وحيد حامد.. نهاية رحلة سينمائية طويلة من المهادنة والصدام

 

الفنان المصري هشام عبد الحميد

رحل عن عالمنا الكاتب الكبير وحيد حامد بعد مشوار من العطاء الإبداعي. ومما لا شك فيه أن كتابات وحيد حامد كانت في معظمها كاشفة أو ساخرة من محاور الفساد والتطرف الديني والظواهر السلبية الهدّامة وما إلى ذلك.

لكن من الملاحظ أيضا أن حامد لم يختر الصدام المباشر والعنيف مع السلطة، فقد لجأ إلى المهادنة والالتفاف والتحاور مع القوى النافذة والرقابة، لكي تسمح له السلطة بمساحة تميزه عن أقرانه من الكُتّاب، بزيادة هامش الحرية والجرأة في كتابة أفلامه، وبالذات التعمّق في مفردات الحوار، وتمرير ما يريد في طريقته وأسلوبه.

ولعل هذا ما لفت أديبنا الكبير يوسف إدريس الذي قابله وحيد حامد في بداية حياته بالصدفة في مطعم بابريكا المقابل لمبنى ماسبيرو الشهير في القاهرة، ويبدو أنه كان يتناول غداءه فاستأذنه وحيد بالجلوس معه، وأعطاه أول مجموعة قصصية له، وكانت بعنوان “القمر يقتل عاشقة”.

أمسك بالقصة أديبنا الكبير إدريس وأخذ يتصفحها بعيني الخبير، ثم نظر إلى وحيد نظرة متفحصة، وقال له: “هل ترى هذا المبنى -مشيرا إلى ماسبيرو-“؟ فأجاب وحيد: “نعم.. إنه التلفزيون”، فرد يوسف: “مكانك هناك، وهذا هو رأيي”.

وبالفعل عمل وحيد برأي يوسف إدريس، والذي جذب يوسف إدريس في كتابات وحيد حامد هي جمل الحوار وتميزها وكثافتها وتركيزها.

 

“أوان الورد”.. حين تشد السلطة أذن الخارجين عليها

استطاع وحيد حامد بموهبته وذكائه مُهادنة السلطة أحيانا ومراوغتها أحيانا والتوازن معها أحيانا أخرى، وقد استثمرت السلطة هذا إلى أبعد الحدود، حيث لم تُمانع أيضا حين كان وحيد يتجاوز أكثر من المطلوب، لأنها تعرف كيف تشدّ أذنه بطريقة أو بأخرى .

أذكر ذلك في مسلسل “أوان الورد” الذي شُرِّفتُ ببطولته، حيث كان توقيت عرضه الساعة الحادية عشر مساء، ويسبقه الساعة الثامنة والنصف مسلسل “وجه القمر” للفنانة الكبيرة فاتن حمامة، وقد فوجئنا وقتها أن الهيئة العامة للتلفزيون في مصر أخذت قرارا بتأخير عرض “أوان الورد” إلى الساعة الثالثة صباحا، بحجة أنه يطغى على مساحة الإعلانات في ذلك الوقت.

لكن المسلسل في الحقيقة وقع تأخيره لسببين، أولهما هو مضمونه الجريء، إذ يروي قصة حُبّ تجمع بين ضابط مسلم وسيّدة مسيحية، بالطبع كانت هذه الفكرة شائكة ولم تتطرق إليها الدراما التلفزيونية من قبل، وزاد ذلك خطورة شطحات وحيد بالحوار الذي تجاوز كل الحدود، ومن ثم كان لا بد من تحجيمه.

أما السبب الثاني فكان لضعف مسلسل فاتن حمامة، والمقارنة لن تكون لصالحها، لهذا أرادت السلطة أن تضرب عصفورين بحجر واحد بذلك التأخير.

 

مسابقة الطفل المخطوف.. لعبة تحويل الأنظار

لما علم كاتبنا الكبير وحيد حامد بالقرار، توجه صباح اليوم الثاني إلى مكتب رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون، واصطدم به صداما عنيفا، حيث رجع وحيد مرهقا من تلك المقابلة العاصفة التي أدت إلى حدوث أزمة قلبية له ذهب على أثرها للمستشفى، وخضع بعدها لعملية قلب عاجلة.

هنا قامت الدنيا ولم تقعد، وكان وزير الإعلام وقتها صفوت الشريف -رجل المخابرات السابق- قد اتصل لكي يطمئن عليه، ويعلمه أن موعد المسلسل لن يتغير .

بدأت حلقات المسلسل تتابع، وبدأت تظهر جُمل ومواقف وحيد، وتزداد سخونة وجُرأة بالسيناريو. وهنا وجدت السلطة أنه لا بدّ من التخفيف من جرأة أفكار المسلسل، فاللعبة كانت أن التلفزيون المصري بدأ يعلن عن مسابقة لمن يعرف مختطِف الطفل الذي كان محور الحبكة في قصة المسلسل.

طبعا سيُكشف عن الخاطف في آخر حلقة بالمسلسل، وبالطبع نجحت خطة السلطة في تحويل أنظار الناس عن القضية الأساسية إلى مجرد مسابقة.

 

“معالي الوزير”.. أزمات مُفتعلة لكبح الجموح الفني

يحضرني أيضا في هذا السياق فيلم “معالي الوزير” الذي شُرّفت فيه باقتراح تقاسم البطولة مع الفنان أحمد زكي. الفيلم مُستقى من واقعة حقيقية وتدور قصته حول وزير وصل إلى الوزارة الصدفة، حيث ترشح أحدهم لمنصب الوزير، إلا أنه يُكتَشف لاحقا أن هناك خطأ ناتجا عن تشابه أسماء، وأنه ليس الرجل المطلوب. لكن كان من الصعب التراجع عن الخطأ، فكان على الوزير والذين رشحوه أن يستمروا بإسناد الوزارة له .

يبدأ بعد ذلك رأفت رستم في التسلق، ويساعده في هذا مدير مكتبه وكاتم أسراره والمحرك الدرامي للأحداث عطية عصفور، وتتوالى الأحداث لكي يكتشف أن الوزير يقف أمام خيار واحد هو أنه لا بدّ من التخلص من كاتم أسراره الذي عرف عنه أكثر ما ينبغي، فيرسل إليه أحدهم ليتخلص منه، لكن يظل عطية عصفور يطارد خيالات رأفت رستم.

وأذكر أننا أنجزنا معظم الفيلم، لكن فجأة توقف التصوير، وكان بيت القصيد أن الفيلم تجرّأ أكثر من الحد المسموح به، فقد أصرّ رئيس قطاع السينما بمدينة الإنتاج الإعلامي التي تتبع لوزارة الإعلام (أي الحكومة) ممدوح الليثي على عدم السفر بالفيلم للندن لإجراء تروكاج (حيل بصرية) بلندن، وكانت الحجة أن هذا إسراف إنتاجي.

تلك كانت بالطبع حجة لتعطيل الفيلم قدر الإمكان، وقد استمر التوقف مدة طويلة، إلا أن الذي أنقذ الموقف هذه المرة هو المخرج الكبير سمير سيف، إذ أدرك أن هناك من يحاول تدمير الفيلم، أو على أكثر تقدير تأخيره أطول فترة ممكنة.

كل تلك المضايقات والأزمات المفتعلة كانت للفت نظر وحيد حامد بشكل غير مباشر بأن ينتبه أن السلطة تسمح له بأن يمارس جرأته وجموحه، لكن بحساب وبقدر معين.

أعتقد أن وحيد حامد كان ينطلق بإبداعه أيضا، لكنه انطلاق محسوب بدقة، فهو يميز بين المُباح والمتاح، لكنه كان يمارس لعبة شدّ الحبل في الوقت المناسب ليستطيع أن يتجاوز .

 

“البريء”.. نهاية كادت تنهي حياة المخرج

ما حدث في فيلم “معالي الوزير” حدث أيضا في فيلم “البريء” لعاطف الطيب، وقد قام ببطولته محمود عبد العزيز وأحمد زكي وحسن حسني وصلاح قابيل.

أظهر الفيلم فكرة حتمية التمرد المسلح في المعتقل نتيجة الظلم والتعسف ضد سجناء الرأي، إلا أن الرقابة على المصنفات الفنية لم تُجز الفيلم، وحولته إلى وزارة الدفاع.

كان وقتها الوزير المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة طلب مشاهدة الفيلم، وبالفعل شاهده مع منتج الفيلم صفوت غطاس، لكنه أوصى بعد مشاهدته بتغيير نهاية الفيلم، وقد وقع التغيير من قبل المنتج دون علم مخرج الفيلم عاطف الطيب، وقد قيل إنه أُصيب بأزمة قلبية من شدّة غضبه عندما فوجئ بالتغيير وهو يُشاهد عرض الفيلم؛ وأنه نُقل على أثر ذلك إلى المستشفى .

 

“العائلة”.. ثورة على عذاب القبر أدت للتعديل أثناء العرض

هناك أزمة أخرى من نوع تراثي أثارها وحيد حامد في مسلسل “العائلة” الذي تصدّى فيه للمجموعات الظلامية المتطرفة التي تتحدث باسم الدين، لكن الدين منها براء. حيث كان اتجاه الدولة القوي التصدي لهذه المجموعات، فقد اعتمدت الدولة في اتجاهها هذا على دعم غير محدود لأفلام من نوع فيلم “الإرهابي” الذي جرى تدشينه مع أفلام أخرى، وهو من تأليف لينين الرملي، وإخراج نادر جلال، وبطولة عادل إمام.

ولعله من الجدير بالذكر أن صاحب المشروع الأساسي كان المخرج الكبير سمير سيف، لكنه استُبعِد في آخر لحظة لأنه قِبطيّ، واستُبدل بنادر جلال المسلم حتى لا يزيد التناقض والاحتقان، فالعادة هي الهروب إلى الوراء، وتجاهل أسباب الاضطراب.

كان مسلسل “العائلة” لوحيد حامد، من بطولة محمود مرسي وليلى علوي وآخرين؛ يتساير تماما مع خط الدولة الأساسي في ذاك الوقت، لكن وحيد حامد فجّر أزمة عندما ذكر على لسان بطل المسلسل عدم وجود ما يُسمى “عذاب القبر”، وأنها أحاديث ضعيفة ومشكوك فيها.

وهنا ثارت ثائرة الناس وأقام الأزهر قيامته، مما دفع السلطة للوم حامد وحيد على هذا الإزعاج، وطلبت منه التعديل فورا بالحلقات القادمة، وبالفعل جاؤوا بممثل كبير هو حمدي غيث لكي يلعب شخصية إمام مسجد، ويؤكد وجود عذاب القبر، وذلك لوضع حدّ لمشكلة كبيرة كادت أن تُشعل الحرائق.

لقطة من فيلم “القاهرة منورة بأهلها” للمخرج يوسف شاهين، والذي سلّط فيه الضوء على الوضع المتردي للناس في مصر

 

“القاهرة منورة بأهلها”.. تناقضات حارس السلطة الشرس

كان التناقض عند وحيد حامد هو بين ما يؤمن به من فكر، وبين تصرفه في بعض الأحيان، فمن المستغرب أن هذا السيناريست المقاتل بشراسة لتكون أعماله جريئة، يقف في مواقف أخرى كحارس لسياسة الدولة وتوجهاتها، ويقع في تناقض بين أفكاره ومبادئه، وبين حراسة القيم التي تريد السلطة ترسيخها.

ومن أمثلة هذا التناقض الأزمة التي وقعت في مهرجان “كان” عندما عرض المخرج الكبير يوسف شاهين فيلمه القصير “القاهرة منوّرة بأهلها”، حيث قدّم شاهين نقدا اجتماعيا وسياسيا لاذعا للسلطة في مصر، مُسلّطا الضوء على الوضع المتردي للناس، لكنه لم يُقلّل أبدا من قيمة الإنسان المصري، ولهذا كانت القاهرة منورة فعلا بأهلها، إلا أن هذا لم يعجب السلطة وأجهزتها.

والغريب أن وحيد حامد انبرى كذلك في الهجوم على الفيلم، وأدان يوسف شاهين تماما كما تُدين السلطة بأن تصوير الواقع بسخرية مُرة يشوه صورة مصر في الخارج، وقد وصل الأمر بهما إلى السباب العلني، وكاد أن يصل إلى الاشتباك بالأيدي بينهما.

كان ذلك الموقف يمثل بوضوح شديد انحياز وحيد حامد للسلطة والدفاع عنها آنذاك، لكن شاهين كان رده على ذلك الاتهام الضيق الأفق أنه لا يُقدّم فيلما سياحيا أو إعلاميا عن مصر، وإنما يُقدِّم بالمقام الأول فكرا حُرّا لا يرتبط بمصالح ولا حسابات السلطة، ولا يعمد على تجميل القبح أو تبريره.

على كل حال لا يزال وحيد حامد من المبدعين الذين لا نستطيع أبدا أن ننكر موهبتهم سواء كنا نختلف معهم أو نتفق، أو نحبهم أو لا نحبهم.