فاماك: حوار السينما العربية في المهجر

الجزيرة الوثائقية

 

أستاذ رودلف أريد أن أرحّب بكم أوّلا في العالم العربي لمواكبة المهرجانات السينمائية في هذه المنطقة. و لا يمكن أن نفصل هذه الزيارة عن المجهودات التي تبذلها منظّمة فاماكFameck الفرنسيّة لمتابعة السينما العربيّة. ونعتقد أنّ الجمهور العربيّ يرغب في التعرف على هذه المنظّمة من حيث نشاطها ومن حيث خلفياتها الفلسفيّة ومعاييرها الفنيّة . 

* هذا سؤال طويل. لكنّى أرى أنّه من العسير على منظّمة قائمة على جهد تطوّعيّ، أن تنهض بتظاهرة سينمائيّة في حجم أيّام قرطاج السينمائيّة . أمّا الفاماك فهي منطقة فرنسيّة كانت معروفة بأنشطتها الصناعيّة في مجال التعدين قبل أن تنهار هذه الصناعة. ولهذه المنطقة خصوصياتها ومن ذلك أنّها تضمّ أكثر من أربعين جنسيّة وهو ما يعني كثرة المهاجرين الذين تنحدر موجاتهم الأخيرة من بلدان المغرب العربيّ وفيها مهاجرون من أجيال مختلفة.

 أمّا فكرة بعث مهرجان فاماك السينمائيّ فتعود إلى المهاجرين ذاتهم الذين تساءلوا “لِمَ لا يقيمون مهرجانا سينمائيّا ؟”. في البداية كان الأمر صعبا جدّا و ذلك أنّنا في السنة الأولى أي 1990 لم نتجاوز السبعة أو الثمانية أشرطة  ومع 800 متفرّج. لكنّنا لم نيأس ولم نصب بالإحباط بل دفعنا الأشياء إلى الأمام وبلغنا بمهرجاننا مكانة رفيعة. مع العلم أنّي لا أعرف مهرجانا آخر يخصّص المساحة التي نخصّصها نحن للفيلم العربيّ . ولقد بلغت برمجتنا 30 فيلما موزّعة على 7 أو 8 قاعات. وننتهج في عروضنا تصوّرا لامركزيّا حتّى لا تبقى الأفلام حكرا على المدن الكبرى ولهذا ترانا نعرض الأفلام العربيّة في مدن أخرى مثل ميس Messei  ونانسي Nancy دون أن ننسى أنّ فاماك هي المقرّ الأصليّ للمهرجان. ونظرا إلى تلك المجهودات وذاك الإصرار ارتفع عدد المتابعين لمهرجاننا إلى 16000 متابع والعدد مرشّح للارتفاع .

 
الجمهور والأصداء

 يبدو لي أنّ الحديث عن أهميّة المهرجان يختلف من شخص إلى آخر. صحيح أنّ عدد الجمهور يترجم قيمة التظاهرة لكن أليس من الأهميّة بمكان النظر إلى الأصداء التي يتركها المهرجان سواء في مختلف المقاطعات الفرنسيّة أو البلدان المجاورة و خصوصا العربيّة منها . 

* نحن مجموعة من المتطوعين هذه حقيقة أولى والحقيقة الثانية ـ  للأسف ـ أنّنا لم نستطع أن نقرّب نشاطنا من الدوائر والمشاهد الثقافيّة الفرنسيّة كما نريد . إلاّ أنّنا لم نستسلم واهتممنا بالانتشار الإعلامي منذ سنوات. ويمكن القول إنّنا قمنا بعمل طيّب . وفي هذا السياق انتدبنا منذ سنتين ونصف فنيّا مختصّا في الاتصال. وقد انجرّ عن ذلك حضور وطنيّ في منابر إعلاميّة مختلفة يوميّة أو أسبوعيّة. وإذاعات عديدة صارت تواكب أنشطتنا وتتابعها مثل ر. ف . م R . F . M وقد كان المهرجان الأخير فرصة للتأكّد من توسّع دائرة تأثيرنا وفعلنا إذ حظي المهرجان بتغطية إعلاميّة متميّزة .

إذن لا تتحدّثون عن انتشار حقيقيّ خارج فرنسا وعن اعتراف من قبل جهات سينمائيّة أخرى. ولكن نحاول أن نتقدّم أكثر ونحاول الوصول إلى أمور ملموسة. وسؤالي يتعلّق بالشراكة مع جهات سينمائيّة عربيّة خاصّة أنّكم تهتمّون بالفيلم العربيّ. هل ثمّة جهات حكوميّة أو غير حكوميّة تتشاركون معها وتتواصلون؟

* نعم ثمّة شراكة وخاصة مع البلدان الفرانكفونية مثل تونس والمغرب والجزائر. ولنا علاقات طيّبة مع العاملين في المجال السينمائي في هذه البلدان. وعلى خلاف ذلك نجد صعوبات في التواصل والتعامل مع البلدان الشرق أوسطيّة. ويمكن أن نردّ الأمر إلى مسألة اللغة . فنحن نجد صعوبة في بثّ الأفلام في بعض البلدان الناطقة بالانجليزيّة مثل مصر وحتّى سوريا ولبنان.

 
معايير الاختيار

 نريد أن نعرف المعايير التي تختارون وفقها الأفلام العربيّة وتبثّونها . هل هي مفروضة عليكم أم أنّكم تختارونها وفق أجندتكم الخاصّة ووفق منطلقاتكم الجماليّة والتقنيّة والفكريّة ؟

* لا نستطيع القول إنّها تُفرض علينا. بل نحن من يختار بعد أن نحاول التعرّف عليها. صحيح أنّ النسبة الكبيرة من الأفلام العربيّة لا تجد طريقها إلى فرنسا بحكم غياب مسالك التوزيع. وهذا أمر مؤسف. ولكن ثمّة دوما مناسبات ومهرجان “كان” واحد منها ولا يمكن تجاوزه. فهو فرصتنا للتعرّف على أفلام جيّدة.

 إضافة إلى المهرجانات لنا علاقات شخصيّة مع المخرجين وأصحاب القاعات في بعض الدول العربية . ونحن نستدعي كلّ مرّة حسب الإمكانيات مخرجا مع أحد أشرطته لنعرضها. وفي هذه السنة استدعينا عشرة ضيوف من البلدان العربيّة. وهو ما يمتّن علاقاتنا ويساعدنا في نشاطاتنا واختياراتنا. ولا تنس فنحن لا نمثّل مهرجانا تجاريّا. ولا نحاول إلاّ تقريب السينما العربيّة من المهاجرين الموجودين في منطقة فاماك، هؤلاء المهاجرون الذين جاؤوا أصلا لصناعة التعدين وهم بعيدون عن مجال ثقافتهم وأدبهم وسينمائهم ممّا يعني أنّنا نسعى إلى سدّ الفجوة القائمة بين المهاجرين وأصولهم الحضاريّة . 

 انطلاقا من تجربتكم وعلاقتكم بمختلف التظاهرات السينمائيّة العالميّة نودّ أن نتعرّف على حقيقة الحضور العربيّ في هذه التظاهرات سواء من الناحية الكميّة أو من الناحية التقنيّة والمقارنة إن أمكن بين السينما العربيّة والسينما الغربيّة عموما.

* نتواصل بطريقة أفضل مع بلدان المغرب العربي بحكم اللغة بالدرجة الأولى. وبالنسبة إلى المغرب هذه السنة فإنّه يمثّل ركيزة هامّة. طبعا نحن لا ننفي السينما الجزائريّة التي أخذت حظّها في سنوات مضت. ونحاول دائما أن نساير إيقاع الإنتاج في بقية البلدان العربيّة. في السنة الماضية مثلا كان تعاملنا مع الشريط التونسي. وهذه السنة لا أعتقد أنّ قرطاج ستُرضي رغبتنا. لكنّنا لا يجب أن ننسى أنّنا في بداية الموسم وسننتظر الأفلام العربية.

 ويبقى الإشكال الحقيقيّ مع بلدان المشرق. فمنذ سنتين استضفنا لبنان ولكنّ الحرب (أقصد حرب تمّوز) كان لها تأثيرها. وكذلك قمنا بتكريم المخرج المصري يوسف شاهين. ولنا علاقات مع معهد العالم العربي بباريس لكن تبقى الميزة والأفضليّة لبلدان المغرب العربي .

 
أيام قرطاج

لنتحدث عن مهرجان قرطاج. فقد نشأت تظاهرة أيّام قرطاج السينمائيّة سنة 1966  وكان هدفاها المعلنان هما تشجيع المخرجين العرب والأفارقة الذين لا يجدون ظروفا مساندة والهدف الثاني هو خلق حوار بين الشرق والغرب. والسؤال المطروح بعد نصف قرن من الزمن على الانطلاقة الأولى هل ما زال هذان الهدفان حاضريْن؟

* هذه أسئلة صعبة ومعقّدة. وأظنّ أنّهما مازالا حاضريْن ومن ذلك أنّ أيّام قرطاج السينمائيّة تظلّ فرصة أمام الأفلام الإفريقيّة خاصّة أنّ الأفلام العربيّة تجد متنفّسها ومجالها الحيويّ في حوض المتوسّط إضافة إلى كونها بدأت تجد مكانها لدى المشاهد الغربيّ وفي المهرجانات الأوروبيّة وخاصة مهرجان كان وغيرها. وثمّة عدد من المهرجانات تنصبّ عروضها على الفيلم العربيّ. ورغم وجود مشاكل الترجمة إضافة إلى الصعوبات اللوجستية مثل صعوبة نقل بكرات الأفلام . 

  سؤال يطرح ذاته في هذه التظاهرة على أساس أنّ أيّام قرطاج السينمائيّة تستهدف الإعلاء من الشريط الفنيّ والملتزم على حساب الشريط التجاري أي الأمريكي. فهل تتصوّرون أنّه بهذه الدورات المتباعدة وبهذا العدد القليل من الأفلام يمكن أن نواجه شراسة الشريط التجاريّ ونحقّق تعادلا أو ضربا من التوازن مع هذه النوعيّة الأخيرة من الأفلام؟

* أشعر بالتشاؤم عندما أعاين الحقائق رغم بعض الاستثناءات من ذلك أنّ شريطا مغربيّا قد حاز متابعة ومشاهدة منقطعتي النظير في دورة “كان” السابقة. وهذا أمر ممتع. لكنّ المشاهد الشاب يطرح القضيّة بشكل معقّد والمثال على ذلك أنّ الأفلام المتعلّقة بالحرب الجزائريّة قد واجهت نفورا من قِبل الشبّان المغاربة المتأثّرين بالشريط التجاري وذائقته(عنف / ضحك / تسلية..) لكنّي ألاحظ كذلك أنّ الأفلام العربيّة الأخيرة فقدت إلى حدّ كبير بعدها الخلافيّ والسجاليّ polémique وصارت تكتفي بعرض وضعيات بسيطة وشخصيات بسيطة.

كثيرون لا يشاطرونكم الرأي حول ذوق الشباب ومطالبه. وهناك إصرار واضح على تعديل الكفّة مع الأفلام التجاريّة شريطة وجود الإرادة الحقيقيّة التي تتمثّل أساسا في دعم الشريط الملتزم ومساندته بقطع النظر عن الخسارة المالية التي يمكن أن تحصل أوّل الأمر . زدْ إلى ذلك ضرورة توعية الشباب ومن قبلهم الأطفال وتعويدهم على الأفلام الراقية.

* نعم . لابدّ من توثيق العلاقة بالمؤسسات التربويّة لتعويد الناس على هذه النوعيّة من الأفلام ولذلك نبرمج دوما عروضا في المعاهد والمدارس الابتدائية. ودور نوادي السينما في المدارس والمعاهد مهم جدا. فالطاقات تبدأ في الظهور منذ هذه السن المبكرة. وكذلك هذه السن مؤسسة للموقف الفني والذوق الجمالي. ومفهوم الذوق مفهوم نسبي مرتبط بالحراك الاجتماعي والحرية الفكرية والفنية وهي كلها قيم تساهم المؤسسات التربوية في بنائها.

هل تعبّر الأفلام العربيّة المسافرة صوب شمال المتوسّط عن حقيقة المجتمعات العربيّة؟ أم أنّها معدّة حسب أفق انتظار المشاهد الأوروبيّ وتستجيب للنزعة الإيكزوتيكيّة Exotique المتمثلة في سحر الشرق لدى الآخر بحكم أنّ الكثير من المخرجين يستدرّون انتباه المشاهد الغربي بتصوير بعض الموضوعات المثيرة مثل العلاقات الجنسيّة المحرّمة أو تصوير النسوة العربيّات في الحمّامات العموميّة أو أثناء طقوس الزواج؟ أو تشويه تاريخهم وتراثهم؟

* لا أعتقد أنّ هذا الموقف له سند في الأفلام. صحيح قد تجد بعض المشاهد أو بعض اللقطات المتعلّقة كما قلتم بالحمّامات العموميّة لكنّ ذلك أمر يجد تبريره في طبيعة الحبكة والحكاية التي ينهض عليها الشريط . أمّا مسألة المشاهد الإباحيّة فهي موجودة كذلك في الأفلام الغربيّة ولست أبالغ إذا قلت إنّ أفلاما عربيّة كثيرة تعالج قضايا اجتماعيّة وتاريخيّة تهمّ هذه البلدان . وفي أحيان كثيرة يحتجّ علينا الشباب المغاربيّ ويتّهموننا بتشويه صورة بلدانهم والحال أنّ مخرجي الشريط من مواطنيهم وأنّ الصورة تترجم الواقع المعيش. لكن يبدو أنّ الشباب المغاربيّ هو الذي يحمل صورة إيكزوتيكيّة عن موطنه.

 
ضغوطات التمويل

 لكنّي أجد نفسي مضطرّا إلى تذكيركم بأنّ الكثير من هذه الأفلام قد تمّ تمويلها جزئيّا أو كليّا من قبل مصادر غربيّة ممّا سيفرض على المخرجين شروطا وضغوطا واستحقاقات تتّصل بالتوزيع والترويج. ولا نعتقد أنّ المموّل الغربيّ يقوم بذلك عن براءة ملائكيّة أو رغبة في المساندة والمساعدة؟ 

* لا أعتقد وجود هذه الضغوطات ولا أدري ما هي الفائدة التي يمكن أن تحصلها عندما تفرض على المخرجين تصوّرا معيّنا .

سؤال أخير: لقد لاحظنا أنّ أفلاما كثيرة مُنتَجَة وفق شراكة عربيّة فرنسيّة (شريط فلافل من إنتاج لبنانيّ فرنسيّ) وفي المقابل لا نجد شراكة عربيّة ـ عربيّة إلاّ مع وجود طرف ثالث غير عربي وهو أمر يبدو في حاجة إلى التفسير.

* الشراكة العربيّة ـ العربيّة كان يُفترض أن تكون موجودة. ولكنّنا في الحقيقة لا نجد تعاونا عربيّا أي بين الدول العربيّة ذاتها. والحقيقة الأخرى هي كون العرب يجدون صعوبة في التواصل فيما بينهم. فأنت عندما تعرض شريط “الخبز الحافي” المعتمد على رواية المغربيّ محمّد شكري وهو إخراج جزائريّ، ستجد نفسك أمام تصدّي المغرب الأقصى للشريط لأنّ محمّد شكري كاتب مغربيّ ولا يحقّ لغير المغرب أن يخرجه سينمائيّا مثلما أثار شريط ليلى المرّاكشي في المغرب زوبعة بحكم أنّ الشخصيات تستعمل اللغة البربريّة ونحن في المغرب دولة عربيّة. ومثل ذلك الرفض لا علاقة له بنوعيّة الشريط وطابعه الفنيّ. والأفراد المنحدرون من أصول بربريّة يقاطعون مهرجاننا رغم أنّ بعض الأفلام تعود إلى مخرجين من أصول بربريّة. المسألة في نظري تتعلّق بالأنا وبالصراعات الثقافية والإيديولوجية في البلدان العربية وعلى رأسها صراع الهوية.


إعلان