“يقاتلون كالجنود يموتون كالأطفال”.. مأساة البراعم المقاتلة في الحروب الأفريقية

 

حرصي للبحث عن اسم الرسام الذي أبدعت ريشته الصور المتحركة للوثائقي الكندي “يقاتلون كالجنود يموتون كالأطفال” بين بقية أسماء المساهمين في صنعه؛ فرضته عليَّ جودةُ ما شاهدته من شغل فني أسهم إلى حد كبير في نقل مشاعر الجنود الأطفال ببعض الدول الأفريقية إلى الشاشة، وتدور أحداث الفيلم حولهم، وحول الجنرال الذي عاد ليسرد تجربته معهم.

الرسامان هما: “هكتور هيريرا” و”نِك سويل”، أما مخرج العمل فهو “باتريك ريد”، وبطله الجنرال “روميو دالير”، وهو متقاعد من العمل ضمن وحدات جنود الأمم المتحدة المكلفين بحفظ السلام في الكونغو أثناء حربها الأهلية.

“مصافحة الشيطان”.. رحلة البحث عن طيف الأطفال الجنود

وماذا عن بقية الجنود الأطفال الذين دارت حكاية الفيلم حول ماضيهم المخيف ومحاولة إعادة تأهيلهم ثانية؟

يصعب ذكر أسمائهم، وسيصعب حتى على الذين يريدون لفت انتباه العالم إلى مأساتهم ذكرهم في سجلاتهم بدقة، لأن قضيتهم بكل بساطة لم تغلق بعد، وأسباب زجهم كجنود في حروب أهلية لم تنتهِ بعد، كالوثائقي نفسه، فهو يريد توصيل صوتهم عبر السينما مثلما حاول الجنرال من قبل أن يكون صوتهم المسموع في العالم كله عبر كتاب كَتبه عن تجربته معهم سماه “مصافحة الشيطان”، وقد استعان صاحب الوثائقي به لإنجاز فيلم يكمل دور كِتابه، ثم تركا البقية لضمير العالم.

ربما لا تفي كلمة “استعانة” بالغرض لسبب بسيط، هو أن الفيلم مبني في قسمه الأكبر على شخصية الجنرال “دالير” ودوره في المشروع، أما الأبطال الحقيقيون المنسيون والمراد تذكير العالم بهم، فهم الأطفال الذين صاروا جنودا، فخسروا طفولتهم وقسما كبيرا من إنسانيتهم دون ذنب منهم، بل كل الذنب يتحمله تجار حروب استغلوهم وحوَّلوهم إلى آلات وأسلحة بشرية تقتل بسهولة، بعد أن غُسلت أدمغتها بالكامل بوسائل شيطانية لا تخطر على بال أحد.

يحاول الوثائقي الإلمام بجزء من تلك الوسائل، بمعونة رجل عاش التجربة بنفسه، وعاد إلى نفس الأمكنة في رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية التي سخر من لقبها رساما الفيلم، حين كانا يكتبان صفة “الديمقراطية” بلون الدم.

كما عاد إلى جنوب السودان ومناطق أخرى شهدت مجازر مروعة، وكان الجنود الأطفال أحد مآسيها الحقيقية، كقتلة أولاً حين حاربوا كجنود، وكأطفال ثانية حين ماتوا وهم لم يعرفوا شيئا عن حياة كان لهم أن يعيشوها مثل بقية أطفال العالم.

تشعبات القصة.. ملاحقة خيوط الوثائقي على الميدان

الاشتغال على موضوع محدد في الغالب هو مبعث ارتياح لصاحب أي وثائقي، والاستعانة بمصدر بشري كفء وذي شخصية قوية هو عنصر مساعد آخر، لكن حين تتجلى أثناء الخوض الميداني في العمل صعوبة المادة وتشعباتها على غير ما كتب على الورق، تصبح السيطرة عليها عسيراً فيترك بعضهم قيادتها إلى ما تصل إليه بنفسها، أو يحاول أخذ عينة صغيرة من كل حالة أو أشكال معقدة، ليُشكل من مجموعها صورة عن المادة المبحوث عنها في فيلمه.

الجنرال المتقاعد يعود رفقة الجنود الأمميين لإنقاذ الأطفال

وهذا ما جرى مع فيلم “يقاتلون كالجنود يموتون كالأطفال” فقد اتضح أن مشكلة “الجنود الأطفال” أبعد من قضية تخص فئات عمرية من بشر يفنون أعمارهم في حروب طاحنة مجنونة، إلى تعقيدات عرقية وجغرافية، إلى جانب العوامل السياسية والاقتصادية المعروفة.

والأكثر من كل هذا نوع الممارسات التفصيلية التي لو لاحقها الفيلم لدخل في متاهات، ولو تركها لضعف وبدا خاملا، لا يتطور ولا يطور ما يستجد من مادة بصرية تتطور على الأرض بدرجات أكبر مما هي مسطرة على الورق، وقد يحمد المخرج “باتريك ريد” ربَّه ألف مرة، لأنه صاحب في رحلاته الجنرال المتقاعد، فلولاه لما جاء فيلمه بهذا القدر من الصدق، ولما حمل كل هذه الحرارة الإنسانية.

أيتام الحرب والقرى المفقَّرة.. أبناء الشيطان

على المستوى السياسي كانت الحروب الأهلية للسيطرة على الحكم في دول أفريقية كثيرة أحد أهم الدوافع لتجار حروبها لتجنيد الأطفال فيها، لسهولة خداعهم وغسل أدمغتهم وإشباع رغبتهم في تقليد الكبار، وبأنهم أصبحوا رجالا شجعانا مثل بقية رجال قبائلهم.

لكن التفاصيل التي يلجأ إليها الشيطان مخيفة، وإحدى شهادات الأطفال تشي بها، إذ يقول أحدهم: لقد كانوا يقتلون أمهاتنا وآباءنا، فلا يبقى لنا معيل سوى الضباط أنفسهم، فهم من يأخذ برعايتنا بعدهم، ولا نعرف أهلا سواهم.

وبعد حين يصبح الولد مطيعا لوالده الشيطان الذي سيأمره بدخول الحرب وقتل خصومه، كما أن تفقير القرى إلى درجة الجوع تدفع الأهالي لتشجيع أطفالهم على الحرب، لتوفير لقمة العيش من خلال انضمامهم لعصابات محاربة تدفع لهم أجورا شهرية.

“هذا المكان ما زالت أرواح بشرية تهيم فيه”

التشجيع على إدمان المخدرات واتخاذها وسيلة شيطانية للسيطرة على الأطفال، هو أسلوب كثيراً ما يلجأ له قادة العصابات المسلحة لانتزاع وعي طفل صغير لم يكتمل نضجه بعد، إلى جانب إرهاب القرى وخطف أطفالها، فذلك سلوك شائع في تجارب الحروب الأهلية.

الملصق الخاص بالفيلم والذي يعكس محنة الأطفال في روندا

ويكفي التذكير هنا بفيلم “ساحرة الحرب” الذي تناول ذات الموضوع، مركزا أكثر على استغلال الفتيات، فهن مصدر إنجاب ومتعة للرجال، إلى كونهن قوة قتل تتشابه مع قوة قتل الصبيان المنفلتة. كل هذه التفاصيل جاءت على لسان أطفال تحدثوا إلى جنرال وثقوا فيه، وقد سبقت سمعتُه وصولَه إلى قراهم، فهذا الرجل لم يرجع سائحا ليتذكر سنوات عمله كضابط. لم يرجع بكرش كبير وسيجارة في فمه.

لقد عاد الجنرال مهموما بماضيه وماضيهم، وتوصيفه لحالته النفسية شيء يتجاوز الوصف الشكلي إلى الدخول في العمق الإنساني الذي يظهر بتأثير المكان ودون تمهيد مسبق. يقول الجنرال: هذا المكان ما زالت أرواح بشرية تهيم فيه، وهي تلاحقني أينما حللت.

انتشال الأطفال من مستنقع الحرب.. مهمة مستحيلة

جاء الجنرال مشاركا في فيلم وثائقي، وفي برنامج لتأهيل الجنود الأطفال الذين تشجعهم الأمم المتحدة على ترك صفوفهم مع العصابات المسلحة والمجيء إلى معسكرات تأهيل أعدّوها لهم، ولكن المشكلة ستظهر حين يتحمس الجنرال في مهمته وتزداد رغبته في الذهاب إلى مناطق غير متفق عليها مسبقا، أو أخذه عددا أكبر من الجنود الأطفال معه.

في هذه الأجزاء التفصيلية نقف أمام خروقات إنسانية بامتياز، فالرجل عفوي ومتحمس، ويريد التخلص من ماضٍ شارك فيه مراقبا، ومع هذا فوزره عليه ثقيل، فكيف إذن بالأطفال أنفسهم؟

واحدة من العقد أن برامج التأهيل غير قادرة، بل يستحيل عليها إعادة ما فقده هؤلاء الأطفال، لأن عملية انتزاعهم من مخالب قادة العصابات المسلحة ممكنة، لكن إعادة طفولتهم المفقودة إليهم ثانية أمر شبه مستحيل، فمن مات قد مات، وما بقي من رمق يحاول أصحاب الضمائر الحية استرداده ثانية.

يتحدث فيلم “باتريك ريد” عن مرحلة كاملة من عمر بشرية أُحرقت، ولن ترجع ثانية، وهذه واحدة من أكبر جرائم قادة الحروب، فهم يقتلون الأطفال بدم بارد مرتين؛ مرة بوصفهم جنودا، ومرة بوصفهم أطفالا.