقطات وثائقية لما عرف بـ”ليلة تحطيم الزجاج” في ألمانيا عندما هاجمت حشود من الألمان المعابد والمتاجر اليهودية وحطمت زجاج نوافذها وواجهاتها. هنا يعود الفيلم إلى وليام وايلر (وكان يهوديا) الذي ذهب مبكرا في العشرينيات، للعمل في هوليوود، ويتحدث سبيلبرج (وهو يهودي بدوره) عن وعي وايلر بيهوديته واهتمامه بما كان يحدث في أوروبا، ثم التحاقه فيما بعد كضابط بسلاح الطيران الأمريكي،شأن المخرجين الخمسة الذين لم يسبق لهم قط المشاركة في أي عمل عسكري ولم يمارسوا القتال بل كانت مهمتهم تصوير الأفلام الدعائية لحساب الحكومة. وقد صور وايلر فيلمين تسجيليين عن الحرب، لكننا نتوقف أمام فيلمه الروائي “مسز منيفر” الذي أخرجه عام 1940 واعتبر من أفلام الدعاية التي قصد منها تشجيع الأمريكيين على دخول الحرب تضامنا مع بريطانيا. ويصور الفيلم صمود أسرة انجليزية إبان القصف الألماني للعاصمة لندن.

المخرج وليام ويلر وهو أحد الشخصيات الذيي يدور حولهم فيلم خمسةعادوا.

يعتقد وايلر أن “كل الأفلام دعائية” على نحو أو آخر. ويروي كيف أنه أثناء تصوير فيلمه “مسز منيفر” استدعاه “لويس ماير” مدير شركة مترو وقال له بحزم “نحن لا نصنع أفلام كراهية، ولا نريد أن نحرض في أفلامنا ضد أي شعب، فقال له وايلر: لدي جندي ألماني وحيد في فيلمي، ولو كان عندي كثيرون لجعلت من بينهم شخصاً طيباً”. ويضيف أنه بعد إعلان ألمانيا الحرب على أمريكا وطلب منه ماير المضي قدما، أي وافق على تسخير الفيلم للهجوم على الألمان. ويكشف هذا أولا عن عدم رغبة هوليوود في البداية بالتضحية باستثماراتها في السوق الألمانية حيث كانت من أكبر أسواق السينما الأمريكية، ثم تحولها بعد دخول أمريكا الحرب إلى استخدام الأفلام في الدعاية خاصة عندما كانت “سطوة الأستديو” قوية وقبل أن تقوى سلطة المخرج ويصبح صاحب اليد الطولى في الفيلم. وليس من الممكن- على سبيل المثال- الزعم بأن فيلم “إنقاذ الجندي ريان” لسبيلبرج عمللاً دعائياً على غرار أفلام الأربعينيات ولا حتى “قائمة شندلر”، ويقول سيبيلبرج إنه تأثر كثيراً في إخراج “إنقاذ الجندي ريان بالأفلام الوثائقية التي صورها جون فورد وجورج ستيفنز لعملية الإنزال البحري الكبير في نورماندي.

يبدو بول جرينجراس مفتوناً بشجاعة جون فورد الذي أخرج فيلمه “الرحلة الطويلة إلى الوطن” (1940) قبل دخول أمريكا الحرب تضامنا مع البريطانيين. أما كاسدان فيروي كيف أراد جورج ستيفنز إخراج فيلم “طرق المجد” المناهض للحرب، غير أن شركة آر كي أوه رفضت ودفعته لإخراج فيلم “غونغا دن” Gunga Din الذي يقول سبيلبرج أنه استوحى منه في فيلمه الشهير “غزاة الهيكل المفقود” (1981)، كما يتحدث جليرمو ديلورو عن رغبة فرانك كابرا إخراج فيلم عن الثورة الأمريكية لكن رئيس شركة كولومبيا رفض. وكابرا من أغرب شخصيات المخرجين الخمسة، فهو ابن صقلية، جاء إلى هوليوود مهاجراً وظل يعاني طويلاً من العنصرية،  وأراد دائماً أن يثبت أنه أمريكي وأنه وطني أكثر من غيره، وكانت أفكاره يمينية بشكل عام. وقد كافح لكي يقنع الجنرال مارشال بإخراج سلسلة الأفلام السبعة الدعائية تحت عنوان “لماذا نحارب”.

جورج ستيفنز مخرج فيلم غونغادن "GungaDin"

يظهر كابرا في فيلمنا هذا في لقطات نادرة، يتحدث مؤكداً أنه لم يكن قد شاهد فيلماً وثائقياً في حياته من قبل، وكان يعتقد أن الأفلام الوثائقية مملة، لكنه غير رأيه بعد أن شاهد فيلم “انتصار الإرادة” لريفنشتال الذي يعتبر عملاً مدهشاً من الناحية الفنية، وقد أوحى إليه هذا الفيلم باستخدام نفس اللقطات ولكن في سياق معاكس، أي من أجل الدعاية المضادة للنازية، كما استخدم الكثير من اللقطات التسجيلية لهتلر ورفاقه أمثال جورنج وهيس وجوبلز، لكي يسخر منهم، فقد كان يرى في هذه المناظر “كوميديا” أو “شيئا أشبه بما كان يقدمه الأخوان ماركس” حسب تعبيره!

الإيقاع في فيلم “خمسة عادوا” سريع متدفق، الصور تتلاحق، وكذلك التعليقات، ويتعاقب ظهور المخرجين الخمسة القدامى والخمسة الجدد، وتظهر كثير من العناوين على الشاشة، ولعل السبب في ذلك يعود إلى غزارة المادة التي عثر عليها المخرج ورغبته في استخدام أقصى ما يمكنه منها خاصة وأن من بينها الكثير من اللقطات النادرة التي لم يسبق أن شاهدها الجمهور من قبل.

هناك الكثير من المبالغات في الفيلم كما في حالة حديث جورج ستيفنز عن اكتشاف الفظائع التي وقعت داخل معسكر داخاو عند نهاية الحرب وكان مصاحبا للقوات التي حررته، ومعروف أن هذا المعسكر كان مخصصا للمعتقلين السياسيين، وقد اعترف  مدير معهد التاريخ المعاصر في ميونيخ عام 1960، في رسالة مكتوبة بأن داخاو لم يعرف وجود “غرف الغاز”. ولعل التركيز في الجزء الثاني تحديداً على هذا الموضوع، يعود إلى مشاركة مؤسسة شوا التي أسسها سبيلبرج لإحياء ذكرى الهولوكوست، في إنتاج الفيلم لحساب نيتفليكس.

على الرغم من ذلك يبقى أهم ما في فيلم “خمسة عادوا” تلك الصور واللقطات والوثائق النادرة التي تكشف الكثير عن عمل العمالقة الخمسة، قبل وبعد الحرب أيضا. وهذا ما يبقى.