الاغتيال المعنوي.. وسيلة الأنظمة لتشويه معارضيها

تعددت وسائل الاغتيال المعنوي من أجل تدمير سمعة شخصية ما وجعلها فاقدة للمصداقية والاحترام أمام جمهورها أو أمام الرأي العام، وذلك من خلال تكوين صورة ذهنية سلبية ممنهجة ومدروسة بعناية تؤدي في النهاية إلى تهميش هذه الشخصية أو محاولة إقصائها مجتمعياً ومهنيا وتحجيمها لتفقد كل تأثير لها في المجتمع، ولتُسدّ أمامها كل منافذ التواصل الإعلامي والفني والسياسي وحتى الإنساني.

وكثيرة هي طرق ووسائل الاغتيال الجسدي على سبيل المثال، سواء بطرق التنفيذ المباشرة كالقتل بالسلاح، أو غير المباشرة كالانتحار أو حوادث السير أو التسميم طويل الأمد الذي يبدو كموت طبيعي، لكنها في حقيقتها اغتيالات، وطرقها لا تنتهي.

أما الاغتيال المعنوي فله طرقه ووسائله المختلفة، لكن أشدها تلك التي تَمسُّ العرض والشرف والأخلاق وما يتعلق بتهم الخيانة والعمالة، فهي أكبر تأثيرا في الوعي الجمعي للمجتمعات العالمية بشكل عام، وعلى المجتمعات الشرقية بشكل خاص.

عمرو واكد.. عارض السيسي فاتهم بالخيانة

ومن أمثلة الاغتيال المعنوي الكثيرة في وقتنا الحاضر، نذكر قصة الفنان “عمرو واكد” الذي تعرض لحملة تشويه ممنهجة من أجل خلق صورة ذهنية تتركز في الوعي واللاوعي لدى الجماهير بأنه عميل خائن لوطنه، يريد زعزعة الاستقرار وإشعال الحروب الأهلية والدمار.

وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا على آليات معارضة عمرو واكد للنظام القائم الآن، فإنه من غير المعقول ولا المقبول أن نوافق على هكذا حملة ضارية تسعى لتشويهه لمجرد أنه عارض الساسة وقال “لا”. وحتى حين حاول عمرو واكد تهدئة الأجواء بأن يكون في دائرة الممكن والمتاح، فإنهم لم يسمحوا له بذلك، وفوجئ بتحرير محاضر وقضايا ضده اضطرته إلى ترك مصر والسفر للعيش في إسبانيا لممارسة عمله الفني هناك، لتبدأ حملة جديدة لتشويهه وتقديمه على أنه يتعاون مع ممثلين وممثلات إسرائيليين، وأنه بذلك خائن للوطن.

الفنان “عمرو واكد”خلال مشاركته في إحدى المهرجانات العالمية

وبالطبع، فقد تلقى البسطاء هذه “المانشتات” دونما تمحيص أو تدقيق، فتركت لديهم للأسف صدى سلبيا، وقد قامت الدنيا ولم تقعد حين أعلن انضمامه للتمثيل إلى جانب الممثلة الإسرائيلية “غال غادوت” في الفيلم الأمريكي” المرأة الخارقة” من إخراج “باتي جينكنيز”.

لكن رويدا، أليسَ عمرو الآن موجودا في الخارج كجزء من مجتمع فني عالمي يضم فنانين من جنسيات متنوعة، ومن غير المنطق لأحد البحث عن أصولهم والنظر في جوازات سفرهم كأساس للتعامل معهم من عدمه، فلماذا هذه المزايدات التي لا معنى لها؟

عمر الشريف.. رسول السادات إلى بيغن

وذلك يذكرني بالحملة الشعواء التي تعرض لها الفنان المصري “عمر الشريف” عندما مثّل أمام الممثلة اليهودية “باربرا سترايسند” في فيلم “فتاة مرحة”، وأذكر وقتها كيف تصدرت صورة عمر وباربرا غلاف مجلة “الكواكب” وكتب أسفلها بالبنط العريض “انزعوا الجنسية المصرية عن ذاك الرقيع”.

وبالطبع كان هذا جزءا من حملة تشويه مُمنهجة ضد انطلاقة عمر الشريف نحو العالمية بتمثيله في فيلم “دكتور زيفاجو” قصة “بوريس باسترناك” وإخراج “ديفد لين”، وهو الفيلم الذي قدم نقدا شديدا للنظام الاشتراكي فأعطى ضوءا أخضر للنظام المصري لاغتيال عمر الشريف معنويا؛ إذ إن مصر في الستينيات كانت جزءا من المعسكر الاشتراكي.

صورة تجمع عمر الشريف مع الرئيس أنور السادات

وبحلول عقد الثمانينيات واستلام الرئيس السادات الحكم تغير كل ذلك، ليعود عمر الشريف إلى مصر ويُستقبل استقبال الأبطال، الأمر الذي كان محل دهشة الكثيرين، إذ كيف رضى النظام عنه؟

جاءت الإجابة من عمر الشريف نفسه في إحدى حواراته التلفزيونية حيث قال: جاءني اتصال من الرئيس السادات وأنا في باريس وطلب مني الذهاب إلى السفارة الإسرائيلية والاتصال بمناحيم بيغن رئيس وزراء إسرائيل آنذاك لأسأله: هل تقبل بزيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل؟

فأجابني مناحيم بيغين: سنستقبله كالمسيح.

وكانت هذه الخطوة من جانب عمر الشريف -إلى جانب تغير توجة الدولة من المعسكر الاشتراكي إلى الرأسمالي- بالغة الأثر في توقيف حملات التشوية والتشهير ضده.

قصة الفندق المريب.. اتهامات بالشذوذ

تعددت أساليب حملات التشهير الأخلاقية وتنوعت، لكنّ أكثرها قسوة تهمة الشذوذ الجنسي خصوصاً في المجتمعات الشرقية التي ترفضه جملة وتفصيلا، وسنتعرض هنا لخبر مكذوب أراد أن ينال من مجموعة فنانين لهم قيمتهم وسمعتهم في المجتمع.

فقد نشرت جريدة تدعى “البلاغ” ذات يوم في صفحتها الأولى خبر القبض في أحد الفنادق الشهيرة على شبكة تمارس الشذوذ مع غير المصريين مقابل أجر مالي، وأعلنت الصحيفة تورط الفنانين “نور الشريف” و”خالد أبو النجا” و”حمدي الوزير”، فقامت الدنيا ولم تقعد، لا سيما بعد أن رفض الوسط الفني هذا الخبر واعتبره خبراً كاذبا ومغرضا، لكنه لقي قبولا لدى بعض الحسّاد والحاقدين والمتطرفين الذين وجدوه فرصة سانحة لتوجيه الطعنات والاتهامات لقلب الجسد الفني المصري.

الممثل المصري نور الشريف

أُغلقت الجريدة، وحُكم بتغريم كل من عبده مغربي رئيس تحرير الجريدة والصحفي إيهاب العجمي بغرامة قدرها سبعة آلاف دولار لكل منهما لموافقتهما على نشر هذا الخبر الكاذب دونما أية أدلة كصورة لمحضر أو أية أوراق تثبت هذه الواقعة، هذا ناهيك عن دعوى تعويض نهائية أقامها نور الشريف ومحاميه مرتضى منصور، فقد كان لهذا التشويه ضرر بالغ على الفنانين المذكورة أسماؤهم.

ولكن لماذا اختار النظام هؤلاء الفنانين وعلى رأسهم نور الشريف تحديدا ليضحّي بهم قربانا على مذبح التشهير والتشويه؟

كلمة السر كانت “السياسة”؛ فحمدي الوزير كان أخرج بعض الأعمال ذات الثقافة الجماهيرية بصبغة يسارية تقدمية، وخالد أبو النجا كان صاحب نشاط ملحوظ في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن الأقليات فضلا عن مطالبته المستمرة بالديمقراطية وإطلاق الحريات، أما نور الشريف فإن الوقوف أمام تاريخه يدل على أنه تاريخ مليء بالصدامات العنيفة؛ أولها جُرأته في تقديم فيلم يتحدث عن قصة “ناجي العلي” رسام الكاريكاتير الفلسطيني المعروف بهجائه للأنظمة العربية، فقد قامت الدنيا ولم تقعد في مصر وقت أُنجز ذلك الفيلم، وشنّت الصحافة المصرية وعلى رأسها أخبار اليوم برئاسة إبراهيم سعدة رئيس مجلس الإدارة حملة كبيرة ومنظمة ضد نور الشريف، واتُّهم كالعادة بالعمالة والخيانة.

وقد شهدتُ بأم عيني حملة حصار غير معلن من المنتجين والموزعين ضد نور الشريف، لكنه استطاع أن يتجاوز هذه الأزمة بعد معاناة شديدة، حيث فرض نفسه بقوة على الساحة الفنية كلاعب أساسي لا يُستغنى عنه أو يضحى به.

ومن الأمثلة أيضا مسرحية “بكالوريوس في حكم الشعوب” تأليف “علي سالم”، وتسخر المسرحية من حكم الضباط الأحرار، وقد قدمها نور الشريف على المسرح الخاص. ومنعت المسرحية بعد شهر من عرضها.

وكذلك جُرأته الفنية وطموحه أن يُقَدِم مسرحية “علماء الطبيعة” التي تدافع عن مبادئ داروين، لكن النص رُفض حتى قبل بدء البروفات.

وأخيراً عمله في مسلسل “بين شوطين” الذي ينتقد فيه الأنظمة العربية حيال تبذيرهم لمقدرات بلادهم، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ ضاق النظام ذرعا بنور الشريف وقرر أن يؤدبه علّه يرتدع هو وغيره، فكشر عن أنيابه ضده وضد كل من يحاول أو حتى يفكر بالمطالبة بالحرية من خلال الفن أو يحاول الترويج لها كي لا تُمارس كفعل مجتمعي مُلحّ، فكانت تهمة الفندق إياها.

سمير صبري.. فيلم أغضب السعودية

يذكّرنا هذا الأسلوب الانتقامي الشرس بما حدث لـ”سمير صبري” في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، فقد سرت إشاعة “حقيرة” مفادها أنه ألقي القبض عليه في شقة دعارة، وتزامنت هذه الإشاعة الدنيئة مع وجود سمير صبري في لندن، وتطورت المشكلة فقام مسؤول في التلفزيون بوقف برنامج سمير صبري الشهير “النادي الدولي”.

ويصدف أن يلتقي الصحفي “مصطفى أمين” بسمير صبري في لندن فيخبره كيف أن الدنيا مقلوبة عليه في مصر وأن عليه الرجوع ليواجه تلك المصائب، وبالفعل رجع سمير صبري إلى مصر.

الممثل المصري سمير صبري في مقابلة تلفزيونية

صدر بعد ذلك قرار من رئيس الجمهورية باستئناف برنامج “النادي الدولي” ومعاقبة المسؤول الذي أوقف البرنامج، لكن الأخير قرر أن يبتعد عن الأضواء لفترة يعيد فيها ترتيب أوراقه من جديد كي يعود أقوى مما كان.

ويبقى السؤال: ما الذي اقترفه سمير صبري ليُقَدَّم على مذبح التشوية والتشهير؟ لنكتشف بأن سمير صبري كان اشترك في الفيلم المشؤوم “موت أميرة”، وكانت السعودية منعت الفيلم وأعدت قائمة سوداء بكل المشتركين فيه، ومن ثم منعوا من المشاركة فى كل الأعمال الفنية؛ تلفزيون ومسرح وسينما. ولا أزال أذكر كيف مُنعت الفنانة سوسن بدر من استكمال مسرحية “سُكّ على بناتك” لفؤاد المهندس أثناء البروفات، وتم استبدالها بإجلال زكي.

جرائم الخيانة.. تلفيق وإقصاء

بشكل عام، يتم تلفيق جرائم الخيانة والعمالة من أجل التخلص من المنافسين أو المعارضين أو المتحدثين بالسياسة ممن يحتك بالجماهير، فذلك شائع جداً عند السلطات. وما قصة الصحفي الكبير “مصطفى أمين” الذي اتُّهم بالجاسوسية لصالح الولايات المتحدة الأمريكية إلا دليل على ذلك.

فقد كانت التهمة بالخيانة جاهزة لتلفيقها لمن يخرج عن الخط، فمصطفى أمين كان على علاقة وطيدة بالسفير الأمريكي بمصر، وكان ذا صلاحيات كبيرة منحها له الرئيس جمال عبد الناصر من أجل التواصل مع الغرب وتحديداً أمريكا، فأصبح همزة الوصل السرّية التي تنقل وجهات النظر الأمريكية والمصرية على حد سواء.

وبغض النظر عن تفاصيل الشخص أو الجهة التي لفقت لمصطفى أمين ذلك الاتهام الخطير؛ فقد تمت تبرئته بعد ذلك وأُفرج عنه بأمر من الرئيس محمد أنور السادات.

صورة تجمع جمال عبد الناصر بالصحفي مصطفى أمين

وتعددت علامات الاستفهام آنذاك.. أهي مؤامرة بتدبير من “محمد حسنين هيكل” تلميذ مصطفى أمين النجيب كي يزيح أستاذه ومنافسه من المشهد العام وليتسبدّ هو بالصحافة المصرية دونما منافس، أم أنها رغبة “جمال عبد الناصر” في إزاحة مصطفى أمين لعدم ارتياحه لتوجهه الرأسمالي؟

تتعدد الأسئلة التي تبحث عن إجابة، لكن الذي نستطيع الجزم به أن مصطفى أمين اعتُقل بأمر من “صلاح نصر” رئيس جهاز المخابرات المصرية في عهد عبد الناصر، وتحت التعذيب الشديد اضطر إلى كتابة اعترافات غير حقيقية في ستين صفحة من أوراق الفلوسكاب، وبعدها تعرض لحملة تشهير وتشويه حتى أمسى جاسوسا في نظر القاصي والداني. ولم تسقط عنه التهمة إلا في عهد الرئيس محمد أنور السادات الذي أفرج عنه وأعاده إلى مؤسسة “أخبار اليوم” معززا مكرما وداحضا لجميع الأكاذيب وحملات التشوية والتشكيك التي نالت في وقت سابق من رمز مهم من رموز الصحافة المصرية.

على أية حال.. فإن هذه الأساليب القذرة لن تتوقف أبدا عند السّاسة بل ستزداد تَوحشا واحترافية في تدمير سمعة الأبرياء من أجل ترويع الآخرين ومنعهم من المطالبة بالحرية كمطلب إنساني يعطي الوجود مشروعيته ويراهن على مستقبل كان منفيا حتى من هامش الحياة، إلى أن يبلغ بؤرة الحياة.


إعلان