“وداعا أيها الاتحاد السوفياتي”.. كوميديا طائر الطفولة العالق في القفص الشيوعي

قيس قاسم

يكتب المخرج الفنلندي “لاوري راندلا” سيرة طفولة “يوهانس” التي عاشها في الاتحاد السوفياتي خلال فترة الثمانينيات من القرن المنصرم، وشهدت نهايتها بداية تفككه بأسلوب سينمائي كوميدي ساخر، يمرر من خلاله رؤيته لتلك السنوات المضطربة من تاريخ البلد، ويحيطها بعوالم طفولة، ويسمح بدخول الخيال والفانتازيا عليها لتزيدها بهجة بالرغم من شدة قساوتها.

ولأن بطل فيلم “وداعا أيها الاتحاد السوفياتي” (Goodbye Soviet Union) الحائز على جائزة الجمهور لأفضل فيلم في الدورة الأخيرة لمهرجان “تالين الليالي السوداء” السينمائي؛ هو من عائلة تنتمي إلى الأقلية الفنلندية التي تُقيم في جمهورية إستونيا، فإن مساحة التناول تتسع، وتتكشف خلالها التناقضات القومية والعرقية التي حاولت الدعاية الروسية إخفاءها تحت شعارات “العيش المشترك” في ظل اتحاد تطوعي.

 

هذا ما تسخر منه سيرة الطفل التي يسردها بلسانه، وتأخذ شكل مذكرات سينمائية يغلب عليها المرح، ومن داخلها تتكشف عيوب نظام مفسد تجلت مظاهر فساده منذ لحظة ولادته في مستشفى حكومي.

“النساء السوفياتيات يلدن أطفالهن بصمت”

ينسب نص الفيلم الروائي الإستوني الفنلندي المشترك أصل الطفل “يوهانس” (الممثل نيكلاس كوزميتشيف) إلى عائلة “تاركينين”، وهي كما تخبرنا أحداثه المتخيلة -التي تمتد إلى مدن ودول وأقاليم مختلفة- من الأقلية الإنغيرية الفنلندية التي تعيش في إستونيا السوفياتية.

في المشهد الأول يظهر جميع أفراد العائلة لحظة انتظارهم ولادة ابنتهم في إحدى مستشفياتها المختصة، فالطبيبة المُشرفة على قسم الولادة تمنع النساء من التعبير عن أوجاع ولادتهن، وتخبرهن أن “النساء السوفياتيات يلدن أطفالهن بصمت”.

تمثال للزعيم الشيوعي الروسي “فلاديمير إيلتش لينين” الذي يُعتبر أب لكل السوفيات، وحمل يوهانس اسمه

 

ولد الطفل كما يقول في مذكراته السينمائية صغيرا يعاني من مشاكل التنفس، ووضعوه في غرفة العناية المركزة، ولأن المستشفى مزدحم فقد كان على والدته الموافقة على وضع طفلة أخرى حديثة الولادة معه في نفس “الحاضنة”. وهكذا نشأت علاقة بين الطفلين، وستظل الصدفة والأحداث تلعب دورا في تمتينها، وفي أحيان أخرى في تخريبها.

“لأنه أب لكل السوفيات”.. أبوة باهظة الثمن مدى الحياة

في المشهد الموالي تظهر العائلة وهي واقفة أمام موظفة تسجيل المواليد الجدد، حيث ترفض الموظفة تسجيله رسميا، وذلك لأن والدته الشابة (الممثلة نيكا سافولاينين) لا تعرف اسم والده الحقيقي، وليس عندها عنوان سكن دائم، لكونها تعيش في قسم داخلي مخصص لطلاب الجامعات، لكن الحل سهل، إذ يقدم الجد (الممثل توني أويا) مبلغا من المال للموظفة، فتقبل بتسجيل حفيده، لكن بأي اسم؟

الحل موجود أيضا لدى الجَد الذي قال: نسجله باسم الزعيم الشيوعي الروسي “فلاديمير إيلتش لينين”، لأنه أب لكل السوفيات. هكذا حمل “يوهانس” اسم الزعيم، وسيفرض عليه الاسم الكثير من المشاكل في المستقبل.

منطقة “لينيغراد 3” التي تقع ضمن حقول المفاعلات النووية السرية وتُحاط بحراسة مشددة، لا يُسمح للغرباء بالدخول إليها

 

خلال ذلك اليوم تتضح درجة التناقض بين والدة الطفل وجَدته (الممثلة أوله كاليوسته) التي تريد تربيته وتسيير أمور العائلة وفق منظورها القديم، في حين تريد الشابة عيش حياة عصرية مختلفة عن تلك التي عاشتها والدتها.

“لينينغراد 3”.. مدينة المفاعلات النووية الوهمية

يعطي الفيلم زمنا جيدا لتمهيد سردي يسبق الغوص في الأحداث اللاحقة التي تُنغّص تفاصيلها عيش العائلة، وتُصعّب حياة الطفل يوما بعد آخر، فأوضاع الأم المرتبكة تُجبر والديها على أخذ ابنها ليعيش معهم في المنطقة الخاصة التي يعملان ويقيمان فيها، وتسمى “لينينغراد 3”.

تعتبر “لينينغراد 3” منطقة لا وجود لها على الخرائط، فاسمها اسم وهمي للتمويه فقط، لأنها تقع ضمن حقول المفاعلات النووية السرية، وتحاط بحراسة مشددة، ولا يسمح للغرباء بالدخول إليها ولا التصوير داخلها.

“فيرا” و”يوهانس” اللذان تنفسا الأكسجين من نفس الحاضنة الطبية يجتمعان مُجددا في إستونيا

 

في المرة التي تحضر والدته مع عشيقها للمكان يدخل الطفل خطأ للبحر، ويتعرض جسده بسبب تلوث مياهه إلى إشعاعات نووية خطيرة تُصيبه بالسرطان، وبسببها يتساقط شعر رأسه. الصلع والمكان السري والاسم الشيوعي كلها عوامل تزيد من تعقيدات عيش الطفل وتعرضه للمشاكل والمفارقات المضحكة.

لقاء في إستونيا بعد حين.. عصر المعجزات السوفياتية

يتهكم الفيلم من زمن المعجزات السوفياتية، حين يجمع الطفلين “فيرا” و”يوهانس” اللذين تنفسا الأكسجين من نفس الحاضنة الطبية في مكان واحد بعد مرور سنوات، فبعد خروج العائلة من الموقع السري بسبب أخطاء وسلوك والدته التي اعتبرتها السلطات تشكل خطرا عليها، مثل تصويرها لطفلها في الشارع؛ تتجه للعيش في جمهورية إستونيا، وفي إحدى مدارسها تتقابل العائلتان.

تعرض عائلة “فيرا” على الوافدين الجدد العيش معهم في الشقة نفسها مؤقتا، وفي المدرسة تظهر الصراعات القومية والعرقية، فالمدرسون الروس يفرضون اللغة الروسية على الجميع، وبعض أطفال الأقليات لا يفهمونها جيدا.

سقوط شعر “يوهانس” بعد تعرضه لإشعاعات نووية خطيرة تُصيبه بالسرطان، وبسببها يتساقط شعره

 

في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، وفي عهد الرئيس “غورباتشوف” يتحرك الإستونيون للتخلص من الهيمنة السوفياتية، وبسبب اسمه يواجه الطفل “لينين” مشاكل لا حصر لها مع بقية الأطفال، لكن صديقته “فيرا (الممثلة إلينا براتاشفيلي) تبقى إلى جانبه وتدافع عنه. أما الشقة التي تجمع العائلتين، فكانت تجمع أيضا مصائر رجالها المجهولة بسبب الاحتلال الروسي لأفغانستان.

احتلال أفغانستان.. ظلال حروب الجبهة على المنزل

كان والد “فيرا” ضابطا في الجيش، وقد أُرسل إلى أفغانستان خلال الاحتلال، وأما عشيق والدة “هانسن” فهو يقضي خدمته العسكرية هناك أيضا، وهذا هو ما يجعل العائلتين مهتمتين بأخبار الحرب، لكن بعيدا عن الحرب تشهد مساحات شقتهما الصغيرة صراعات ومواقف كوميدية تكشف عن أنانية واختلاف سلوك ومواقف سياسية واجتماعية عصية على الإخفاء، يراقبها الأطفال ويتورطون أحيانا بها.

وفي نتيجة غير مباشرة لها تتعرض إحدى عيني “فيرا” لبارود قذيفة سلاح مُصنّع يدويا وجهه أخوها أثناء اللعب نحو عينها، مما أدى إلى تلفها.

لعبة “الجندي الروسي والعدو الأفغاني” التي يلعبونها أدت إلى افتراق العائلتين، وسيزيد من توترها على مستوى أكبر سماع خبر موت الضابط في الحرب، وتوجه والدته للسفر خارج الاتحاد السوفياتي نحو فنلندا.

ربع الراتب الشهري.. رشوة الأم لأجل رؤية ابنها

تزداد عزلة الطفل “لينين” مع زيادة التوتر بين إستونيا والمركز السوفياتي، وذلك مع بداية تطبيق سياسة إعادة الهيكلة “بيريسترويكا” في الاتحاد السوفياتي، فأطفال القومية الإستونية الطامحة بالانفصال يكرهونه بسبب اسمه، ولا حل لوالدته لتخليصه من الوضع الصعب الذي يعيشه ويجعله يميل أكثر إلى الخيال واختلاق عوالم لا صلة لها بالواقع؛ إلا بالسفر والعمل في فنلندا من أجله.

الأم الشابة التي يتوجب عليها دفع ربع راتبها الشهري كرشوة لرؤية ابنها “يوهانس”

 

خلال تلك الحقبة سمح للروس من أصول فنلندية بالسفر إليها بشروط قاسية تمنع عليهم العودة منها، إلا بعد مرور عامين على سفرهم، وهذا يعني حرمانها من رؤية ابنها المحاصر من كل الجهات من دون ذنب.

ينقل الفيلم الرائع -وأبطاله الصغار بشكل خاص- المتحركين وسط مناخ خيالي لا يريدون أن تفسده قسوة الواقع، ولا فجاجة الحياة في ظل نظام ظل قاسيا حتى في أشد لحظات ضعفه، فيُظهِر الوضع المتأرجح ميلا أشد عند مسؤوليه لاستغلاله.

يُلخص ذلك الوضع المشهد الذي يعرض فيه مسؤول كبير في الدولة على الأم الشابة موافقته على سفرها، بشرط دفعها له ربع راتبها الشهري في الخارج، ولا خيار أمامها سوى الموافقة.

طفل الغرب المدلل.. عصر القوة في المدرسة والشارع

مثل أغلب الأفلام التي يلعب بطولتها أطفال صغار، يؤدي أطفال “وداعا أيها الاتحاد السوفياتي” أدوارهم بإتقان وعفوية مذهلة، يتجسد ذلك بقوة بعد دخول المذكرات مرحلة درامية مؤثرة يحكي فيها الطفل الروسي المُوزع -مثل البلد نفسه- بين متناقضات واختلافات فكرية حادة؛ المستجدات التي طرأت على حياته عقب سفر والدته، وإرسالها له أشياء جميلة من الغرب لا تتوفر في الاتحاد السوفياتي مثلها.

غيَّرت ملابس العلامات التجارية العالمية والمواكبة للموضة والحلويات المتنوعة والألعاب الغريبة وضع “يوهانس” في المدرسة والشارع، وأعطته قوة، وفي الوقت نفسه رفعت من درجة كراهية المحرومين منها له، ولا يستثنى منهم إلا “فيرا” التي تفهمت وضعه، وكان هو كريما معها.

ألعاب ودمى غربية لا وجود لها في البلد السوفيتي يلعب بها “يوهانس” طفل الغرب المُدلل

 

في هذا الفصل يتجسد حجم الاختلاف الثقافي والاقتصادي بين الغرب والشرق الأوروبي، وتكشف التفاصيل الصغيرة وحوارات الأطفال فيما بينهم أيضا تأثيرات ذلك الميل على المتحمسين للنموذج الغربي الرأسمالي، وتزايد خلافاتهم مع المُصريّن على السير في ذات النهج السوفياتي القديم.

معاناة السوفيات بعيون الأطفال.. رسائل سياسية

بانفصال إستونيا عن الاتحاد السوفياتي بعد سقوطه المدوي، وانتقال الطفل مع والدته للعيش في فنلندا؛ ينتهي فصل الطفولة السوفياتية، فيودعها بتوديع الاتحاد السوفياتي نفسه، فهو لم يعد موجودا، لكن الطفولة التي عاشها فيه لا يمكن مسحها بالكامل.

أجمل ما في الفيلم روح الطفولة فيه، والحفاظ عليها من دون إسقاطها في خطاب سياسي دعائي مباشر، فقد ظلّ الأطفال كما هم، لكن الظروف المحيطة بهم قد تغيّرت كما تغيّر العالم بأسره بعد نهاية الشيوعية.

انفصال إستونيا عن الاتحاد السوفياتي مرغوب عن بلد لم يعد مرغوبا

 

فيلم “وداعا أيها الاتحاد السوفياتي” أكثر من رائع، فقد عرض مخرجه بذكاء -من خلال عالم الأطفال- مراحل طويلة عاشها المواطن الروسي، وعانى خلالها من قسوة نظام سياسي كان لا بد للزمن من تجاوزه، كما يتجاوز الإنسان مرحلة الطفولة نحو سن الرشد. هذا ما يشعر به المتفرج على الفيلم الفنلندي وهو في طريقه للخروج من صالة العرض.