“فضح اليمين المشدد”.. صحفيون يكشفون منبع تمويلات المنظمات العنصرية

اخترق نشطاء منظمة “أمل، لا كراهية” البريطانية منظمات يمينية غربية متطرفة، لكشف الأساليب الجديدة التي تتبعها لنشر أفكارها ودعايتها العنصرية المعادية للديمقراطية، والهادفة إلى السيطرة على مواقع اتخاذ القرار السياسي، وذلك بإدارة المنصات والمواقع الإلكترونية الممولة من أناس مؤثرين فاعلين.

هذا ما يتوصل إليه الوثائقي البريطاني “متخفٍّ.. فضح اليمين المتشدد” (Undercover: Exposing the Far Right)، الذي يتتبع الاختراق الشجاع التي يقوم به أعضاء من المنظمة التطوعية البريطانية، لزعماء يمينين ينشرون أفكارهم العنصرية، عبر مواقع يأخذ ظاهرها طابعا علميا، لكنها تُبيّت سرا أهدافا تعزز الفرقة بين البشر وتنشر الكراهية.

واللافت في كشف نتائج الاختراق أن شخصية فاعلة في مجمع “وادي سيليكون” تقف وراء تمويل بعض من تلك المواقع الناشرة لروح الكراهية والبغضاء.

رجال شجعان يفضحون العنصرية دون تردد

بمرافقته عملية الفضح السرية، يُظهِر وثائقي المخرجة “هافانا ماركينغ” شجاعة القائمين بها، وعدم ترددهم في خوض مغامرة محفوفة بالخطر، فاختراق أوكار قادة اليمين الغربي المتطرف يتطلب رباطة جأش وتخطيطا مدروسا، لتجنب أي خطأ قد يعرض “المُخترِق” للكشف، ومواجهته أخطارا حقيقية.

أحاديث ومناقشات جدية داخل منظمة “أمل، لا كراهية”

حماسة هؤلاء وشجاعتهم متأتية من مواقفهم الإنسانية المعادية للعنصرية والنازية، وهذا ما تجليه المشاهد الافتتاحية، التي ينقلها الوثائقي عن اللحظة التي يجتمع فيها المتطوعون، لتقييم تسللهم بعد إتمامه بنجاح، وما يتداولونه بينهم حول أهداف منظمتهم، وأساليب عملها في تعرية الدور الخفي لقادة يمينين، يتخذون أساليب عمل غير تقليدية، ويقدمون أنفسهم على أنهم شخصيات مثقفة ومتعلمة، ويدّعون أنهم يستندون في نظرتهم للآخر على نظريات علمية، في حين يروجون بمواقعهم الإلكترونية للأفكار الداعية إلى الكراهية والتمييز بين البشر.

مؤتمر تالين يكشف قبح وجه اليمين المتطرف

يتابع الوثائقي بدقة الاختراق الذي يقوم به الصحفي الشاب “هاري كوشمان” بمساعدة زميله “باتريك هيرمانسون”، وهو  المشرف والمسؤول عن الجانب الأمني من الاختراق، الهادف لكشف الممول الرئيس لأحد أخطر مواقع نشر الكراهية والعنصرية، ومعرفة الأساليب التي يستخدمها قادة المنظمات اليمينية للتوغل في ثنايا المجتمعات الغربية، والتأثير عليها، بهدف كسب تأييدها لهم، ثم الوصول إلى المراكز السياسية المهمة.

الملصق الدعائي للفيلم

تنقل صانعة الوثائقي التجيهز لعملية “كوشمان”، فينتحل اسم “كريس”، ويدعي أنه من حمَلة الأفكار العنصرية، ويزود بكاميرا خفية تُربَط بأحد أزرار سترته قُبيل سفره إلى العاصمة الإستونية تالين، لحضور مؤتمر موقع “علم الأجناس”، وبحضوره في المؤتمر يكشف أهم الشخصيات الحاضرة فيه، ويعرف الأساليب التي يتبعونها لنشر أفكارهم.

تفضح المقاطع المسجلة من كلمات المؤتمرين نظرتهم للآخر المختلف، فجُلها يركز على عدم إمكانية العيش المشترك بين السود والبيض في أمريكا، وعلى “الخطر” القادم من المسلمين الذين يريدون السيطرة على المجتمعات الأوروبية.

يتقرب “كريس” من البريطاني “رابين ويليامز”، وهو ناشط عنصري في بريطانيا، وله صلة قوية بالمتطرف اليميني “مات أرشر”، خريج جامعة كامبريدج المقرب من قادة سريين متنفذين في “وادي السيليكون” في الجهة الأخرى من الأطلسي.

زعيم منظمة “بريطانيا أولا”

يقول منتمون للمنظمة التطوعية إن المعلومات التي يجنيها المُخترِق تضاف إلى أرشيف ضخم، يجمعون فيه كل ما ينالون من معلومات مهمة، فيحللونها ويعرفون الصلات المتشعبة للحركات اليمينية الغربية، ومن بعد يمكن لهم نشر محتوياتها، ليعرف العالم الدور الخطير الذي يلعبه العنصريون والنازيون في مجتمعاتهم الغربية.

صندوق دعم نظريات التفوق العرقي

يكشف المُتسلل “كريس” أن “مات أرشر” هو مؤسس موقع “أبوريا” الخطير ورئيس تحريره، وهو المروج لفكرة تفوق البيض، والساعي لتأكيد وجود اختلافات جينية في القدرات الذهنية والعقلية بين الأعراق البشرية، وأن هذا يفسر كون البيض هم أكثر أمانة وصدقا من بقية الأجناس!

عندما وثق “أرشر” به أخبره أن في “وادي السيليكون” من يريد الإسهام بالمال لدعم الموقع، وأن هدف هذه الشخصية هو الربط بين “صندوق باينر فاند” والموقع العنصري الذي يشرف عليه، بهدف ضمان ديمومته.

“كريس” في محادثة مع “أشر”

من خلال متابعة فريق المنظمة الطوعية لمعلوماتها عن تاريخ الصندوق، يتضح أنه قد تأسس أواسط ثلاثينيات القرن المنصرم، وأنه دعم وقدم مساعدات مالية للمشاريع “العلمية”، التي تهدف إلى نشر “نظرية التفوق العرقي”، وبقية البحوث ذات الطابع العنصري.

يتوصل فريق المنظمة التطوعية إلى حقيقة صادمة، مفادها أن هذا الصندوق ما زال موجودا لم يُغلق، مع أنه أُشيع توقفه منذ مدة طويلة، ولهذا ظل يلعب دورا خطيرا في نشر الأفكار النازية، كما كان يفعل منذ تأسيسه إبان صعود الفاشية الألمانية.

شكل خارجي متحضر وعمق داخلي بشع

البحث في أرشيف المنظمة، وأحاديث “أرشر” مع الصحفي المُتخفي، يظهران توجهات جديدة للمتطرفين اليمينين، تربط بين السلطة والمال بطرق شتى، تأخذ طابعا “متحضرا” كما يظهر من سلوك قادة منظمة “البديل الديمقراطي” البريطانية، التي يقودها “مارك كوليت”، وتركز هذه المنظمة في دعايتها على المسلمين، وتدعو إلى محاربتهم وطردهم من البلد، مع بقية المهاجرين القادمين إليه.

العالم العنصري “ريتشارد لين”

لا يظهر أعضاء المنظمة بالمظهر المعهود للنازيين الجدد، أو العنصريين المتشددين حاملي الصليب المعقوف، بل يقدمون أنفسهم مجموعة واعية ومثقفة، ولهذا يتغلغلون بين شتى الطبقات البريطانية، ولهم تأثيرات قوية عليها.

ينقل الناشط “هيرمانسون” تجربته في هذا الجانب، من خلال مشاركته في اختراق المنظمات العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية، ومعرفته بالكيفية تأثير الأفكار المبثوثة عبر المواقع العنصرية على قطاعات من المجتمع الأمريكي “الأبيض”، وبفعل تأثيراتها لا يتوانون عن قتل الآخر المختلف، كما حدث في تظاهرات “شارلوت فيل” في ولاية فرجينيا عام 2017، عندما دعس أحد العنصريين عددا من المتظاهرين بسيارته.

تسجيلات سرية توثق تحركات العنصريين

كما يشير -بحكم خبرته- إلى ظهور جيل جديد من العنصريين، استطاع تغيير شكله الخارجي، لكنه ما زال يروج لنظريات قديمة أثبتت فشلها، نظريات عنصرية كالتي يتبناها الباحث “ريتشارد لين”.

شبكة المنظمات الكارهة للمسلمين

يَتبيّن من بحث الوثائقي الاستقصائي حول شخصية الباحث “ريتشارد لين” أنه داعم وعضو نشط في مجلس إدارة “صندوق بيونر فاند” العنصري، ويتواصل باستمرار مع “أرشر”، ويقترح عليه إعادة العمل بموقع “أبوريا”، لنشر نظريته الداعية لمنع الفقراء من الإنجاب، لأن أطفالهم سيلوثون نقاوة العرق الأبيض.

موقع “أبوريا”.. تشجيع على التمييز بين البشر

تظهر مفارقة حاضرة في سياق البحث السينمائي الدؤوب، وتتمثل في معرفة مستوى دراسات “لين” الهابطة، فهي تفتقر كلها للحصافة العلمية المطلوبة، حسب علماء مرموقين، ولم تُطبع في النشرات العلمية المعترف بها أكاديميا.

لكن من المؤكد أن وجوده ضمن فريق عمل صندوق الدعم العنصري، وصلته بالقادة اليمنيين والممولين لهم، يشير بوضوح إلى العلاقة المتشابكة بين المال وبين المروجين لنظرية التفوق العرقي.

يذهب الفيلم إلى بريطانيا للتدليل على ذلك التشابك الحاصل، لمعاينة نشاطات عنصرية شتى، منها نشاط “تومي روبنسون” زعيم منظمة “رابطة الدفاع الإنجليزية”، التي تركز في نشاطها المحموم على معاداة الإسلام والمسلمين.

تهديدات بالقتل تصل إلى مؤسس “أمل، لا كراهية”

هاجم “روبنسون” مؤسس المنظمة التطوعية “نيك لويس” هجوما عنيفا، وهدده أعضاء من المنظمة اليمينية، التي ظهر أن جزءا من تمويلها المادي يأتي من شخصيات أمريكية، لا تُظهِر انحيازاتها الفكرية علنا، وأيضا من جماعات عنصرية أمريكية تؤمن بأن المسلمين تهديد حقيقي للمجتمعات الأوروبية وثقافتها، لهذا يدعمون منظمات عنصرية أوروبية منها “بريطانيا أولا”، وغيرها من المنظمات الرافعة لشعار محاربة الإسلام والمسلمين.

شغب عنصري يهز أوصال المجتمع البريطاني

يتوقف الوثائقي للبرهنة على عمق تأثير الفكر العنصري السلبي على المجتمع البريطاني، بتتبعه وتحليله أحداث “ساوثبورت” صيف 2024، حين انتشر خبر كاذب سرّبته مواقع يمينية وعنصرية، يُفيد بأن مهاجرا مسلما قتل 3 فتيات من مدرسة الرقص في ساوثبورت طعنا، بلا دليل قانوني يُثبت ذلك الادعاء.

ترهيب السكان وإخافتهم في الشوارع

قاد العنصريون فورا حملة ترهيب ضد المهاجرين ولا سيما المسلمين منهم، ومع أن مواصفات القاتل لم تطابق شخصية المهاجر، فإن العنصريين مضوا في غَيهم، فأحرقوا معسكرات المهاجرين ومساكنهم وهم بداخلها، ليثيروا رعبا وخوفا يهزان أوصال المجتمع البريطاني.

يزداد الصحفي المُتخفي إصرارا على كشف اسم الشخصية الداعمة لـ”أشر” وموقعه ماليا، بسبب كل تلك الأحداث، واتضاح دور المواقع العنصرية في نشر الفكر المتطرف، ولا سيما موقع “أبوريا”.

كشف اسم الشخصية الممولة للمشاريع العنصرية

يدعي “كريس” المتخفي أنه نال ثروة كبيرة من إرث عائلي، وأنه يريد استثماره في الموقع، ويغوي المال صاحب الموقع ويدفعه للاعتراف بأنه نال من شخصية “مجهولة” قرابة مليون دولار، وأنه يخطط لتخصيص جزء منه راتبا لباحث عنصري ألماني، يؤمن بنظرية التفوق العرقي.

في أثينا ينفضح اسم الممول للمواقع العنصرية

يماطل المُتخفي في الموافقة، ويشترط كشف اسم الشخصية الممولة له أولا، قبل المشاركة في المشروع، وفي لقاء عشاء فخم يرتبه مع “أشر” والباحث الألماني في العاصمة اليونانية أثينا، يعلم أن الممول هو “أندرو كونرو”، مؤسس موقع المواعدة المعروف “أدولت فريند فايندر”.

إنه الشخصية الداعمة لمنظمة تنشر الكراهية، وتشجع على العنف، لكن منذ أذاع الوثائقي اسمه نفى وتنكر لعلاقته بالموقع وصاحبه، ومثله آخرون أصابهم الذعر من فضح حقيقتهم أمام الملأ.

“أندرو كونرو” هو الداعم الرئيس لبعض المنظمات العنصرية التي تنشر الفكر المتطرف ضد السود والمسلمين

ترافق خوف العنصريين مع خوف آخر غير مفهوم، جاء هذه المرة من منظمي الدورة الماضية من مهرجان لندن السينمائي، فقد قرروا منع الفيلم من العرض بعد برمجتهم له، بحجة خوفهم على العاملين والجمهور من أفعال انتقامية.

وُجهت انتقادات كثيرة للمهرجان ولموقفه غير المبرر، لأن مَن يُخشى عليه من الانتقام حقا، هم هؤلاء الصحفيون الأبطال، الذين كشفوا عن وجوههم الحقيقية ودورهم أمام خصومهم، غير عابئين بردود أفعالهم المنتظرة، انطلاقا من قناعتهم بأن نشر الحقيقة وفضح اليمين المتطرف واجب على كل من يتصدى للعنصرية في كل مكان.


إعلان