“وأصبحتُ”.. رحلة المرأة السوداء الغاضبة إلى البيت الأبيض

عدنان حسين أحمد

تستعيد المخرجة الأمريكية “ناديا هولغرين” في فيلمها الوثائقي المعنون “وأصبحتُ” حياة “ميشيل أوباما” منذ طفولتها وصباها، مرورا بدراستها الجامعية وتفوقها العلمي وحصولها على درجة الدكتوراه في القانون، وانتهاء بزواجها من “باراك أوباما” الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية، لتصبح سيدة البلاد الأولى من أصول أفريقية، وتجلس على “كرسي مُلحق بكرسي الرئيس” حسب توصيفها.

ثمة عوامل كثيرة ساعدت على إنجاح الفيلم من بينها جاذبية الشخصية الرئيسة وجرأتها وصراحتها النادرة، فقد باحت “ميشيل أوباما” بكل شيء تذكرته أو ذكرها به مقدمو البرامج التلفزيونية، وقد كانت صادقة وأمينة في بوحها واستحضار ذكرياتها، فقد سمت الأشياء بمسمياتها ولم تجد حرجا في القول إن جدة جدتها كانت “مُسترقّة”، أو أن أعمامها كانوا “حمّالي قطارات” أو “خدما” في البيت الأبيض، وأنها تعرضت للتهميش والإقصاء والنبذ، لكن شخصيتها القوية وإرادتها الصلبة وتفوقها الدراسي هي الخصال التي جعلت منها امرأة حاضرة ومرئية ومتفردة رغم بشرتها السمراء الغامقة التي جعلت بعض العنصريين السُذّج والمتكبرين الجُوف ينظرون إليها وإلى من هم على شاكلتها بدونية وازدراء.

 

روح الدعابة الغالبة.. تكوين السيرة الذاتية

يتميز الفيلم بنفَسه الكوميدي وسخريته اللاذعة، فـ”ميشيل أوباما” أو شخصية الراوية التي تعرف كلّ شيء ربما تحتاج لمن يُذكِّرها أحيانا ولو بوخزة لتتسرب من ذهنها الذكريات القديمة والحديثة، وهي تفضِّل في الأعم الأغلب أن تكون خفيفة الظل مرحة فَكِهة وأريحية، لكي تتواصل مع جمهورها العريض والناس المعجبين بها في عموم الولايات المتحدة الأمريكية، لكن روح الدعابة لا تمنعها من الصرامة والتجهّم أحيانا، مما يعرّضها لانتقادات كثيرة قد تصل إلى تجريح شخصي لا تنتهي تداعياته إلاّ بعد وقت طويل.

ارتأت المُخرجة “ناديا هولغرين” أن يكون فيلمها الوثائقي على نمط أفلام السيرة الذاتية (Biopic) لتغطي أبرز المراحل في حياة الشخصية المركزية “ميشيل أوباما”، لكن هذا التركيز لا يمنع المخرج وكاتبة السيناريو من الانفتاح على أسرتها الصغيرة وأبويها وجدّيها، وربما تذهب أبعد منذ ذلك حين أشارت إلى جدة جدتها للضرورة السردية، فهي تؤكد على الاسترقاق الذي عانى منه السود في أماكن متفرقة من العالم.

ميشيل أوباما توقع كتاب مذكراتها الأوسع انتشارا في العالم “وأصبحتُ”

 

“بيت الشعب”.. خيوط رسم الحبكة السردية

لم تعتمد المخرجة على النسق الخطي لسير الأحداث وخاصة في الربع الأول من الفيلم، فثمة لحظات متفرقة لإحضار كعكة حفل توقيع الكتاب، وقد اندهشت “ميشيل” وطلبت من أمها أن لا تلمسها في واحدة من جولات الترويج لمذكراتها التي رأت النور بعد سنتين من مغادرة البيت الأبيض.

إن تقديم الأحداث أو تأخيرها هي لعبة فنيّة تهدف إلى رسم حبكة سردية وبصرية متماسكة تراهن عليها المُخرجة، ففي بعض المَشاهد الأوليّة من الفيلم أرادت المُخرجة أن تقول إنَّ السيدة الرابعة والأربعين في الولايات المتحدة جعلت الناس من ذوي البشرة السمراء يشعرون بأن البيت الأبيض قد أصبح بيتهم، أو بمعنى أوسع “بيت الشعب”.

وعلى الرغم من الأعوام الثمانية الطويلة نسبيا، فإن آل أوباما قد غادروا هذه الجنة الأرضية إلى حياة أخرى ميسورة وكريمة لا تعرف العناء مطلقا.

ميشيل أوباما تحتضن ابنتها ماليّا في لحظة عاطفية حميمة قبل انتهاء فترة حكمهما للبلاد

 

دموع على متن المروحية الرئاسية.. عائلة “ترامب” قادمة

اختارت المخرجة خيرة مُقدّمي البرامج الحوارية، وقد تناوبوا على محاورة بطلة الفيلم “ميشيل أوباما” في شؤون مذكراتها وحياتها الشخصية والعامة، وكانت أولهم “أوبرا وينفري” المعروفة بأسئلتها الدقيقة التي تضرب في الصميم حيث استفسرت منها عن شعورها الخاص وهي تغادر البيت الأبيض على متن المروحية الرئاسية وهل قالت لنفسها: أخيرا صرت حرة، أم امتزجت مشاعر المرارة بالفرح في تلك اللحظة الضبابية الغامضة؟

لم تُجب “ميشيل” مباشرة على السؤال الحسّاس، بل أخذت تلفّ وتدور لأن اليوم الأخير في البيت الأبيض كان يوما عاطفيا بامتياز، لكنّ “ساشا وماليّا” كريمتي الرئيس “أوباما” طلبتا من أمهما “ميشيل” أن يُبتنَ صديقتيهما المقرّبتين معهما في الليلة الأخيرة كي يتناولنَ الإفطار الأخير طالما أنّ مطبخ البيت الأبيض يوفر كل ما تشتهيه الأنفس من أطعمة لذيذة، لكن “ميشيل” أيقظت الصديقات من نومهن وحثتهن على المغادرة بحجة أن عائلة “ترامب” قادمة.

كان بعض الموظفين والخدم يشعرون بالحزن لرحيل عائلة أوباما، وربما ترقرقت دموع البعض الآخر منهم، وكان على “ميشيل” أن تتمالك نفسها لأنها إذا خرجت باكية فإنهم سيجزمون أنها تبكي لسبب مختلف، لكنها اعترفت ببكائها لمدة 30 دقيقة على متن الطائرة، وقد فسّرتها على أنها تنفيس عن ثمانية أعوام قضتها في محاولة عمل كل شيء بمثالية.

ميشيل أوباما في واحدة من جولاتها الترويجية لكتابها “وأصبحتُ”

 

“يراقب كل العالم تصرفاتك”..  سيدة القصر في وجه العاصفة

كانت عائلة أوباما عادية جدا تشبه الكثير من العائلات الأمريكية، لكن ما إن جاءت الانتخابات الرئاسية عام 2008 حتى تغيّر كل شيء، فوجد “أوباما” نفسه في مركز الرجل الأول في الإدارة الأمريكية، وأصبحت “ميشيل” السيدة الأولى وعليها أن تشغل هذا المكان مثل سابقاتها من سيدات البيت الأبيض اللواتي يعرفنَ الإتكيت، ويتفنن في آداب السلوك الاجتماعي المُرهَف الذي لا يقبل الأخطاء والهفوات.

لنتأمل ما قالته “ميشيل” عن هذا الدور الاستثنائي: لعب دور السيدة الأولى كان أعظم شرف في حياتي، لكن كم من النساء مررنَ بهذا الموقف الذي يكون فيه المرء محطَّ أنظار الجميع؟ كل لفتة وكل حركة وكل طرفة عين تخضع للتحليل والدراسة، فالعالم يراقب كل تصرفاتك، ولا تصبح حياتك ملكا لك أبدا.

السيدة الضاحكة التي يطلقون عليها المرأة الغاضبة والمتجهمة والصارمة ميشيل أوباما

 

“أمي تحب أخي أكثر مني”.. أريحية الإصغاء

مما يميز “ميشيل أوباما” في هذا الفيلم قدرتها على الإصغاء لأطول مدة ممكنة ولأي متحدث سواء أكان صغيرا أم كبيرا، هادئا أم ذا صخب، قليل الكلام أم مُفرطا حد الثرثرة، وأكثر من ذلك فهي تناقش القرّاء الذين يقتنون كتابها في كل التفاصيل الشخصية والعامة.

تسأل المرأة الحامل عن تاريخ الوضع وجنس المولود، وتستفسر من الأب الذي جاء لشراء الكتاب لابنته إن كانت مُعتدّة بنفسها مثل ابنتها “ساشا” أم لا؟ كما أنها تنظر في عيون من تقابلهم وتُشعِرهم بحرارة اللقاء وحميميته.

يغوص الفيلم في التفاصيل الصغيرة لـ “ميشيل”، فقد وُصِفت بأنها صارمة وحادة الطباع ومتجهمة في بعض الأحيان، وهي تُسأل عن كل ما ترتديه، فالحزام العريض المرتفع قليلا عن خصرها يبدو وكأنه ثلاثة أحزمة ملتصقة ببعضها البعض، الأمر الذي دفع شقيقها “كريغ” إلى القول إن هذا الحزام يبدو كجراب لمسدس أو أكثر ربما.

كان هذا الشقيق الأكبر هو أول رجل تُعجب به “ميشيل”، فقد كان ذكيا ولمّاحا تلقفته جامعة “برنستون” على الرغم من لون بشرته الذي كان يثير استفزاز العنصريين البلهاء، كانت “ميشيل” تمزح حين تقول “إن أمي ماريان تحب أخي كريغ أكثر مني”، ولعلها تعني محبة الابن البكر فالأم لا تستطيع أن تفرّق بين أبنائها إلاّ في حالات محددة لسنا بصددها الآن.

صورة لميشيل وباراك أوباما بحفل زفافهما، حيث بدت ميشيل كنجمة سينمائية جذابة برأي كُثر

 

جميلة مثل نجمة سينمائية.. أرشيف الذكريات البصري

لا تستعين “ميشيل” بالذكريات الشخصية التي تتناثر من ذهنها أو الذكريات العامة الصادرة من أذهان المقربين إليها، وإنما تستعين بالصور الفوتوغرافية القديمة لتحكي عن نفسها بلسان فصيح، فشجرة الميلاد تبدو قبيحة ليس لأنها كذلك، وإنما لأن من زينها طفلة صغيرة لا تُحسن فنّ التزيين.

أما صور “ميشيل” في شبابها فكانت جميلة لأن صاحبتها كذلك، بل إنها في فستان الزواج كانت تبدو مثل نجمة سينمائية جذّابة، خصوصا إذا ما عرفنا أنها كانت متحمسة لذلك الزواج الذي حدث نتيجة حب ارتعشت له الفرائص.

وهنا يلعب ألبوم الصور دورا ميتاسرديا لأنه يأخذنا إلى ما وراء السرد، ولولاه لما تذكّرنا والدها، ويبدو وسيما في الصور ومفعما بالحيوية والنشاط رغم التصلب المتعدد الذي كان يعاني منه في سنواته الأخيرة، ولولا تذكر الأب لما شرعت ميشيل بالحديث عن طفولتها البعيدة نسبيا.

تعتبر “ميشيل” من مواليد 17 يناير/ كانون الثاني 1964 في ساوث سايد بشيكاغو، تخبركم هذه المعلومة بأنها تنحدر من مجتمع الطبقة العاملة، فأبوها كان موظفا في محطة مياه المدينة، وأمها تعمل سكرتيرة في متجر “سبيغل”، وفي البيت ثمة موسيقى جميلة، وحفلات شواء لذيذة تُشعرها بالانتماء لهذا المكان فمنه خرجت إلى الحياة الاجتماعية العامة.

 

جامعة برنستون.. حلم كادت أن تقتله العنصرية

لم تعد حياة “ميشيل” الشخصية تنطوي على أسرار منذ وصول “باراك أوباما” إلى السلطة، فلقد نبشت الصحافة الاستقصائية تاريخهما الشخصي، وعرفت فيه كل شيء تقريبا، ولهذا أخذ جانب كبير من الفيلم طابع السؤال والجواب الممزوجين عادة بمسحة فكاهية ساخرة أخرجت الفيلم من جديّته وصرامته الأرستقراطية.

فسرعان ما ندرك أنها كانت مراقبة صف في المدرسة الثانوية، وقد حازت على مرتبة الشرف، لكن مرشدتها الجامعية كان لها رأي آخر لأنها لم تكن ترى فيها الطالبة المجتهدة المتفوقة التي تستحق أن تلتحق بجامعة برنستون، مع العلم أنها سبق أن احتضنت شقيقها قبل سنتين.

ينتقد الفيلم بطبيعة الحال هذا النمط من المرشدات اللواتي يرين في طموح “ميشيل” تجاوزا للواقع أو هدفا بعيد المنال، لكن “ميشيل” التحقت بهذه الجامعة رغم التمييز والتفرقة على أساس اللون والعرق، وكانت المرشدة على خطأ، لم تنسَ ميشيل تلك الجملة الصادمة والمهينة، لكنها تخلّصت من آثارها رغم المرارة التي تشعر بها كلّما تذكرت رنتها العنصرية.

ميشيل أوباما تجيب على الأسئلة الموجهة لها من الصحفيين فيما يخص كتابها “وأصبحتُ”

 

يولد الأمل من رحم المعاناة.. نبوءة الجد الصادقة

يوحي لنا الفيلم بأن تأثير الأسرة كان كبيرا على “ميشيل” وشقيقها “كريغ”، فالأم كانت تسمح لهما بطرح أي سؤال شرط أن يكون مهذبا، وإذا خرجا عن اشتراطات الكياسة تضربهما على مؤخرتيهما مثل أي أم سوداء حريصة على تربية أبنائها.

لم يكن والدا “ميشيل” من يحثّانها على أهمية الدراسة وتحصيل العلم وإنما كان جدها يتوقع من حفيديه أن يكونا عظيمين وقد صدقت نبوءته لكنه عاش وهو يشعر بالظلم والحيف، وقد كان يحب قراءة الكتب، ويخوض في مناقشات جديّة وعميقة.

كان هذا الجد لامعَ الذكاء، وكان بوسعه أن يصبح أستاذا جامعيا أو طبيبا لكن بسبب العِرق والطبقة الاجتماعية لم يستطع الالتحاق بأي جامعة لأنه ببساطة شديدة لم يكن يملك المال، فعلى الرغم من قدراته العلمية كان العالم يصدّه ويقول له: “أنتَ لا تصلح لهذا المكان، بينما تشاهد أناسا بنصف ذكائك يرتقون إلى أعلى المناصب فتُصاب بالإحباط والغضب”.

كثيرة هي الأمثلة التي تداعت إلى ذهن “ميشيل” في ما يتعلّق بالتمييز العنصري على أساس اللون والعِرق من دون النظر إلى العقل البشري وإنسانية الإنسان، فهي تتذكّر أنها عندما انتقلت عائلتها إلى حي جديد كانت عائلات البيض تفرّ خائفة حتى أنهم يخشون من هبوط قيمة عقاراتهم لأن السود قد حلّوا بينهم، فلا غرابة أن ينتقلوا إلى ضواحي بعيدة حتى ينجوا بأنفسهم وبيوتهم من القادمين الجدد الذين جاؤوهم من كوكب الأرض ولم يهبطوا من السماء.

اكتشفت “ميشيل” في الجامعة أنّ الطلاب ليسوا بذلك الذكاء وأن بعضهم قد وصل إلى هذه الجامعة بطرق ملتوية، ومع ذلك فإن هذه السيدة اللامعة قد حققت جُلّ ما تتمناه، لنستمع إليها وهي تسرد قصة نجاحها وتألقها قائلة: لقد جلستُ على موائد أقوى الناس سلطة ونفوذا في العالم، وحضرت قمم الدول السبع الكبار، ودخلتُ قلاعا وقصورا وقاعات مجالس إدارة وجامعات، إنني آتية من القمة لأقول لكم لا تنتموا إليهم، ولا تنصتوا لهم لأنهم لا يعرفون كيف وصلوا إلى تلك المناصب.

ميشيل وباراك أوباما يتطلعان إلى بعضهما البعض بشغف وحب لم يفتر منذ تعرفهما على بعضهما في مرحلة الشباب

 

“إنه إعصار يلاحقني”.. رفرفة طائر الحب

لا يخلو فيلم “وأصبحتُ” من نكهة الحُب التي لمسناها بين تضاعيفه، فقد كانت “ميشيل” طالبة مثالية تحصل على النجمة كعلامة على التفوق، حتى قادها اجتهادها من برنستون إلى هارفارد، ومنها إلى الشركة التي تمارس فيها المحاماة، وفجأة ومن دون سابق إنذار يأتي إليها شاب أسمر اللون يحمل اسما فريدا ويُفتَرض بها أن تكون مُوجِهته.

حينما اتصلت به هاتفيا أول مرة شعرت بأنّ هذا الاتصال ينطوي على ما هو أبعد من العمل حيث رسمت في ذهنها صورة للطالب المُجتهد تتطابق مع الحرارة المنبعثة من ذلك الصوت الدافئ، لكنه وصل متأخرا على الموعد في يومه الأول، وحينما سار بجوارها لفت نظر السكرتيرة التي كانت تغمزها وتقول بالإشارة “هذا هو الشاب المناسب الذي تبحثين عنه”.

أدخلته إلى المكتب ومن هناك دخل إلى قلبها، وتعتقد “ميشيل” بأنّ “باراك” منذ شبابه كان شابا مختلفا عنها ويتحداها في نواحي عدة، وهو أهل لهذه التحديات بسبب الطاقات الكامنة في أعماقه وقد وصفت حالتها العاطفية والفكرية إلى حد ما بدقة كبيرة حين قالت: “كنتُ أعلم أنه إعصار يلاحقني، وإذا لم أتمالك نفسي فسيجتاحني، ولم أرغب في أن أكون مجرد مُلحَق لأحلامه الكبيرة”، ولهذا فإنها فكرت أكثر من مرة أن تترك المحاماة وتتفرغ لتربية ابنتيها اللتين تحتاجان إلى رعاية وتوجيه مستمرين.

ورغم روح الندية بين الطرفين، فإن “ميشيل” كانت تقف إلى جانب زوجها في حياته الشخصية والعامة وخاصة في الانتخابات الرئاسية التي كانت تتحدث فيها في بعض الأحيان نيابة عنه، وقد عرضتها هذه الأحاديث لانتقادات لاذعة، وكانت تختبر الشعب الأمريكي في هذه الإطلالات وتتساءل قائلة: لا أدري إن كان هذا البلد مستعدا لقبول شخص مثل زوجي في إشارة إلى لونه الأسمر وجذوره الأفريقية وديانته المختلطة.

“ميشيل أوباما” تعرضت أثناء الانتخابات الرئاسية عام 2008 إلى هجمات مسعورة شوّهت صورتها أمام الرأي العام الأمريكي

 

“امرأة سوداء غاضبة”.. حملة تشويه أمام الرأي العام

تعرّضت “ميشيل” أثناء الانتخابات الرئاسية عام 2008 إلى هجمات مسعورة شوّهت صورتها أمام الرأي العام الأمريكي، ولعل الصحافة المرئية والمكتوبة أساءت فهم كثير من تصريحاتها ولغة جسدها، فحتى حركة التلامس بالقبضة المضمومة مع زوجها فُسِّرت على أنها مصافحة إرهابية، بينما واقع الحال يشير إلى غير ذلك، ويجب أن لا تفسّر هذه الحركة بأكثر مما لا تحتمل.

ومع ذلك فقد لاحقها الصحفيون كما يلاحقون أي مرشّح من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ولم تترك الصحافة ثغرة إلا وولجتها بُغية جعل صورتها قبيحة أمام الملأ فلجؤوا إلى ملامحها الخارجية والنفسية وقالوا “إنها امرأة سوداء غاضبة”.

وبالمقابل لا بد من الاعتراف بأنها ذهبت أبعد مما هو مسموح لها حينما أخذت تُلقي الخُطب بالنيابة عن زوجها الأمر الذي جعلها صيدا مُستباحا للصحافة الأمريكية الحرّة، لقد حاولت السيدة “ميشيل” أن تُعرِّف نفسها قبل أن يعرِّفها الآخرون لأنها تشعر أنها راوية قصص جيدة، وهذا صحيح حتى أنّ أوباما نفسه يعترف بذلك ويحبِّذ أن يستمع إلى قصصها التي ترويها بطريقة شيقة، ولعلها كانت تعزف على وتر التغيير لأنها تدرك تماما أن نسبة كبيرة من الشعب الأمريكي تتوق وتتعطش للتغيير.

وعلى الرغم من ارتكابها بعض الأخطاء فإنها قلّلت -ربما بإشارة من الخبراء والمستشارين- من هذه الأحاديث والتصريحات المنفلتة، وأخذت تلتزم بالنصوص التي تريد أن تدلي بها أمام المتلقين ولا تدس أنفها في كل صغيرة وكبيرة.

ميشيل أوباما تستعيد ذكرياتها الشخصية بالقُبلة الأولى التي حصلت عليها تحت شجرة البيت العملاقة

 

تحت الشجرة العملاقة.. زوايا الذكريات الجميلة

يحتفي هذا الفيلم بالأمكنة الخاصة التي تأخذنا المخرجة إليها كلما وجدت ضرورة لذلك، حيث نرى “ميشيل” وهي تستعيد ذكرياتها الشخصية في البيت الذي ترعرعت فيه، فتَحت الشجرة العملاقة، تلقت قُبلتها الأولى، وأمام البيانو الكبير كانت تعزف المرة تلو الأخرى.

كانت ترى في قلب هذا البيت الحضور الطاغي لأبيها وهو جالس على كرسيه الخاص فلا يقربه أحد، هكذا تصحبنا المخرجة إلى كل غرف المنزل وزواياه، خصوصا أن ميشيل قد عاشت هي و”باراك” سنة كاملة في هذا المنزل قبل أن ينتقلا إلى منزلهما الخاص بعيدا عن الجو الأسري لعائلة “ميشيل” ووالدها الذي يمتلك جاذبية خاصة في جعل الآخرين يحبونه ويشعرون بوجوده.

ميشيل أوباما ترتدي ما تقرره مستشارة الأزياء “ميرديث كوب”

 

“لن يحضر حفلك أحد يا أبي”.. ليلة مشهودة في تاريخ السود

تؤكد المخرجة بأنّ “أوباما” كان محظوظا بعائلته الصغيرة التي تؤازره بكل شيء تقريبا، ففي لحظة إعلان النبأ تغيّر العالم بالنسبة لهذه الأسرة وللسود في عموم الولايات المتحدة والعالم، إذ انهالت عليه التهاني والتبريكات من كل حدب وصوب، وكان عليه أن يغادر الفندق لحضور احتفالية الحملة الانتخابية حيث أُغلِقت الشوارع، وتحرّك الموكب الرئاسي في طرق خالية من البشر.

صارحته ابنته “ماليّا” قائلة: “لن يحضر حفلك أحد يا أبي”، ثم واصلت وصف مشاعرها الصادقة والبريئة: “أشعر بالحزن لأجلك”، لكنها ستكتشف خطأ توقعها لأن ساحة التتويج كانت تغصّ بالمحتفلين، وأنّ الأمة الأمريكية برمتها كانت تتابع الحدث الكبير عبر شاشات التلفزة.

لم يكن أوباما ذات يوم ناكرا للجميل فهو يوعز هذا الفوز للجهود العظيمة التي بذلتها زوجته ميشيل حتى أنه قال بحقها: ما كنتُ لأقف هذا اليوم هنا لولا الدعم غير المحدود لصديقتي المقرّبة في الأعوام الستة عشر الأخيرة، وعِماد عائلتنا وحُبّ حياتي، والسيدة الأولى القادمة للأمة “ميشيل أوباما”.

لم تترك المخرجة شيئا من الذكريات والقصص الملهِمة إلا واستثمرتها، ففي هذا الفيلم تتحدث “ميشيل” عن أفراد حمايتها الذين عملوا معها لمدة اثنتي عشرة سنة في هذه المهنة التي تتطلب اليقظة والحذر الدائمين.

ربما لم تكن السيدة “ميشيل” مهتمة بأزيائها وملابسها دائما، ولكن موقعها كسيدة أولى يشترط عليها أن تكون أنيقة دائما وهي لا تخرج من دون نصيحة “ميرديث كوب” أخصائية ومستشارة أزياء السيدة الأولى، فتصمم أو تختار لها ولابنتيها من الأزياء ما يليق بهذه المنزلة الاجتماعية الرفيعة، أمّا بعد خروجها من البيت الأبيض فتستطيع أن تلبس ما تشاء وهو شعور قوي بالحرية المطلقة.

باراك أوباما يُقبّل سيدة البلاد الأولى زوجته ميشيل على مساندتها له خلال فترة حكمه

 

“مرحلة ما بعد العنصرية”.. رئيس أسود على عرش السلطة

تركّز المخرجة على الأعوام الثمانية التي حكم فيها “أوباما” الولايات المتحدة الأمريكية، فقد احتفى قسم من الشعب الأمريكي بوجوده في البيت الأبيض، لكن القسم الآخر أبدى مخاوفه من وجود رئيس أسود على قمة هرم السلطة، لأن بعض المعلّقين السياسيين قالوا إنّ البلاد قد دخلت “مرحلة ما بعد العنصرية” التي لن يهمّ فيها لون البشرة، بينما أغفل كثيرون بقية الظواهر السيئة التي كانت تمزق البلاد.

تعرف السيدة “ميشيل” أهمية وخطورة منصب رئيس الولايات المتحدة لأن كل كلمة يتفوّه بها الرئيس يمكن أن تُشعل حروبا أو تدمر اقتصادات دول أخرى، فالرئيس يتحمّل أعباء كثيرة مثلما يتحمّل الناس المحيطون به أعباء بدرجة أقل.

صورة عائلية للرئيس باراك أوباما وزوجته ميشيل وابنتيهما ساشا وماليّا في البيت الأبيض

 

عندما تحلق العصافير.. عودة إلى الحياة

لا تضحي الأفلام الأمريكية والأوروبية عموما بقصة الفيلم أو بالحبكة الرصينة المقنعة للمُشاهِد، فعلى الرغم من أن المذكرات تركز على السيدة “ميشيل أوباما”، فإن من قصة الفيلم ورسالته أيضا تربية الأبناء أيضا وتثقيفهم ووضع خُطاهم على الطريق الصحيحة.

تركت “ميشيل” مهنتها وانزوت في منزلها من أجل طفلتيها، لكنها الآن عادت مجددا إلى الحياة بعد أن كبرت العصفورتان وغادرتا عشهما الوثير، وهي سعيدة جدا لأنها ترى هاتين الطفلتين الصغيرتين تنضجان في غفلة من الزمن، وتتركان للأبوين فرصة مراجعة نفسيهما بعد سنوات طوال من التربية والعناية المركزة.

ويمكننا الإشارة إلى واحدة من الجُمل المهمة التي قالتها “ميشيل” بخصوص العناية بحياتها الشخصية “أريد أن أعتني بنفسي، وأُعيد اكتشاف زوجي” بعد أن شعرت أنّ حياتها قد أصبحت ملكها من جديد، وأنّ هناك فصلا آخر ينتظرها لأنها تقف عند مشارف الستين، وهي تتطلع لأن تعيش ثلاثة عقود قادمة في الأقل.

بوستر فيلم “وأصبحتُ” الذي يسرد قصة حياة زوجة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما “ميشيل أوباما”

 

“حسنا، اكتفينا أيتها العجوز”

تختم “ناديا هولغرين” فيلمها بجملة من النقاط المؤازرة التي التقطتها من فم شخصية الفيلم وهي تركز على ضرورة إظهار الضعف البشري، وتنصح الآخرين بعدم التستر عليه لأنه صفة إنسانية، كما تطلب من الجميع أن يتكاتفوا كأمة ولا يفكروا بالتشظي والانقسامات، وأن يبذلوا قُصارى جهدهم للجيل القادم، وهي تشعر بذروة السعادة لأنها تسعى لتوجيه الآخرين وخاصة الشباب الذين يمتلئون بالنشاط والحيوية، وستظل متحمسة ومتفاعلة حتى سن التسعين إلى أن يخبرها الناس: “حسنا، اكتفينا أيتها العجوز”. ثم تختم فيلمها بجملة حميميّة: أريد أن أكون تلك المرأة التسعينية التي تنتحلون لها الأعذار.

وفي الختام لا بد من القول إن فيلم “أصبحتُ” فيلم دافئ يتجاوز نفَسه الوثائقي إلى السرد القصصي والروائي مدعوما ببراعة التصوير وروعة الأداء وحرفيّة المونتاج الذي منح الفيلم إيقاعا نابضا منعه من السقوط في فخ الرتابة والملل.