“قصب السكر”.. صرخة السكان الأصليين من أجل العدالة تصل إلى الأوسكار

هل يصح أن نتحدث عن تاريخ انتهاكات المستعمر الأبيض والكنيسة الكاثوليكية للسكان الأصليين في كندا؟

تبدو الإجابة بسيطة: نعم يصح بكل تأكيد.

لكن الحقيقة أن هذه الانتهاكات ليست تاريخا، وهذا هو الخطأ الوحيد في السؤال.

يعرض هذا الفيلم الوثائقي كيفية انتقال الصدمات عبر الأجيال، وأثرها على الجيل الحالي، من خلال محادثات مع الناجين منها.

لاحِظ أن هؤلاء الناجين لا يزالون أحياء، وهذه القصص ليست بذلك القدم، ليست تاريخا إلى هذه الدرجة، إنها حاضر أبطال هذا الفيلم.

 

 

عُرض وثائقي “قصب السكر” (Sugarcane) عام 2024، ويستحضر مخرجاه “جوليان بريف نويزكات” و”إميلي كاسي” رحلة مؤلمة في واحد من أكثر الفصول إظلاما في التاريخ الكندي؛ ألا وهو نظام المدارس الداخلية للسكان الأصليين.

تأهل هذا العمل السينمائي الاستثنائي إلى القائمة القصيرة للأفلام المشاركة في جوائز الأوسكار، ويبدو مرشحا بقوة للفوز بالجائزة في قسم الوثائقيات، فهو يقدم شهادة صادمة وجميلة في آن واحد، عن الإبادة الثقافية التي مورست بحق المجتمعات الأصلية.

 

التحقيق والعائلة والمصالحة.. محاور السرد

يتجاوز الفيلم مجرد التوثيق التاريخي، ليصبح الفيلم فعل مقاومة، فيكشف عن جروح لم تندمل في ذاكرة أبطال الفيلم من السكان الأصليين، وذلك من خلال 3 محاور سردية رئيسية متشابكة، كل منها يكشف جوانب مختلفة من القصة.

أما المحور السردي الأول، فيدور حول التحقيق في مدرسة القديس جوزيف، ويركّز على عمل المحققتين “شارلين بيلاو” و”ويتني سبيرينغ”، من خلال الوثائق الأرشيفية، والتحقيقات الميدانية، وشهادات الناجين لكشف حقيقة الانتهاكات والوفيات التي وقعت في المدرسة.

الملصق الدعائي لفيلم “قصب السكر”

ويتضمّن ذلك استخدام رادار اختراق أرضي لتحديد مواقع القبور غير المعلّمة، وجهود إعادة بناء التسلسل الزمني للأحداث عبر الصور والوثائق الأخرى.

ويظهر هذا الجزء كيفية جمع الأدلة، لتسليط الضوء على الطابع الممنهج للجرائم.

وأما المحور الثاني فهو رحلة “جوليان بريف نويزكات” الشخصية، ويتتبع هذا الخط ارتباطه بالقصة، ويسلط الضوء على علاقته بوالده “إد آرتشي نويزكات”.

يظهر الفيلم كيف وُلد والد “جوليان” في المدرسة وعانى من صدماتها، كما يعكس تأثير اكتشاف “جوليان” لتاريخ عائلته على علاقته بوالده.

البحث عن تاريخ الهنود الحمر في كندا

أما الخط السردي الثالث فهو سعي الناجين نحو الشفاء والمصالحة، ويتمحور حول تجارب الناجين من مدرسة القديس جوزيف، ويبرز الفيلم رحلة “ريك غيلبرت” زعيم محمية “قصب السكر”، وهو يسعى لاستصدار اعتذار رسمي من الكنيسة الكاثوليكية.

يعكس هذا السرد قوة المجتمع الأصلي وصموده في مواجهة الظلم العميق، ويعرض جهودهم للتعامل مع الصدمات العابرة للأجيال، في محاولاتهم للبحث عن طريق نحو الشفاء وتحقيق العدالة.

هذه المحاور السردية الثلاثة عناصر أساسية في الرسالة العامة للفيلم، فهي تكشف الطابع النظامي للانتهاكات، وتأثيرها العميق والمستمر على الأفراد والمجتمعات، وأهمية الحقيقة والمصالحة في مواجهة المآسي.

مدارس القضاء على “المشكلة الهندية”

كانت المدارس الداخلية للسكان الأصليين قد أُنشئت بهدف صريح، يتمثل في دمج أطفال السكان الأصليين قسرا في الثقافة السائدة، وكانت هذه المدارس في كندا تمولها الحكومة أساسا، وتديرها كنائس مسيحية، بهدف القضاء على “المشكلة الهندية”. وقد استمرت هذه المدارس في العمل أكثر من قرن، وأُغلقت آخر مدرسة منها عام 1997.

السكان الأصليون في كندا يبادون باسم الكنيسة الكاثوليكية

وكانت مدرسة القديس جوزيف -المعروفة بمدرسة كاريبو الداخلية- واحدة من 139 مدرسة مشابهة في كندا، تديرها الكنيسة الكاثوليكية بتمويل من الحكومة، وتقع بالقرب من محمية “قصب السكر” التابعة لقبيلة “ويليامز ليك”، في مقاطعة كولومبيا البريطانية.

اختار المخرجان “جوليان” و”إيميلي” هذه المدرسة لأن والد “جوليان” وُلد فيها، كما أن جدته اغتُصبت فيها. أما “إيميلي” فهي صحفية تحقيقات، تواصلت مع “جوليان” لإنتاج الفيلم، بعد الاعلان عن اكتشاف مقابر مجهولة، في مدرسة داخلية أخرى للسكان الأصليين في “كاملوبس” بمقاطعة كولومبيا البريطانية.

“إد آرتشي نويزكات”.. الطفل الوحيد الذي نجا من المحرقة

ولد “إد آرتشي نويزكات” في مدرسة القديس جوزيف عام 1959، وكانت أمه على الأرجح ضحية اعتداء جنسي من قس، وقد عُثر عليه في صندوق بجانب محرقة قمامة المدرسة، ويوصف بأنه الناجي الوحيد المعروف من محرقة إحدى المدارس الداخلية.

لم تعرف قصة “إد” وتفاصيل أصله، إلا أثناء تصوير هذا الفيلم، فهو يتجنب العودة بذكرياته إلى المدرسة، ويجد صعوبة في التحدث عن ماضيه.

“إد آرتشي نويزكات” أحد تلاميذ مدرسة القديس جوزيف عام 1959

ومن خلال التحقيق الموثق في الفيلم، يكتشف “إد” المزيد عن خلفيته، بما في ذلك تفاصيل لا تصدّق، فقد وثّق الفيلم رحلته لمواجهة حقيقة أنه لم يكن يفترض أن يبقى حيا، بل كان يفترض أن يلقى في محرقة القمامة كعشرات الأطفال مثله، لكن لسبب ما تُرك بجوارها.

القصة ببساطة، هي أن الدولة تجبر عائلات السكان الأصليين على تسليم أطفالهم إلى هذه المدارس التي تديرها الكنيسة، فيعتدي عليهم قساوستها إلى مستوى يؤدي ببعضهم إلى الوفاة، وحينها يحرقونهم ويدفنونهم.

وفي أحيان أخرى تكون الاعتداءات جنسية، مما يؤدي إلى حمل الفتيات، فإن حبلت إحداهن أُحرق طفلها ودُفن. نعلم ذلك الآن بسبب ذلك الاكتشاف الذي دفع الصحفية “إيميلي” إلى محاولة تكراره في الفيلم.

مقابر المدارس.. هل يمكن دفن التاريخ؟

في عام 2021، كُشف عن أكثر من 200 موقع، يفترض أنها قبور غير معلّمة بين أطلال مدرسة داخلية في كاملوبس بمقاطعة كولومبيا البريطانية، فأعاد ذلك لفت الانتباه إلى الفظائع التي ارتكبها نظام المدارس الداخلية الكندي، وقد أثار الاكتشاف موجة من الغضب والاحتجاجات في أنحاء كندا كافة.

بعد اكتشاف كاملوبس، بدأ المحققون يستخدمون تقنية رادار قادرة على تخلل سطح الأرض للبحث، ويتواصل التحقيق في مدرسة القديس جوزيف على مدار الفيلم، بمشاركة فريق يقوده “شارلين بيلاو” و”ويتني سبيرينغ”.

الكشف عن أكثر من 200 موقع يفترض أنها قبور غير معلّمة في مدرسة داخلية في كاملوبس

يُظهر الفيلم الفريق وهو يستخدم الرادار ويرسم الخرائط، لتحديد مواقع القبور غير المعلّمة، حتى كشف التحقيق عددا يقدر بـ159 قبرا غير معلم. وقد ترك اكتشاف القبور غير المعلّمة أثرا عميقا على المجتمعات الأصلية.

وبطبيعة الحال، فقد تأثرت بشدة محمية قصب السكر، بعد كشف الفظائع التي حدثت في مدرسة القديس جوزيف. ويوثق الفيلم الألم والغضب الذي يشعر به المجتمع، وعزمه على كشف الحقيقة.

رحلة نحو عدالة الفاتيكان

يقدم الفيلم شخصية “ريك غيلبرت”، وهو رئيس سابق لقبيلة “ويليامز ليك”، وأحد الناجين من مدرسة “سانت جوزيف”، ومع ما ناله من انتهاكات على يد الكنيسة، فقد ظل كاثوليكيا مخلصا.

يعلم “ريك” أثناء تصوير الفيلم أن أباه قس اعتدى على والدته، وأن تحليل حمضه النووي يظهر أنه ينتمى إلى أيرلندا بنسبة 50%، لكنه يرفض أن يصدق هذه المعلومة بداية أمره، ثم لا تزال الأدلة تزداد وتتراكم حتى يضطر إلى تقبلها.

“ريك غيلبرت” يقود وفدا من قادة السكان الأصليين لزيارة للفاتيكان

انضم “غيلبرت” إلى وفد من قادة السكان الأصليين في زيارة إلى الفاتيكان، للقاء البابا “فرانسيس”، طلبا لاعتذار رسمي من الكنيسة عن دورها في المدارس الداخلية.

تجهز “ريك” للرحلة مع أن دوافعها مؤلمة، فقد عاش في صباه تجربة مروعة بمدرسة القديس جوزيف، فأوذي واعتُدي عليه جنسيا، وترك ذلك آثارا عميقة على جسده ونفسيته، وأثرا كبيرا على حياته. لكنه في نفس الوقت لم يحمّل الدين أخطاء المتدينين، بل أبدى بعض السعادة والتوق إلى هذه الرحلة، فهي تنتهي بلقاء البابا “فرانسيس”.

لكن البابا يلتقي بالمجموعة، فيقرأ عليهم خطابا مكتوبا بالإيطالية، وهي ليست لغته الأم حتى، ثم ينهي اللقاء بصورة سريعة، من دون حوار ولا نقاش، قائلا “باي باي”.

تلاميذ من الهنود الحمر في كندا يحملون لافتة مدرستهم

التقى “ريك” بعد ذلك بأحد ممثلي الكنسية، لكنه قوبل بتعبير بارد عن التعاطف، وكان تأثير الاعتذار أسوأ من عدمه، فقد شعر بأن الاعتذار كان غير كافٍ، لأنه مكتوب مسبقا، بلا مشاعر حقيقية، ولا تصاحبه إجراءات ملموسة.

وقد وصف سلوك البابا بعد الاعتذار بأنه مستهتر، وزاد إحساسه بعدم الاحترام، وأعرب عن خيبة أمله بعد عودته من الفاتيكان، قائلا: “لقد سمعنا اعتذارات، لكن لم يحدث شيء حقا”، مما أبرز فراغ التصريحات الرمزية الخالية من الأفعال الحقيقية.

قصص تلقي الضوء على فشل العالم

إن قوة الفيلم لا تأتي فقط من سرد الحقائق أو الإحصائيات، بل من الإنسانية البسيطة لشخصياته، واستعدادهم لمواجهة جروح الأجيال السابقة، والصدى الواضح للصمود النفسي في مجتمعاتهم.

من خلال القصص المتشابكة لـ”جوليان بريف نويزكات” و”ريك غيلبرت” و”إد آرتشي نويزكات” وآخرين، يمثل الفيلم شهادة وإدانة في الوقت ذاته، فهو يرصد الندوب العميقة التي خلفتها المؤسسات الاستعمارية، كما يعكس فشل العالم المستمر في تحقيق المساءلة.

ما مصير أبناء السكان الأصليين؟

اكتشاف القبور غير المعلّمة في أماكن مثل مدرسة القديس “جوزيف “-وهو كشف صادم بحد ذاته- ليس إلا فصلا واحدا في سردية طويلة من المحو والصمت والنضال. ومع ذلك، فمن خلال هذه التحقيقات، يصبح الفيلم أيضا فعل استعادة، يمنح الصوت لمن أُسكتوا، والحياة لمن فُقدوا.

هذا الفعل لا يقتصر على الأفراد، بل هو جماعي، ويمتد إلى مجتمعات كاملة من الشعوب الأصلية، التي تحمل عبء الإبادة الثقافية المتعمدة عبر الأجيال.

“قصب السكر”.. منبر لسرد حكايات الماضي الأليم

يمثل فيلم “قصب السكر” منبرا لتقديم شهادات مجتمعية وتاريخية كانت غائبة زمنا طويلا، ويتيح للحكايات الشخصية مواجهة سياقها المؤسساتي، لكنه في الوقت ذاته يطرح أسئلة جوهرية، عن الدور الذي لا يزال الدين والسلطات تلعبه، ليس فقط في الاعتراف بالخطايا، بل في ترجمة الاعتراف إلى أفعال تعالج الجروح الممتدة.

“سيقف شعبنا ثانية”.. عبارة يرددها الشعب المقهور

إن هذه الدعوة للتذكر ليست فقط واجبا إنسانيا بل ضرورة مجتمعية. فالفيلم بمعالجته المبدعة والحميمة لهذه القضايا، يعيد صياغة دور السينما، بصفتها وسيطا لنقل الحقائق الصعبة، وتحفيز الحوار المجتمعي.

“قصب السكر” ليس مجرد فيلم عن الماضي، ولكنه انعكاس للحاضر واستبصار نحو المستقبل، إنه عمل سينمائي يتحدى المجتمع ليسأل نفسه: كيف يمكننا تجاوز الإرث المؤلم، وتحقيق عدالة حقيقية تعيد الحياة لتلك الحكايات الصامتة؟


إعلان