“يا عمري”: قرن “هنريات”

محمد موسى

بعينين متعبتين ونصف مغمضتين، ورَقبة أحنتها مائة ونيف من السنوات، تكابد “هنريات” وهي تحاول أن تطيل النظر إلى حفيدها المخرج اللبناني هادي زكّاك الذي توسط أحياناً المسافة بينها وبين كاميرا فيلمه التسجيلي الجديد “يا عمري”. بدت “هنريات” تارة واعية بحضور المخرج وفريقه التقني الصغير، فيما كان على “زكّاك” في مرات أخرى أن يُفيق جدته ويُعيدها من العالم المجهول الذي انسحب إليه عقلها، ويذكرها بإسمها وعمرها ومن يكون هو لها. صَوَّرَ المخرج “هنريات” في سنواتها الأخيرة، وصاغ من المواد الأولية التي صورها فيلماً أصيلاً بلا مرجعيات، قاسياً وحنوناً في الآن ذاته، عن نهايات الحياة والأحلام وأفول الزمن، والدروب التي يسلكها الناس، وكيف تنتهي جميعا بمحطة الآجدوى ذاتها.

"هنريات" جدّة هادي زكّاك

ليس معروفاً إذا كانت “هنريات” تدرك ما كان يقوم به الحفيد، أو هذا الأخير كان يعرف وقتها المقصد النهائي لما كان يسجله من سنوات جدته الأخيرة، لكنه سينتظر ثلاث سنوات بعد وفاة “هنريات مسعد عويس” لكي يبدأ في مقاربة الصور العائلية، والبحث من خلالها عن سردية ربطت القصة الذاتية بالشأن والتاريخ العامين، وفتحت قصة المرأة اللبنانية العادية على مديات وآفاق إنسانية واسعة، وشرعت الفيلم على أسئلة الحياة والموت والوجود، على خلفية قرن مضطرب عاشته “هنريات” بأفراحه القليلة وجحوده وخيباته وندمه.

عندما يصل الفيلم “هنريات” تكون هذه الأخيرة قد فقدت الكثير من ذاكرتها. لا يُكمِّل الفيلم الناقص من التفاصيل من تاريخ العائلة عبر شروحات زائدة او لقاءات مع أفراد من العائلة، بل سيبقى دائماً مع شخصيته الرئيسية، مُقترباً منها الى درجات الألتصاق، منصتا الى كل ما تقوله، رغم أنها أضحت عاجزة عن إستحضار الماضي، وأحياناً غير قادرة على التعرف على أبناءها أنفسهم. سيستعيد الفيلم سنوات سابقة من حياة “هنريات”، حيناً عبر أفلام منزلية لها وهي في بداية عقدها السابع، وأحياناً أخرى عبر المخرج الذي يستذكر مثلاً القصص التي كانت ترويها له جدته عندما كان طفلاً والتي سجلها وقتها، تشيء المشاهد الأرشيفية البعيدة لـ “هنريات” بشخصية قوية ظريفة ومتكلمة فصيحة، لكن هذا سيكون طيفاً بعيداً يخطف سريعاً عبر زمن الفيلم.

لن يتحول الفيلم إلى بوتريت تقليدي لشخصيته الرئيسية، فهناك فترات طويلة من حياتها بقيت دون بحث أو تنقيب او استعادة. سنعرف أن “هنريات” هاجرت عندما كانت صبية مع أهلها الى البرازيل، لكنها عادت وعلى خلاف الشائع وقتها إلى لبنان مرة أخرى وبعد سنوات قليلة من العيش هناك، وهو الأمر الذي سيكون دائماً مدعاة للندم والحسرة عندها. أما قصتها التي سجلها الحفيد عن لقاءها بشاب على السفينة، فإنها ستتحول إلى واحدة من القصص العائلية القديمة التي من الصعب التأكد من صحتها، والتي سيلفها الزمن بالكثير من الحب والحنين. وبدا المخرج وهو يعود إلى شباب شخصيته الرئيسية على النحو الذي فعله في الفيلم قريباً مما نعرفه عن عمل الذاكرة للذين يصابون بفقدان الذاكرة بسبب التقدم بالعمر، حيث يمكن لهؤلاء استحضار تفاصيل دقيقة من الماضي البعيد كثيراً، في حين يعجزون عن تذكر أحداث الأمس.

المخرج "هادي زكاّك"

بجرأة يشهد لها يركب المخرج مشاهد فيلمه من مشاهد طويلة مُتشابهه في بنائها ومناخاتها، معظمها للحوارات العسيرة التي كان يجريها مع جدته، والتي كانت تزداد صعوبة مع تعاقب الأيام. اذ كانت “هنريات” تغيب تدريجيا في عتمة المرض، ويتطلب أرجاعها كل مرة الى الواقع جهداً مضاعفاً من المخرج، او من أبناءها. يقتنص المخرج لحظات كوميدية تتفجر من اليومي غير التقليدي للجدة التي تعيش وحيدة وتخدمها خادمة أجنبية، يذكر بعضها بكرم السيدة وما كانت عليه يوما، فعندما تلتفت الى وجود المصور في أحد المشاهد تسأل حفيدها اذا كان المصور او مهندس الصوت قد أكلوا وشربوا في بيتها وكما تقضي العادات التي تربت عليها، وتصر عندها أن تتخلى عن قطعة الكيك التي كانت في يديها الى أحدهم.

كل خيارات المخرج في هذا الفيلم كانت صائبة، من أسلبة بعض المشاهد المقربة لـ “هنريات”، وتغيير الخلفيات اللونية لتلك المشاهد والتلاعب بوضوح العدسة، والتي عكست تِيه ذاكرة الشخصية الرئيسية في الفيلم وتموّجها بين ماض بعيد وحاضر صار من الصعب كثيراً الإمساك به، الى جسارته في الإبتعاد عن تنميق صورة “هنريات” ، وعدم التهيب من تقديم مشاهد حميمية تظهر ضعف الجدة وهشاشتها، مثل المشهدين الشديدي التأثير عندما بدأت “هنريات” بتقبيل أيادي أبناءها الذين زاروها في بيتها الصغير. هذا الى جانب بناء الفيلم غير المساوم، وإيجاده ل “موتيفات” شكليّة وإسلوبية خاصة بالشيخوخة والوحدة والضعف.

"يا عمري" لهادي زكاّك: حكاية جدّتي

لا مناص من ربط الفيلم وشخصية الرئيسية بالبلد والقرن المضطرب الذي عاشته وشهدت عليه، بحيث أنه من الممكن قراءة حياة الجدة الطويلة وذبولها وموتها والتي نشاهدها بالفيلم بأنه كناية عن عصر إنتهى هو أيضاً بالهزائم والفراغ، عصراً بدأ بالأحلام الكبيرة التي بحثت عنها “هنريات” خلف البحر كما فعل الاف اللبنانين وقتها، ثم تدمير البلد نفسه بسبب الحرب اللبنانية الأهلية، والتي وصلت وقتها الى بيت “هنريات” وخربته. يستعيد المخرج الحرب اللبنانية عبر صور فوتغرافية بالأسود والأبيض من أجواء تلك الحرب، مع تعليقات ل “هنريات” نفسها في فترة سابقة من حياتها، وفيها تعلن سخطها على السلطات والسياسيين الذين خذلوا الناس. تلك الشهادة ستسبق المشاهد الختامية من الفيلم، والتي كانت الكاميرا تدور فيها بكآبة شديدة على الشقة التي أصبحت فارغة بعد رحيل صاحبتها، باحثة في أثاثها ومتعلقاتها عن آثار لحياة مرت من هناك.