وثائقيات غوتنبرغ.. أفغانستان والهجرة لقطة مقربة

الجزائري “فدائي” والمغربي “الشاي أم الكهرباء” من بينها

قيس قاسم ـ غوتنبرغ
 
لكونه المهرجان الأكبر في سكندنافيا تكتسب المشاركة فيه والتنافس للحصول على جوائز مسابقاته أهمية كبيرة للمشتغلين في حقل السينما وبخاصة للناشطين في هذا الجزء من القارة الأوربية، وبتحديد أكبر للمعنيين بالفيلم الوثائقي فكثير من الأسماء الكبيرة، خلال أكثر من ثلاثة عقود، كانت بداية صعودها من غوتنبرغ، الذي عُرف عنه داعماً لكثير من المشاريع، وقد حصل عدد لا بأس به من السينمائيين العرب على معنوات مالية من صندوقه. وعلى مستوى مشاركة الأفلام الوثائقية في الدورة ال36 يمكن دون تردد وصفها بالنوعية كون كميتها وعلى طول الأعوام في إزدياد دائم والمشاركة العربية فيه متيمزة ومتباينة، فالدورة السابقة كانت الغلبة فيها للوثائقي وجلها كان عن الربيع العربي أما هذة السنة فمالت للروائي. من بين الأفلام الوثائقية العربية المشاركة الجزائري “فدائي” لداميان أونوري، الذي عاد لقراءة جزء مهم من تاريخ نضال بلاده ضد الاستعمار الفرنسي ولنيل استقلاله، من زاوية مختلفة غير مشبعة بحثاً تسجيلياً على عكس الثيمة نفسها التي اغتنت بكم كبير من الأفلام، وثائقية كانت أم روائية، وربما في هذا الصدد يحضر فيلم “خارجون عن القانون” لرشيد بوشارب لقرب موضوعه وليس تشابهه مع “فدائي”. فيلم الشاب أونوري عن المنسيين، عن تجاهل التاريخ لرجال ميزتهم البساطة والتواضع لا يتزاحمون للوقوف أمامه استجداءاً لشهرة أو امتياز، هم رجال جُبلوا على الفعل دون انتظار مردوده، يمضون في طريقهم بعده وكأن ما قاموا به واجباً أخلاقياً من العيب التباهي به لا تكبراً بل تساوقاً مع طبيعة فلاحية متجذرة غير مدعية مثل بطله محمد الهادي بن عدودوة، الخارج أمامنا للتو من متون الصفحات غير المقرؤة لنضالات غاية في الشجاعة وبقيّم عالية النبل.

ميزة العمل أنه يعيد قراءة تاريخ شخصي شديد التماس بالعام، ويركز، لا على الحيف الذي لحق به، بقدر التعبير عن رغبة الجيل الجديد في التواصل بين ذاك الماضي ووجودهم الحياتي، وهنا يقترح صانعه نفسه ممثلاً عنهم دون ادعاء، مثل بطله المبهرة عفويته الصادق المشاعر والذي أحالنا مصيره مرة أخرى الى تثبيت الخلاصة التاريخية المؤلمة مع شيء من الإستثناء: إذا كانت الثورات تأكل أبناءها فأنها وقبل ذلك تترك أبطالها المتواضعين يواجهون الحياة وحدهم بعد أن تُفْقدهم الكثير من القوة على مواجهتها، إلا تلك الداخلية التي يصعب عليها وعلى غيرها تحطيمها فيهم، مثل تلك التي يملكها “فدائي” أونوري. بساطة حياة الناس في جبال الأطلس المغربية ودخول “العصرنة” اليها، وجدناها عند وثائقي البلجيكي جيروم لومار “الشاي أو الكهرباء” (كتب عنه الزميل حسن مرزوقي في هذة الصفحة) ومن سوريا أختارت الدورة فيلم  “كما لو أننا نمسك كوبرا” لهالة العبد الله والذي سبق وأن عرض في الدورة الأخيرة لمهرجان أبو ظبي السينمائي.
مسابقة “التنين” لأفضل فيلم وثائقي من دول الشمال أوربي ضمت مجموعة مهمة من بينها منجز السويدية ليندا فيستريك “راقصوا غابة الأرواح” وفيه أختارت اسلوباً مغايراً للدخول في عوالم غابات الكونغو الأفريقية، عبر معايشة حياتية لقبائل “البيجما” البدائية متجاوزة تقليد تصويرهم بمنظور غربي يُسقط في غالب الأحيان نظرته المسبقة عليهم الى محاولة الإلمام بالعلاقات الروحية التي تنظم حياتهم وتناغمها مع الوسط الذي تتراقص فيه: الغابة. عايشتهم وكسبت حبهم فراحت تسجل بكاميرا 8 ملم الجديدة، لتعطي عمقاً قوياً لخضرة الوسط وتماهي حياة الناس في شدة صبغته، وتسجل كل ما يمر في حياتهم من آلام وفقدان من فرح وحزن، جوع وبحث عن السعادة بمولد أطفال جدد تُغْنون ويبررون استمرار حياتهم البسيطة والعفوية. فيلم فيستريك، الحداثوي، يطرح علينا أفكاراً من نوع؛ ما هي الصلة التي تربط البشر في داخل الغابة وأبناء المدن الصناعة مثل صاحبة الوثائقي، وكيف ينبغي النظر والتعامل مع الحيوات البدائية المتناغمة مع وسطها “الأرض الأم”، ومقدار ابتعاد الحضارة عنها بل ومدى ما تشكله من خطر عليها؟. الى جانبه يعالج الوثائقي النرويجي “بلا وطن” ما يعانيه أطفال من الأرض نفسها، دون سبب واضح، سوى لكونهم قد اضطروا لترك تلك البقاع المسماة أوطاناً الى أخرى تجردهم منها ومعها صفاتهم الإنسانية. في وثائقيها المصنوع بجهد كبير تعايش المخرجة مارغريتا أولين مجموعة من الأطفال المهاجرين تركتهم دوائر الهجرة النرويجية دون أدنى اهتمام في معسكرات لا تتوافق مع المستوى الاقتصادي المتطور الذي تتمتع به البلاد الغنية، في انتظار بلوغهم سن الرشد حتى يتمكنوا، وهنا تكمن المفارقة المخجلة، لا الحصول على حق الاقامة بل كي توفر لنفسها المسوغات القانونية لإبعادهم واعادتهم الى أماكن ما عادوا يعرفونها، لأنهم وببساطة تركوها منذ سنوات طويلة والكثير منها يشكل الذهاب اليها خطراً على حياة أطفال اضطرتهم الظروف لتركها نحو المجهول.

مثل الهجرة ظل الموضوع الأفغاني ملهماً للغربيين من صناع الأفلام الوثائقية وشدة اهتمامهم به خلال السنوات التي أعقبت وصول طلبان الى الحكم. من بين ما اختارته الدورة الجديدة لمهرجان غوتنبرغ السينمائي فيلم بعنوان “أفغانستان الجديدة ـ العيش في المنطقة الممنوعة” يحاكي الحياة  الحقيقة للناس المقيمين في المناطق الأكثر خطراً فيها. لقد مل السينمائي والصحفي المقيم في الدنمرك نجيب خاجة الطريقة التي يتناول فيها الاعلاميون الغربيون الأحداث الأفغانية وابتعادهم عن تجسيد المناطق الخطرة بصورة واقعية لهذا اختار طريقة أكثر عملية يتمكن من خلالها نقل واقع تلك المناطق تمثلت في توزيعه  تلفونات نقالة مزودة بكاميرات على عدد من سكانها وطلب منهم تصوير حياتهم اليومية. النتيجة فيلم وثائقي مدهش لا يقل جودة وإثارة عن فيلم المخرجة نيما سارفستاني “لا برقع خلف القضبان” التي سمح لكاميرتها ولأول مرة بتسجيل تفاصيل حياة نساء أفغانيات داخل سجن خاص بهن في كابول. أغلبية سجيناته دخلن اليه لإرتكابهن جرائم تتعلق بهروبهن من بيوت أزواجهن. حياتهن خلف القضبان وبدون برقع سجلتها الكاميرا بحرية منحت الوثائقي صدقية وجودة ميزته عن أفلام أخرى عالجت موضوع السجينات الأفغانيات من قبل. تميز وجودة مثل التي في أغلب وثائقيات غوتنبرغ لهذا العام.