“جرائم آل مانسون”.. تلاعب بالعقول وفظائع تحمل رائحة المخابرات الأمريكية

يأخذنا المخرج الأمريكي “إيرول موريس” في فيلمه الوثائقي “الفوضى.. جرائم آل مانسون” (Chaos: The Manson Murders)، الذي أخرجه عام 2025، فيعود بنا إلى أكثر من نصف قرن، ليتدبر جريمة غامضة في لوس أنجلوس الأمريكية، وقعت في أغسطس/ آب 1969، وراحت ضحيتها الممثلة “شارون تيت” الحبلى في شهرها الثامن، وزوجها السينمائي “رومان بولانسكي”، وبعض ضيوفهما، بطعنات وطلق نار.

يناقش الوثائقي تفاصيل الجريمة وخلفياتها، وينتهي إلى توجيه أصابع الاتهام إلى المخابرات المركزية الأمريكية، وكانت يومئذ تختبر تقنيات وأساليب جديدة، للتلاعب بعقول البشر وذاكرتهم وإرادتهم.
“سفينغالي” من الأدب والسينما إلى الواقع
يمثل “تشارلز مانسون” شخصية الفيلم الرئيسي، الذي تدور في فلكه أحداث الفيلم، فيكون مؤثرا له سحره على محيطه، سالبا لإرادة أتباعه، أولئك الذين يسميهم الفيلم “آل مانسون”.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4“قابس.. حياة وموت”.. صراع كيميائي في الواحة التي أصبحت جحيما
- list 2 of 4“أسد ماندي”.. حكاية مغيبة عن ملاحم ملك أفريقي عظيم
- list 3 of 4“هلال في وجه النازية”.. قصة بن غبريط الذي حمى اليهود ودافع عن الاستعمار الفرنسي
- list 4 of 4وثائقي ياسر عرفات “الختيار- البدايات”.. إعادة الحماسة الثورية وصدام مع دول الجوار
ولقدرته على التلاعب بعقولهم، كانوا يسلمون بطاعته في كل ما يأمر به، وينفذون الجرائم المروعة بدماء باردة بناء على طلبه، ولا يزال الأمريكيون يذكرون جرائمه، حتى بعد مرور أكثر من نصف قرن.
يحاول المدعي العام “فينسنت بليوسي” أن يشرح الأمر بما ينسجم وتكييفه للقضية زمانا، ففي عائلة “مانسون” تجسيد لشخصية “سفينغالي” التي ابتكرها الروائي “جورج دي مورييه” في روايته “تريبلي” (Trilby) عام 1894، ثم اقتبست مرارا، وأبرز اقتباساتها الفيلم الأمريكي “سفينغالي” (Svengali)، للمخرج “آرتشي مايو” (1931).
مدار القصة على أستاذ موسيقى، يوظف التنويم المغناطيسي للتحكم في المغنية “تريبلي”، ويستغلها في أعماله الشريرة، ثم يصبح رمزا للسيطرة على الآخرين والتلاعب بعقولهم، لاستغلالهم في مآرب شتى.
أما عائلة “مانسون” التي عبرت بالشخصية من الأدب والسينما إلى الواقع، فما هي إلا مجموعة من المراهقين المشردين من ضحايا المخدرات ذوي الأرواح التائهة، الذي وقعوا ضحية لسحر المجرم الخطير “تشارلز مانسون”، فأصبحوا أتباعا مطيعين، يرون مُلهمهم الفيلسوف المعلم، ويتخذونه صوتا للرب أو رسولا له.
شعارات سياسية بدماء الضحايا
وفقا لرواية القضية الرسمية، التي رُوجت في وسائل الإعلام، فقد أرسل المجرم “مانسون” أتباعه وهم تحت تأثير المخدرات، فاقدين ملكة التمييز السليم بسبب الانتشاء، لقتل أثرياء لوس أنجلوس ومشاهيرها في ليلة من ليالي أغسطس/ آب 1969.
وقد وصلوا عشوائيا إلى منزل الممثلة “شارون تيت” في شارع “سييلو درايف”، وقطعوا خطوط الهاتف والكهرباء، ثم قتلوا بفظاعة كل من اعترضهم، متجاهلين توسلات الضحايا.

ولتضليل العدالة ومنح الجريمة بعدا سياسيا، كتبوا على الجدران والأبواب بدماء ضحاياهم النازفة شعارات منها “الموت للخنازير”، و”خنزير سياسي”، وهي شعارات يرفعها عادة تنظيم “النمور السود”، الذي يدافع عن السود ضد وحشية الشرطة، في ظل ما يعيشونه من تمييز عنصري.
ثم تبعت هذه الجريمة بعد يومين جرائم أخرى مشابهة، ترك إثرها “أفراد العائلة” تلك العبارات نفسها، مكتوبة بالدماء على الجدران.
موجة الهيبيز (الخنافس)
صادف خروج “تشارلز مانسون” من السجن سياقا عاما متوهجا ثقافيا، فقد تشكلت ظاهرة “صيف الحب” الاجتماعية في سان فرانسيسكو عام 1967، وكانت عنوانا لاحتجاج شبابي ثقافي وسياسي كبير، وتمردا على القيم الرأسمالية، جعل المدينة مركز ثورة ثقافة الخنافس (البيتلز).
وكان منهم من يجمع بين موسيقى الروك والبلوز، واستهلاك المخدرات والعقارات المهلوسة وحرية المجون، ويجد في ذلك مهربا للذات المتشظية المنسحقة، بسبب هيمنة الرأسمالية المتوحشة، التي تسلب من الإنسان إنسانيته.

وقد صادف أن “مانسون” كان مؤلفا وعازفا موسيقيا، فانخرط في الموجة، ولقي “دينيس ويلسون” من فرقة “بيتش بويز” الشهيرة، عبر وساطة “تيري ميلتشر”، وهو منتج يريد أن ينجز فيلما وثائقيا عن موسيقى “البيتلز” ويبحث عن نماذج ممثلة لها.
لكن التجربة لم تنتشله من إجرامه، بل انتهت به إلى سرقة حقوقه الفكرية، وزجت به في عالم المخدرات والمال، ووضعته على طريق الجريمة مرة أخرى.
عبقري ضل طريقه
وفقا لوجهة النظر التي تبناها المدعي العام، وحوكم أفراد العائلة بمقتضاها، فإن المجرمين المعطوبة عقولهم بسبب انخراطهم في موجة الهيبيز، كانوا يعملون على إشعال حرب عرقية كارثية، وكانوا يستمدون أفكارهم من تأويلات خاصة للكتاب المقدس، ولكلمات فرقة “البيتلز” البريطانية في أغنية “هيلتر سكيلتر”.
هكذا مُنح “مانسون” صفة العبقري القائد الذي ضل طريقه إلى الإجرام، وأصبح على نحو ما بطلا حظي بشرف الدفاع عن العرق الأبيض الذي يواجه تهديد الإبادة من وجهة نظره.
وقد كتب حوله “فينسنت بليوسي” و”كيرت جينتري” كتاب “هيلتر سكيلتر.. القصة الحقيقية لجرائم قتل مانسون”، وأصبح الأكثر مبيعا عام 1974. وما يدعم هذه الأطروحة تشويهه لوجه تاجر مخدرات أسود، ثم التحريض لاحقا على قتله.
ما وراء الأكمة
يعود المخرج إلى تاريخ “تشارلز مانسون” البعيد، ليفهم أبعاد القضية، فقد كان سجينا، ثم أفرج عنه إفراجا إلزاميا من دون رغبته، وكان يرفض الانخراط في المجتمع، ويقول عن السجن “هنا بيتي”.
كان الشرط الإلزامي يقضي بأن لا يغادر مدينة لوس أنجلوس في كاليفورنيا، لذلك غادر إلى مدينة سان فرانسيسكو، وعرض نفسه للشرطة، لتعلم أنه خرق الشرط، ومع ذلك لم تفعل شيئا. بل إن تقارير ضابط الإفراج الذي كان يلتقيه دوريا، كانت متواطئة تغض الطرف عن انخراطه في ضرب جديد من الإجرام.

وعندما بدأ مرحلة جديدة أكثر خطرا في حياته، وأخذت شخصية “سفينغالي” المتلاعب تظهر فيه، فيُظهر لنسائه صورة الرجل الحامي اللطيف، ويرين فيه صوت الرب، حتى إنهم ينادينه “يسوع”، ويستولي على عقولهن فيسلمنه أنفسهن، للاستمتاع بأجسادهن متى أراد، أو تأجيرها للآخرين لكسب المال.
وكان يأخذ من تصاب منهن إلى عيادة تقدم خدمات علاجية مجانية لأمثالهن من بائعات الهوى، ويبدو أن تلك العيادة كانت القطعة الناقصة من الأحجية، التي يتضح المشهد كله حين توضع في مكانها.
فهي حلقة الوصل بين “مانسون” والمخابرات المركزية الأمريكية، وبأخذها بعين الاعتبار -من وجهة نظر المخرج “إيرول موريس”- نكتشف العمق من حكاية لم ندرك منها غير طبقتها السطحية، الكائنة في الواجهة على مدار نصف قرن أو أكثر.
ففيها يتواصل مع “جولي واست”، الذي يقدم في الفيلم خبيرا في التنويم المغناطيسي، وسيكون لـ”مانسون” دور غفلت عنه كل الروايات السابقة.
“آل مانسون” المغسولة عقولهم
كان “لويس جولي ويست” طبيبا نفسيا يعمل لدى وكالة المخابرات المركزية، وكان يرتاد هذه العيادة المجانية بصفته غير المعلنة تلك، وكان يوظف مجموعة من الطلبة، ويعهد إليهم بمهمة الاندساس في صفوف زملائهم من الهيبيز، واستدراجهم للقيام بتجارب علمية عليهم.
ولكي ندرك خطورة “لويس جولي” ومنزلته في الوكالة، يعلمنا الفيلم بأنه هو الطبيب الذي أجرى عام 1964 فحصَ “جاك روبي” النفسي، مُطلق النار على “لي هارفي أوزوالد”، قاتل الرئيس “جون كينيدي”، وقدر يومها أنه “مختل عقليا”.
يقدر الفيلم أن مشروعه امتداد لبرنامج الوكالة السري في السنوات 1953-1964، الذي يسمى “إم كي ألترا” (MKUltra)، ويهدف إلى تطوير تقنيات وأساليب لغسل الأدمغة والتحكم فيها، عبر عقار “إل إس دي” المهلوس، ويراهن على التوصل إلى محو ذاكرة الفرد المستهدف، وزرع ذاكرة جديدة بدلا منها.

ومن تجارب هذا البرنامج ما انتهى إلى انتحار الأفراد المستهدفين، الذين لم يكونوا على علم بما يدبر لهم، ومنهم “فرانك أولسون”، العالم الذي ألقى بنفسه من نافذة فندق، وذلك ما دفع الوكالة إلى إتلاف ما لديها من سجلات، لدرء الفضيحة.
يربط الفيلم بين التراخي في ملاحقة “مانسون” المفرج عنه إلزاميا، وصلته بالطبيب “لويس جولي”، والثغرات التي يراها في التحقيق، وينتصر لفرضية ضلوع المخابرات المركزية الأمريكية في جرائم آل مانسون”.
ثم يلمح إلى أنهم كانوا ضحية لبرامج غسل العقول، التي تعمل عليها الوكالة، وما استسلامهم لسيدهم بإرادة مسلوبة إلا دليلا على ما أصابهم من المخدرات والعقارات الكيميائية.
ولكن يبدو أن الوكالة فقدت التحكم فيهم في لحظة ما، فأصبحوا قتلة مأجورين، تعسر السيطرة عليهم.
صورة المخابرات المرعبة
يحاول الفيلم تفكيك الوقائع القديمة المتعلقة بجرائم “آل مانسون” وإعادة بنائها، لفهمها على النحو المغاير للصيغة الرائجة، فينتهي إلى صورة مرعبة للمخابرات الأمريكية، أكثر فظاعة من جرائم “آل مانسون”.
فقد تعدت المخابرات الدور الموكول لها، المتمثل في جمع معلومات الأمن الداخلي والخارجي، ثم تحليلها واستباق الخطر، وتجاوزته إلى العبث بإنسانية الإنسان وبعقله وفكره، ليكون الخاضع المطيع الذي تريده الدولة العميقة، المهووسة بالحفاظ على مصالح أفرادها.

فكثيرا ما تباهت أمريكا بإعلامها الحر، وقضائها المستقل، وعلمها الإنساني. ولكن المخرج “إيرول موريس” يكشف منها آلة جهنمية، توظف السلطات والطاقات لمخططاتها الإجرامية.
فتستدرج “مانسون” حين تلمس فيه الشغف بالموسيقى، وتخرجه من السجن، وتجعله أداتها لاختراق عالم موسيقيي الهيبيز، التي كان أعضاؤها يمثلون تعبيرا ثقافيا متمردا، ثم تجعل العمل الإنساني (العيادة المجانية) كمينا، لتجري تجاربها الوحشية على البشر، وتعبث بعقولهم.
مما يدعم هذه القراءة كثرة الثغرات في الرواية الرسمية، فأنى لضابط أن يكتب تقارير حميدة في أحد المتاجرين بالبشر؟ وكيف لقاتل هارب من مسرح الجريمة أن يأخذ في صندوق السيارة الخلفي كل الأدلة التي تدينه؟
سيناريو الفيروس المتسرب من المختبر
يمكن أن نعد الفيلم مميزا من هذه الناحية، فهو يقدم لمستهلكي القصص المثيرة حكاية عجيبة، عن معلّم روحي يتزعم طائفة من العبيد المطيعين، ومن مظاهر شدة تحكمه في عقول أتباعه أنه حفر علامة “X” على جبهته، إشارةً إلى كونه ضحية ومنبوذا من المجتمع، وفي اليوم الموالي، شوهت نساؤه -اللواتي يمثلن أمام المحكمة معه- جباههن كما فعل.
يدعو المخرج المتفرج إلى التفكير في هذه القضية المعقدة، تفكيرا حرا بعيدا عن الضجة، التي صاحبت القضية في نهاية الستينيات، ومع ذلك فكل ما يقدمه ليس أكثر من فرضيات، فلا يقدم دليلا واحدا باتا وقاطعا على صحة ما يذكر.
والأدهى أن قصة خبير التنويم المغناطيسي والمخدرات وحبوب الهلوسة الذي يتلاعب بالعقول، تنتهي بخروج العينة موضوع الدراسة عن السيطرة، مما يجعلها أقرب إلى قصص الفيروسات التي تتسرب من المختبرات، فتنتشر ويعجز العلماء عن التحكم فيها، كما في أفلام الخيال العلمي، أو فيما يروى عن فيروسي الإيدز وكورونا.

يحق لنا أن نتساءل إذن: ألا يكون الفيلم نفسه تلاعبا بالمتفرج بحثا عن الإثارة والربح المادي؟ فالقصة دسمة تجمع البعد البوليسي والإثارة والرعب والتجسس، وتشكل مزيجا من المنكهات التي تشد الجمهور السينمائي.
الأمر بين فرضيتين؛ فإما أن المخابرات قد انحرفت عن دورها، أو أن الفيلم الوثائقي قد انحرف عن أهدافه كما تُعرف في تجارب الأسبقين، وهي البحث عن الحقيقة.
وبصرف النظر عن الفيلم، فواقع النمط الوثائقي اليوم كذلك أيضا، فالدراسة السينمائية الموضوعية والرصينة، التي لها هدف فكري والتزام قيمي، قد أصبحت منتجا استهلاكيا، كلما توفرت لها السوق المناسبة، ممثلة في المنصات الرقمية التي تسعى إلى إرضاء مشتركيها، والاستجابة إلى رغبتهم في المادة الاستهلاكية المثيرة، وليس كالجريمة والجاسوسية والعنف والرعب مادة مثيرة لمتفرجي اليوم.
