“يوم النساء”.. طائر النورس المحلق في عهد السوفييت

حميد بن عمرة

ولدت مخرجة الفيلم “دوليا غافانسكي” لأب يوغسلافي وأم بلغارية بطلة للشطرنج، وعاشت حتى عامها السادس بين بلغاريا وسمرقند وسان بطرسبورغ ثم موسكو قبل أن يتحطم جدار برلين ويسقط مشروع البيروسترويكا ويبيع “يلتسين” البلد لبنوك الغرب.

تعتبر “دوليا” مخرجة وممثلة ومنتجة شاركت في أعمال كبار عالم التمثيل مثل “أنجلينا جولي” و”تريفور نون” إلى “مايكل وينتربوتوم”، ولديها خبرة في راديو “بي بي سي”، كما دبلجت لعبة الفيديو المشهورة (Overwatch) حيث أعطت صوتها للبطلة الروسية “زاريا”، وهي تقيم حاليا بلندن.

تفتتح “دوليا غافانسكي” فيلمها بتوقيعها للمعجبين كبطلة بصوت “زاريا” وكأنها تريد التأكيد على أنها روسية قبل كل شيء، وأنها قوية مثل شخصية الفيديو.

تستعمل “دوليا” صوتها في السرد بلغة بسيطة في متناول الجميع، وتضع بيادق شخصيات فيلمها بشكل واضح ممسكة بيدي المشاهد في رحلة عبر الزمن، فتضع الكاميرا بين أحضان النساء وتترك لهن كل الوقت ليداعبن العدسة.

ليس هناك تصنع في تلقف المعلومات بل تأنٍّ واستماع محترم، فالفيلم لا يراد به كسب قلب المشاهد بتقنية فذة، بل يكتفي بثقل الشخصيات التي تتوالى في طابور اختارت منه المخرجة نخبة متكاملة تمثل نساء روسيا والاتحاد السوفييتي.

 

38 امرأة.. نبش في إنجازات نسائية هامة

التقت المخرجة بأكثر من 38 امرأة وصورت قرابة 80 ساعة في ظرف عامين بحثا عن جذورها وعن حقيقة شخصيتها من خلال إنجازات نسائية تاريخية هامة في تاريخ هذا البلد الشاسع.

يختزل الفيلم المسيرة الشخصية للمخرجة بتمزق الاتحاد السوفييتي، لتنطلق من هذا المفصل حيث تفصل في طابع كلاسيكي قصص نساء بعضها مشرق وبعضها قاتم اللون.

لقد كانت “دوليا” تحلم بالتمثيل على خشبة المسرح بلندن وهي في عامها السابع عشر، وتختار هنا أن تصور من يمثل أنوثتها وماضيها ومستقبلها، وتتساءل من خلال فيلمها عن هويتها ولماذا يحدث كل هذا معها الآن؟ فتلجأ إلى استبطان ماضيها وتعرفنا ببطلات تفتخر بمسيرتهن الغنية.

الصحفية الألمانية “كلارا زاتكين” التي أسست مجلة المساوة عام 1890

 

8 مارس.. خيط ناظم لقصص نسائية

يستعمل الفيلم في نسيجه يوم 8 مارس/ آذار كحجة ونقطة تساؤل وخيط رابط بين القصص، فهو يوم اقترحته المعلمة والصحفية الألمانية “كلارا زاتكين” عام 1910 في مؤتمر للنساء الاشتراكيات المنعقد بالدانمارك.

أسست هذه المرأة مجلة “المساواة” عام 1890، كما أسست مع “روزا لوكسزمبورغ” الحزب الشيوعي الألماني الذي دهمته النازية سريعا.

اعترفت منظمة الأمم المتحدة باليوم العالمي للمرأة عام 1977 فقط، وبفرنسا سجل رسميا هذا اليوم في يوميات البلاد عام 1982 عندما دخل الحكم لأول مرة الحزب الاشتراكي عام 1981 برئيسه “ميتيران”.

وفي الوطن العربي وتحديدا الكويت أقر بحق النساء في التصويت عام 2005، وأما السعودية فقد كانت آخر بلد في العالم يعترف بهذا الحق عام 2015، أما في الفاتيكان فإلى حد الآن لا تصويت للنساء وذلك لأسباب دينية بحتة.

فالنتينا تريشكوفا رائدة الفضاء السوفياتية التي كانت أول امرأة تمكنت من الطيران للفضاء عام 1963

 

“إلى دانا”.. توقيع امرأة حالمة

تبدأ المخرجة باستحضار جدتها “دانا” التي كانت تلح على أهمية العائلة أكثر من العمل، فيبدأ معها الحلم السوفييتي النسائي مع “فالنتينا تريشكوفا” التي كانت أول امرأة في الفضاء، فقد حلقت “تيريشكوفا” في 6 مارس/آذار 1963 من محطة بايكونور، أي بعد عامين من أول رجل بالفضاء الراحل “يوري غاغارين”.

أهدت جدة المخرجة “دانا” لحفيدتها صورة أمضت عليها “تريشكوفا” ما يلي: “إلى دانا في ذكرى تأسيس موسكو وطائر النورس”، فهل اختارت المخرجة بدء فيلمها بهذا التوقيع التاريخي لربط اللقاء بين جدتها ورائدة الفضاء كمحور بين الطفولة والفضاء البعيد؟

وهل تربط توقيع رائدة الفضاء بتوقيعها هي في بداية الفيلم، وهل الفيلم مبني على حلم امرأة تحلق نحو النجوم والنساء الباقيات يكتفين فقط باقتفاء الأثر، وهل الانطلاق من شخصية عالمية يعطي للفيلم طابعا سوفييتيا بحتا يذكر بأفلام الدعاية السياسية؟

فاطمة نسومر.. خروج من عباءة الخوف

تربت “دوليا” مؤمنة أن المرأة تنجز كل شيء، وكل شيء في متناولها، فلماذا في الوطن العربي نربي بناتنا على الخوف من الآخر والخوف من الذات والخوف من الخارج، وأن الرجل حتما إما مغتصب أو قاتل شرف؟

لماذا لا نربي بناتنا على حلم “تريشكوفا” وفاطمة نسومر وحلم “ماري كوري” و”روزا باركس” و”نادية كوما نتشي” وشادية رفاعي حبال ورنا الدجاني ووداد إبراهيم وحليمة بن بوزة؟

كانت “تريشكوفا” من نساء الثورة، وكلهن صاحبات قصص وملاحم وأساطير ثورية، والفيلم لا يغازل المشاهد في تضخيمه للشخصيات، بل يقص له حياتهن بمعيار وزنهن التاريخي.

تتبعثر في الساحة الحمراء لموسكو أجيال جديدة مشبعة بأساطير القدامى بعيون تنظر إلى المستقبل بأحداق براقة، و”دوليا” كالجندي بينهم في الساحة تستعرض خطوات جزء منها في الماضي وجزء آخر متقدم نحو الأفق.

صورة تجمع المخرجة الروسية “دوليا غافانسكي” مع إحدى بطلات فيلمها المذيعة الروسية”دينا غريغوريفا”

 

“نداء موسكو”.. فن الخطابة الروسي

تعيد المذيعة الروسية “دينا غريغوريفا” الإعلان الرسمي بالتلفزيون الحكومي خصيصا للفيلم بهذا التمثيل “تنبيه: نداء موسكو. الآن “دوليا” مباشرة أمام الميكرفون”، ففي ورشة للأطفال تعلم المذيعة أجيال المستقبل مواجهة عدسة التلفزيون لمخاطبة الجمهور.

إنه فن الخطابة الروسي الذي تربت عليه “دوليا” وجيلها “صوت الثورة”، فأين ذهبت مذيعات قنوات التلفزيون العربي وكيف تخلصن منهن بعد سنوات في تقديم البرامج أيام التلفزيون ذي القناة الواحدة؟

عندما كانت المذيعة الرفيقة الدائمة التي تسلم علينا صباحا وتودعنا ليلا، لماذا لا تقمن بدورات تدريب في التقديم والتعليق والتعامل مع الأحداث التاريخية المصورة الآن؟

صاحبة نوبل للأدب المعارضة “سفيتلانا أليكسييفيتش”، وهي أول امرأة كاتبة بالروسية تصل إلى هذا التتويج

 

“سفيتلانا أليكسييفيتش”.. أول نوبل آداب للحرف الروسي

يعود بنا الفيلم إلى أرشيف 8 مارس/آذار من خلال صاحبة نوبل للأدب المعارضة “سفيتلانا أليكسييفيتش”، فهي أول امرأة كاتبة بالروسية تصل إلى هذا التتويج.

تعترف الكاتبة أنها محمية بشهرتها وأن الجائزة درع يحميها من الرقابة لكن إذا كان راتب المعلم 300 يورو والكتاب يباع ب 30 يورو فهذا -حسب قولها- نوع من التعجيز يمنع وصول الكتاب إلى المواطن البسيط.

إنها شخصية صريحة لكونها صحفية التكوين التي غطت انهيار الاتحاد السوفييتي وكارثة تشرنوبيل وحرب أفغانستان، لذا فكلامها بعيار الرصاص البعيد المدى يخشاه السياسيون.

يعرض الفيلم من جهة رمز المطرقة والمنجل رائدة الفضاء برتبة جنرال، ومن جهة مضادة تقابلها معارضة برتبة نوبل، فهل في هذا التصادم نفي لهذا وذاك أم أن الموضوعية تفرض النقيضين لبلوغ قلب الفكر الروسي؟

“ناتاليا توماشيفا” التي اتهمت بالدعارة لمجرد صور عارية، لأنها فقط رومانسية تقلد فيها ممثلة أو بطلة سينمائية

 

يوم الزهور.. تكريم الطبيعة للزهور البشرية

إن يوم الزهور ليس رمزا شكليا يخدر به الرجال النساء، فالنساء يعرفن مكانتهن وكيف يراهن الرجال في ذهنيتهم، فالورد لا يخادع النساء لأنهن من يقطفنه وأياديهم تدرك كم شوكة يجب تجنبها للوصول إلى رحيقه.

تغمر باقات الورد أجمل قطار في العالم، حيث تصور “دوليا” رجالا في سن الزهور في عربات القطار يوزعون وردة على كل امرأة، فلماذا نوزع في بلادنا كل يوم النكل والكف وعدم المبالاة لنسائنا، هل الورد أغلى من وجوه العربيات، ولماذا في برلمانات الدول العربية بنود حقوق المرأة ما زالت شائكة؟

اشتهرت الناشطة “إلينا كريجينا” دون قصد أو طموح مخطط له، فقط لأنها أرادت أن تعلم النساء عبر الإنترنت كيف يتزين ويظهرن وجها مشرقا، والإنترنت وسيلة تفتح للنساء آفاقا خارج حدود بلدهن.

فكيف تتخيل نساء العالم المرأة العربية التي لا تخرج من البيت إلا إلى الطبيب والعيادة حين تلد، وإلى المقبرة عند انتهاء مهمتها كعاملة بالبيت، لماذا تحول الإنترنت في البلاد العربية إلى حجة تجر فيها المرأة إلى المعتقل لأنها عبرت عن إحساس في تغريدة عابرة؟

كسر قيد الاستعباد.. قتامة التاريخ والحاضر

“ناتاليا كالانتاروفا” مديرة أرشيف تقف أمام أهمية التاريخ والحفاظ عليه، لأنه البنية التحتية لأي مجتمع متقدم، ولأنه الذخيرة الروحية للأجيال القادمة، فأين تاريخ العرب، وهل بوسع أي عربي البحث عن مخطوطات علماء العرب في أي وقت وبسهولة، لماذا تاريخ البلدان العربية إما مسجون في زنزانات الأرشيف الغربي وإما أتلف أو مبتور من كل عناصره الحيوية؟

تفتح علب أفلام الـ35 مم لتفصح عن أسرارها أمام طاولة التركيب الفولاذية التي ما زالت تقاوم زحف الحواسيب.

كانت ثورة فبراير الروسية نسائية محضة، لأنهن تجمعن للمطالبة برغيف الخبز، فكانت السبب الأول في ثورة 1917 الشهيرة. تقول “دوليا”: لا حرية في الحب إن كانت المرأة مستعبدة.

اتهمت “ناتاليا توماشيفا” بالدعارة لمجرد صور عارية، لأنها فقط رومانسية تقلد فيها ممثلة أو بطلة سينمائية، ففضحت بين رفاق المدرسة وهي في عامها الثاني عشر، وفي البلاد العربية نقتل البنات في أي سن ونسمي هذا جريمة شرف، فبينما يبني الغرب مجتمعا متسامحا ما زال الوطن العربي يبني أجياله على فكر عقابي.

 

“إنه مثل التنفس”.. ثقافة الاحتفاظ بالتراث

لا تختلف الباليه والسينما الروسية في إيقاعهما ولا في حدة ودقة وتيرتهما، ولا يمكن لفيلم حول النساء إلا أن يتوقف عند محطة الرقص، والباليه أكاديمي وشاق، لكنه يبدو للكاميرا وللعين سهلا ممتنعا.

تقول المعلمة “ماريا غريبانوفا”: “إنه مثل التنفس”، فماذا بقي من رقص العرب التاريخي القديم، ولماذا انحصر مفهوم الرقص عندنا بفكرة الدعارة والكباريه، هل السينما المصرية روجت للرقص الشرقي بشكل مخل بالأخلاق وجعلت منه مقاما ننفر منه، أم أن الدين هو القلعة المانعة لإدراج الرقص في ثقافة التعبير الجسدي الطبيعي؟

لماذا أفلام الغرب تقدم دوما المرأة الروسية كجاسوسة أو عاهرة أو شريرة، مثلما تقدم نفس الأفلام المرأة العربية رهينة المخيم والغبار والأسلاك الشائكة، وأن العدو هو حتما الرجل العربي خاصة إن كان مسلما؟

تفتح لنا “دوليا” سجل المدن السوفييتية المسلمة فتعود بنا إلى الماضي مع “ماريا توختاخوجاي”، وهي ناشطة لحقوق الإنسان بأوزبكستان المستقلة حاليا، فتذكرنا بشريط دعائي تظهر فيه نساء من قريتها ينتزعن الثياب التقليدية كرمز للتحرر ويحرقنه في نار جماعية.

هل نحتاج فعلا إلى التخلص حتى من الفلكلور للتقدم علميا، أم أن هذه الحركات دعائية متسرعة مفادها إقناع الغرب بأن الشرق ينهج نفس السلوك، لماذا الغرب دوما هو معيار التقدم ولا تقاس مراتب الازدهار بمعايير ثقافتنا؟

هروب من الاتحاد السوفييتي.. احتفاء في الغرب

تروي الناشطة النسوية المهجرة ” نتاليا مالاخوفسكايا” قصة هروبها من الاتحاد السوفييتي كأنها بطلة فيلم جاسوسي، وتؤكد أن الهدف ليس التقدم وحيدة بمشروع، بل المضي مع الآخرين نحو مشروع نافع للجميع.

لا يطعن الفيلم في النظام السابق لكن يلمح من بعيد إلى ضغط السياسة السوفييتية على المجتمع، فطبعا هروب أي سوفييتي حتى وإن كان خبازا في قرية منعدمة في خريطة المدينة، فإنه يتحول فجأة إلى نجم تتداول أهم صحف الغرب صوره واسمه وحياته في أول صفحاتها.

لماذا ما زال الغرب يتعامل بهذا الشكل مع كل أخطبوط ينكل بالإسلام أو بالعروبة ويجعله بطلا تلفزيونيا يُنظر إليه في كل بلاط كأنه مكتشف للذرة، هل سياسة الغرب تحولت إلى قالب تنحني أمامه كل أعمدة فقراتنا كي يبدو مستويا عندهم؟

المذيعة الروسية الرسمية “دينا غريغوريفا” تقدم نشرة أخبار على التلفزيون الحكومي

 

“الصوت ينطلق من الأرض”.. رحلة إلى زمن الإعلام التقليدي

يتأرجح الفيلم مرة أخرى بين استعراض للدبابات بالساحة الحمراء وبين الحنين إلى الماضي لدى المذيعة الرسمية “دينا غريغوريفا” التي لم تخرج من شخصيتها السوفييتية كأن الزمن توقف أمام آلة تسجيلها.

تقف المخرجة “دوليا” أمامها تستوعب نصائحها في النطق والأداء عندما تقول لها: ابحثي عن جذورك في عمق الأرض عندما تقفين بقدميك مغروسة في باطنها، حينها يأتي صوتك بقوة، لأن الصوت ينطلق من الأرض ويعبر الجسد حتى الفضاء الخارجي.

هل تحتاج المرأة إلى نبرة رجولية كي تشق خطواتها بين الرجال، متى تجد المرأة العربية صوتها، ومتى يصوت لها سياسيا وتصبح صاحبة قرار لا مجرد باقة زهور بمنبر سياسي فلكوري؟

يحتفل الروس بعيد ميلاد مدينة موسكو ولا نعرف نحن متى نشأت مدننا، فمن منا يعرف أن أول مدينة منيرة ليلا كانت قرطبة، ومن يعرف أن الهندسة الأندلسية تفضل الحديقة بالداخل وليس خارج البيت؟

يذكر اسم موسكو لأول مرة عام 1147 ولم تكن إلا بضع هكتارات رمزية لمعسكر به جسر يربط ضفتي نهر موسكفا”.

السياسي السوفييتي جوزيف ستالين الذي قام بحملات تطهيرية قتل خلالها أكثر من 30 ألف عسكري

 

حملات ستالين التطهيرية.. جلاد يشك في ظله

يأتي بعد باقات الورود وقت الشوك ومعتقلات كل من ليس مرغوبا به من أعداء الثورة البلشفية، حيث تتذكر المؤرخة “إرينا بيتروفسكايا” توقيف أبيها وأمها، غير أن الأطفال لم يوقفوا لأن السياسة وقتها كانت تؤمن بإعادة تربية أبناء الخونة.

تظهر وجوه شاحبة على صور قاتمة علق في أعين أصحابها الاستفهام والندم والحيرة وكل أفعال اليأس ومرادفات الهلع.

لم تسجن فقط الوجوه العابرة المشكوك فيها بل لم تنج أم نجمة الباليه الشهيرة “مايا بليسيتسكايا” التي كانت ممثلة في زمن السينما الصامتة، فقد اعتقل أب الراقصة “ميخائيل” عام 1938 قبل زوجته رغم مقامه الدبلوماسي وأعدم، أما أمها “راشل” فرحلت إلى سجون الثلث الخالي المتجمد ولم تعد منه إلا عام 1941.

يتوقف الفيلم أمام حملات “ستالين” التطهيرية 1938-1936 التي لم ينج منها أحد حتى صار الجلاد يشك في ظله، فقتل في هذه الحملة أكثر من 30 ألف إطار عسكري برتب عسكرية عالية منها ثلاث ماريشالات، وتصل بعض الأرقام إلى مليون و750 ألف شخص.

ما هي حقيقة هذا الملف، وإلى أي حد هو مضخم أو مصغر، وكم هي الأفلام العربية التي تتوقف أمام مجازر الجلادين العرب وتحصي الأرواح التي أزهقت في صمت الرعب؟

هل يتوقف الفيلم عند حقبة مظلمة في تاريخ الاتحاد السوفييتي تريد المخرجة استرضاء الغرب بها ومنحها وساما يؤكد أن كل ما قيل عن هذا البلد كان ضروريا، أم أن المخرجة تنتزع حق النقد الذاتي دون الخجل من مراجعة الماضي الأليم ودون الخوف من طلاق أهلها منها لقولها الحق؟

المخرجة الروسية “دوليا غافانسكي” خلال مشاركة فيلمها “يوم النساء” في مهرجان موسكو للأفلام عام 2019

 

نجمات أمام الكاميرا.. تجنيد النساء للزراعة

قام الاتحاد السوفييتي بتجنيد النساء في سن مبكرة للعمل في حقول الزراعة ومنافسة الرجال في استخراج القمح، وكانت السينما الرسمية تنجز أفلاما جيدة تقنيا تظهر فيها النساء كنجمات عمل، وقد كان العمل شاقا لكن في إطار العدسة لم تكن هناك معاناة ولا عرق ولا جوع، وإنما جهد ثوري وفخر بتنفيذه.

فهل كانت شخصيات أفلام الدعاية رهينات الكاميرا؟ كانت أشرطة الدعاية تختار من العاملات أجملهن وأكثرهن استقطابا للمشاهد وأحسنهن للتصدير الخارجي.

تختار المخرجة مقطعا تظهر فيه “باشا أنجيلينا” كقدوة تقود الشاحنة وتتحكم في المزرعة أحسن من الرجل، ولا يكتفي الأرشيف بتصوير المزارعة في عملها، بل يأتي إليها فوق دراجة نارية كحصان ميكانيكي يذكر بأفلام أمريكا.

تحولت هذه المرأة إلى أيقونة في تمثال ما زال يملأ فضاء مدينة موسكو خلدته النحاتة “فيرا موخينا”، أما في الوطن العربي فالنساء هن بطلات الفرن والغسيل، ولا يوجد لوجوههن أي تمثال أو مثال يذكر بجهودهن المستمرة منذ أن أعطاهن الإسلام حقهن.

المتخصصة في برامج الذكاء الاصطناعي “أولغا يوسكوفا” تتحدث عن تداخل البنية الذكورية والأنثوية في نوعية الذكاء الإنساني

 

تداخل بنية الجنسين.. نظرة على المجتمع النسوي

تتحدث المتخصصة في برامج الذكاء الاصطناعي “أولغا يوسكوفا” عن تداخل البنية الذكورية والأنثوية في نوعية الذكاء الإنساني فتقول: إن “ستيف جوبز” لديه 70% من الذكاء الأنثوي.

متى نتخلص في الوطن العربي من ثقافة الشنب والسوط والعصا؟ المرأة ذكاء وحساسية متناهية بها يوثق الذكر رجولته وقوته وذكاءه، وليس بمحو بصماتها وحل جيناتها.

يحاول الفيلم الإلمام بكل شرائح المجتمع النسوي الروسي، واقتفاء كل عينة دون تناسي أي طبقة أو هوية أو اختصاص، فهل تراكم الوجوه في الفيلم الوثائقي يثقل السرد ويرغم المشاهد على استعمال كل ذاكرته حتى لا تفلت من القصة أي شخصية؟

وهل يحتاج مخرج الفيلم الوثائقي أن يرغم المشاهد على بذل جهد في ربط الأحداث فيما بينها، وأن يكون ملما بتاريخ وجغرافيا الموضوع الذي يتابعه، وهل الفخر بشخصيات معينة يخدم قضية المرأة أم يعتبر خطرا سرديا قد ينفر منه المشاهد لانحياز السارد لقضيته؟

لماذا لا تفتخر السينما العربية بنساء العرب وتظهر للعالم وجوه المبتكرات والباحثات ورائدات الفضاء، ولماذا أفلام التوثيق عندنا لا تتعدى الفرن والطبخ والمخيم؟ بل ومعظمها يتجه نحو الاستقصاء والتنديد، كأن المخرج ينافس الشرطي ونشطاء الجمعيات الخيرية، هل سينما التوثيق تخدم المادة التي تتعامل معها، أم أن المشاهد ليس بحاجة لاجترار ما يبتلعه يوميا من القنوات الإخبارية؟

جوائز المعارضين.. معيار النزاهة الغربي

يعود بنا الفيلم إلى صاحبة نوبل “سفيتلانا أليكسييفيتش” التي تعترف أن تتويجها ليس شخصيا وإنما هو حصيلة تراكمية للإرث السوفييتي والروسي، لكن لماذا جوائز الغرب لا تمنح إلا للمعارضين أو للذين لهم عين في الشرق وأخرى في الغرب؟

لماذا لا يتهافت على جوائزنا كتاب وعلماء الغرب، ما الذي يعطي للجائزة قيمة تاريخية، هل قيمتها النقدية أولى أم الإشهار الذي يخصص لها هو السر الأول، أم أن المصداقية العلمية التي تحيط بها الجائزة هي المعيار النزيه؟

الجندية المتقاعدة التي شاركت في الحرب العالمية الثانية “ماريا روخلينا”

 

أوسمة الحرب العالمية.. اعتزاز بإرث ثقافي وحربي

لا يمكن للفيلم أن يتناسى بطلات الحرب العالمية الثانية فيخصص بابا كاملا لهذا التاريخ المؤلم، إنه إرث ثقافي وعلمي وحربي تعتز به الجندية المتقاعدة التي شاركت في الحرب العالمية الثانية “ماريا روخلينا”.

ترتدي هذه المسنة بدلة رشيقة على جانبيها أوسمة بوزن القنابل كأنها درع فولاذي محصن، وكل ميدالية بخصلة قتالية أهمها وسام “ستالينغراد”، ويتزين بيتها باللون الأحمر مثل هندامها الثوري، لأنها تؤمن أن الحمرة هي لون السعادة.

ومن المحاصرين في مدينة “تسالين غراد” الجندية “نتاليا فاسيلييفينا” التي تذكر بدء الحصار يوم 8 سبتمبر/أيلول، وكيف كان الناس يموتون جوعا وبردا، فماذا عن بطلات حروبنا في السينما العربية، لماذا نكتفي باستعراض جميلة بوحيرد الجزائرية كوسام حي ولا نذكر الجنديات اللاتي لم يسطع لهن أي نجم لا في جرائد الاستعمار ولا في جرائدنا الحالية؟

عنما تركب المخرجة لقطات في حفل لعارضات أزياء لموضة 1956 كان رصيد وفيات حروب السوفييت يفوق العشرين مليونا، ولا نعرف نحن كم شهيدة في الوطن العربي أعطت الدم والقلب في سبيل حرية الأرض العربية.

طائر النورس المحلق.. توثيق لسينما نضالية

فتحت لنا “دوليا غافانسكي” ملفا بهذا الفيلم عن عالم لا نعرف عنه إلا بعض الملامح التي نختطفها في نشرة أخبار أو مجلة قديمة أو كليشيهات في أفلام غربية ساذجة.

يفتح الفيلم شهية فضولية لمعرفة نساء هذه المناطق الباردة مناخيا والدافئة حبا، ويستحق أن يعرض بالوطن العربي لتواضع شخصياته ولقوة آراء النساء فيه، إنها سينما نضالية دون المطرقة والمنجل، بل سينما تطرق في عقولنا وتيرة الحرية ونغمتها، كما تحصد فيها الأفكار الضارة التي تغطي الأقحوان والبنفسج والياسمين المشرق في أجساد النساء وقلوبهن.

تختفي الزهور في آخر لقطة بالفيلم من قطار موسكو، لكن لن يختفي معها طائر النورس الذي يحلق إلى الأبد مع النجمة “فالنتينا تيريشكوفا”.