حوار مع عروة نيربية مدير مهرجان «سينما الواقع»

«صوت امرأة»، و«ملاحظات عن الحرب».. موضوعا «سينما الواقع» لهذا العام

بشار إبراهيم

 

 

عروة نيربية

 

على الرغم من أن انطلاقته الأولى في عالم السينما كانت من خلال بطولته لفيلم «باب الشمس» مع المخرج يسري نصر الله، إلا أنه لم يغادر همّه واهتمامه بصناعة السينما، وتحقيقها، وجسر علاقتها بالجمهور..
عروة نيربية، السينمائي الطموح الدؤوب، والمثقف بوضوح وعمق، وشريكته السينمائية الأنيقة ديانا جيردوية، وأحلام كبيرة، قد تبدأ من إطلاق مهرجان «سينما الواقع»، ولكنها لن تنتهي إلا مع إطلاق «واقع السينما» في سوريا، على الأقل..

كيف نشأت فكرة «سينما الواقع»؟..
نشأت الفكرة من داخل تجربتنا (ديانا الجيرودي، شريكتي والمخرجة التسجيلية، وأنا)، حيث مع انطلاق عملنا في إنتاج وتوزيع وعرض الأفلام التسجيلية، والذي كان فيلم ديانا «امرأة من دمشق» علامةً فارقةً فيه، تعرفنا أكثر فأكثر على السينما التسجيلية في العالم اليوم، على أفلام، وعلى مخرجين، ومهرجانات، وعلى شرط الإنتاج الدولي، على المنح الدولية المختصة، وعلى الانتاج الدولي المشترك.. وكان السؤال الحاضر أبداً هو غياب السينما التسجيلية في العالم العربي عموماً، وفي سوريا بشكل خاص. ثم تطورت الفكرة بالتعاون والتشاور مع العديد من السينمائيين المعنيين.
مثل غيرنا هنا.. انطلقنا كما فعل الجميع من سلبية وتشاؤمية إزاء القدرة على اختراق حصرية الانتاج السينمائي وضيق حاله في بلدنا، ثم بكل بساطة، اكتشفنا أن صناع السينما التسجيلية في كل أرجاء العالم يعانون صعوبات إنتاجية، وأن القدرة على العمل وإنتاج أفلام تسجيلية جيدة وطموحة لا تتوقف في أي بلد على شرطه المحلي وحسب.. لعلها من زاوية ما هي حال الإنتاج التلفزيوني نفسه، برغم الفوارق، إذ لم يكن ممكناً تطوير صناعة المسلسلات بالاتكاء على “سوقها” في سوريا فحسب!..
 الجانب الآخر لنشوء الفكرة أو للاحساس بضرورتها، هو تقديم “السينما التسجيلية” للجمهور في سوريا.. فهي تكاد تكون مجهولةً تماماً وتغطي على “السينما” فيها تلك الروائية حصرياً وعلى “التسجيلي” فيها ذاك التلفزيوني وحده.. السينما التسجيلية، بالمفردتين معاً، هي أقدم أجناس الإبداع السينمائي، وهي بالمقام الأول فن سينمائي منفتح البنية واللغة، وباحثٌ بطبيعته. هذه الرغبة كانت سبباً أساساً في العمل على إطلاق مهرجان يختص بهذا الجنس، هو دفاع عن مهنتنا وعمل على تطويرها وهي أيضاً رغبة في تقاسم المتعة السينمائية.. المختلفة!
لماذا «سينما الواقع»؟.. هل إيماناً بأهمية «السينما الوثائقية»، أم بضرورة تفعيل دور الشباب في إنجاز نوع آخر من السينما السورية؟..
كلا الأمرين معاً، ولا مجال لفصلهما. السينما التسجيلية (كما يحلو لنا أن ندعوها لنفرد لها مساحة مختلفة عن الأفلام والبرامج التلفزيونية الوثائقية)، هي مفتاح نؤمن به للتقدم السينمائي والاجتماعي، معاً. يدرُج كثيراً أن تُعدّ مرحلةً أولى في فيلموغرافيا المخرجين الشباب، يقول عمر أميرالاي عن هذه النظرة إلى التسجيلي: “يرونها ممسحةً أمام باب معبد السينما الروائية”، في حين أن العمل الجدي والمحترف على بناء فيلم سينمائي تسجيلي، لا يقل بأي حال من الاحوال، بل لعله يزيد، من حيث كونه تحدياً إبداعياً صعباً ومتطلباً. الفيلم السينمائي التسجيلي فيلم ذو بنية سردية، وسياق درامي، برغم أنه قائم على مواد مصورة من الواقع، هو عمل مضنٍ مليءٌ بالمفاجآت وغير قابل للضمان أو للتوقع، وهو محفوف بالمساءلات الأخلاقية العميقة. وهذا ما يسمح له بالتطور المستمر، ويجعل ما هو “سينما المؤلف” في التسجيلي حاضراً بقوة كبيرة وصامداً في وجه أغوال التوزيع والإنتاج.
ثمة أهمية تقدمية كبيرة كذلك، إذ أعتقد أن فقدان الذاكرة مرض شائع حول أرجاء العالم الثالث، وللعمل السينمائي القدرة على المساهمة هنا! له القدرة أيضاً على المساهمة في تطوير “نقد الذات”، وهو مفهوم كاد يفقد معناه عندنا، لكن ذلك لا يفقده أهميته الحضارية بأي حال.
يبقى أن السينما التسجيلية ليست سينما براقة، هي لا تصنع نجوماً ولا تحدد قوالب وأيقونات، هي لا تروج قصّة شعر، ولا تبيع بضائع، وبالتالي يكون أكبر أعلامها العالميين أبسط وأقرب وأشد تواضعاً من أصغر نجوم المسلسلات السورية… وهذا يدفعنا للإيمان بها!..
كما أنها من الناحية التقنية/ الاقتصادية صناعةٌ ممكنة!.. إذ برغم العديد من العوائق والمحددات الأخرى، يظل التحدي القائم في تمويل فيلم تسجيلي أبسط من ذاك الروائي!.. الفارق في الميزانيات هو واحد إلى عشرة بمعدله العام (وليس واحداً إلى مئة كما يشيع)!.. وهذا ليس أمراً ثانوياً. السينما التسجيلية قادرة على تقديم سوريا، المبدعين السوريين، الهموم السورية، المشاكل السورية، التجارب السورية، وعلى تطوير حضور دولي فعلي، وعلى المساهمة في تطوير سوريا أيضاً!.. وبدون أن ينظر إلى ذلك بوصفه مهمة هائلة من حيث تطلبها الاقتصادي.
لابد أخيراً من القول إن محدودية النظرة الرقابية مشكلة معوقة قائمة لدينا.. وأن تجاوز وتطوير العقلية الرقابية واجب لا مهرب منه.

كيف كانت الدورة الأولى من «سينما الواقع»؟.. هل حققت ما أردتم منها؟..
نظن أن الدورة الأولى كانت ناجحة بالعديد من المقاييس. أولاً كان الحضور جيداً جداً.. وبالذات بالنسبة لدورة أولى!.. عملنا على إجراء استبيانات ودراسات تقويمية متقاطعة لنتمكن من تشكيل رؤية أفضل لمستقبل المشروع. كانت النقطة السلبية الأساسية هي عدم وضوح توجه الندوات، هل كانت للمختصين أم للجمهور؟.. وأغلب المختصين الشباب هنا لا يحتملون مثل هذا الالتباس.. فما للجمهور ليس لهم!.. على عكس العديد من كبار المخرجين. نحاول تجاوز مثل هذه الالتباسات في الدورة الثانية..
هل حققنا ما أردنا منها؟!.. أظن نعم، لكن العمل الثقافي التطوعي في واقع الحال لا يفسح مجالاً للفرح بنتيجة الدورة الأولى، جلّ التركيز ينصب فورياً على السياق الاستراتيجي، على استمرار المهرجان، وعلى تطويره..
ما أبرز الصعوبات التي واجهتكم وأنتم تقيمون الدور الأولى؟.. وكيف تلافيتم هذه الصعوبات؟..
الصعوبة الأساسية هي غياب القوانين الناظمة للعمل الثقافي المستقل بشكل عام، ما لا يزودنا بآلية عمل واضحة من حيث التعامل مع مختلف الجهات الحكومية، وتحصيل الموافقات وما شابه. نقص الخبرة في العمل التطوعي وفي إدارة النشاطات الثقافية وفي عمل المهرجانات المستقلة كان صعوبةً كذلك، ونتلافاه بالتشاور والتعاون مع مهرجانات أخرى، وبمراكمة خبرة فريق المهرجان.
المحدوديات الرقابية مشكلة لا يمكن تجاوزها اليوم أيضاً، وإن كان على المرء أن يقول إن أيام سينما الواقع لم يتعرض لأي “مشاكل” رقابية، بل إن اللجان الرقابية كانت متعاونة تماماً، بل حريصة على نجاح التجربة.
سلبية المخرجين الشباب السوريين صعوبة جوهرية، يمكن للمرء أن يناقشها مطولاً.. لكن النقطة الأساسية التي يستشعرها المرء، حتى اليوم، هي أن أغلب الشباب السينمائي في سوريا اليوم يهاب فرص العمل الفعلية.. يرى نفسه أمام امتحان إثبات الذات بدل الاستمرار في الشكوى من مرارة الواقع وغياب الفرص.. وهذه في الأرجح مرحلة انتقالية لا مهرب منها. مثال ذلك أن يحصل مخرج شاب على فرصة اللقاء بمستشار دولي معروف، فيتأخر عن الموعد، أو أن يستغرب مخرج في أول الدرب أن عليه ملء استمارة المشاركة برغم أنه معروف.. مشاكل مثل هذه ستحتاج عملاً مطولاً كي نتجاوزها. وهي تفسر الإقبال الأوسع على التسجيل في ورشات العمل من العالم العربي، مقارنة بالإقبال من قبل الشباب السوري، برغم أن الشباب السوري يشكو باستمرار من غياب ورشات العمل التخصصية!.. وهذا يحيلنا إلى ضرورة إنشاء مدرسة سينما وطنية!..
ثمة صعوبات لا يمكننا تلافيها بالطبع!.. من ذلك مشكلة التمويل المحلي. عدم وجود نظام إعفاء ضريبي وطني، مثلاً، أسوةً بالعديد من دول العالم.. نظام كذلك قادر على دفع العمل الثقافي الوطني أشواطاً إلى الأمام، وهو يرفع جزءاً من المسؤولية، أو الواجب، عن كاهل مؤسسات الدولة. أي بإرساء قوانين تحذف (كلاً أو جزءاً) مساهمة شركة ما في تمويل نشاط للنفع العام (والثقافي منه!) من المستحقات الضريبية على الشركة.. قانون كهذا سيشجع الشركات السورية الرابحة على المساهمة مالياً في تمويل العمل الثقافي. لا نستطيع تجاوز هذه الصعوبة مثلاً..

ما الجديد في الدورة الثانية من «سينما الواقع»؟..
الجديد هو: ورشات العمل، ورشة للمخرجين الشباب بعنوان «كتابة الفيلم التسجيلي» وورشة للناقدات الشابات بعنوان «المرأة والسينما»، وعن هذه الورشة ستصدر نشرة المهرجان اليومية. الجديد أيضاً هو إفراد مساحةٍ للنشاطات التخصصية، التي سيكون حضورها محصوراً بالمختصين المسجلين مسبقاً، حيث نقيم حدثاً أساسياً هو «لقاء المنح والمهرجانات»، يحضره العديد من ممثلي المنح والمهرجانات العربية والدولية، فيقدمون مؤسساتهم وشروطهم وآليات عملهم للسينمائيين العرب، ويتعرفون بالمقابل على أفلامهم ومشاريع أفلامهم، ويقوم المهرجان بعد ذلك بتنسيق جلسات استشارات فردية لمن يحتاج من السينمائيين العرب.
الجديد في برنامج العروض هو توسيع المهرجان ليشغل صالتين في دمشق، لثمانية أيام، وصالة في كل من حمص وطرطوس، لأربعة أيام. بالإضافة إلى تقسيم البرنامج إلى عدة تظاهرات هي: المختارات الرسمية، وهي تتنافس على جائزة الجمهور (الجائزة الوحيدة لأيام سينما الواقع DOX BOX)، ثم تظاهرة روائع المهرجانات، تظاهرة لقاء مع مخرج، التي يتلو عروضها لقاء مفتوح مع أحد مشاهير السينما التسجيلية العالمية، ثم تظاهرتان موسعتان تدور مختارات كل منهما حول موضوعة اجتماعية سياسية، والموضوعتان لهذا العام هما «صوت امرأة» و«ملاحظات عن الحرب»، تتلو عروض كل من التظاهرتين ندوة عن الموضوع.

ما هي أبرز المشاركات الموعودة في الدورة الثانية من «سينما الواقع»؟..
ضيوف الشرف إن صح التعبير لهذا العام هم المخرجة المغربية-الهولندية المخضرمة فاطمة جبلي وزاني التي غاب اسمها عن ساحة العروض السينمائية في العالم العربي برغم ما لها عالمياً من حضور. فيلم الافتتاح سيكون «ولو في الصين» وهو عمل سينمائي تسجيلي رفيع للمخرج الجزائري مالك بن اسماعيل، الذي أثبت حضوره كواحد من أهم الأسماء اليوم، وسيكون مالك حاضراً.
 

 

المخرج الفرنسي نيكولا فليبير

المخرج الفرنسي الكبير نيكولا فيليبير ضيف تظاهرة «لقاء مع مخرج»، والذي عرض فيلمه الأشهر «أن أكون وأن أملك» العام الماضي في الدورة الأولى من أيام سينما الواقع. ستعرض مجموعة من أفلام فيليبير وسيقام لقاء مفتوح معه يتحدث فيه عن تجربته الطويلة ويجيب على أسئلة السينمائيين والمهتمين. من المشاركات الهامة أيضاً مشاركة مخرجين شباب ومخضرمين من سوريا ولبنان، فلسطين، الولايات المتحدة، روسيا، سويسرا، الدنمارك، ألمانيا وبريطانيا.. وسواها.. بالإضافة إلى مشاركة ممثلي المهرجانات والمنح والتي سيعلن عنها خلال أيام.

 

الفيلم الجزائري “ولو في الصين”

إلى أين يمكن أن تصل فكرة «سينما الواقع»؟..
ثمة اتجاهان في تطور المهرجان.. أحدهما أسرع من الآخر..
الأول، الأبطأ حكماً، هو الوصول إلى تكريس المهرجان منصة اتصال بين التسجيليين العرب، وبينهم وبين البيئة التسجيلية الدولية.. وبالتالي المساهمة في تنمية البيئة الانتاجية العربية نوعاً وكماً.
الاتجاه الثاني، هو تعميم الاستفادة من الجهد التنظيمي والتمويلي السنوي للمهرجان، إذ نؤمن بأن العمل المضني لتحضير المهرجان كل سنة، بما في ذلك انتقاء الأفلام وجمع وتحرير المعلومات والحصول على أذون العرض وعلى عناوين السينمائيين وتطوير العلاقات معهم، بالإضافة إلى النقطة الأهم وهي ترجمة جميع أفلام المهرجان إلى العربية، بما في كل ذلك من جهد وتكاليف، تجعل من حصر المهرجان بمدنه الحالية الثلاث قصوراً إن لم نقل عيباً.. ولذا نطمح لإضافة مدن سورية  أخرى، بل ولإضافة مدن عربية أيضا.. من هنا أتى اسم المهرجان بالانكليزية DOX BOX حيث هو بطبيعته مهرجان رحّال. التعاون العربي بين المؤسسات الثقافية غير الربحية ممكن تماماً، فمؤسسات مثل سينما متروبوليس ببيروت، سينماتيك طنجة بالمغرب، مسرح البلد بعمان، جمعية كريزاليد بالجزائر والعديد سواها، هي مؤسسات مثيرة للإعجاب، جميعها قامت على مبادرات مستقلة، وعلى امكانيات شحيحة، وكل منها يقدم اليوم نشاطات ثقافية ممتازة.. أيام سينما الواقع يعتزم بكل جدية التعاون مع هذه المؤسسات بحيث يحل ضيفاً عليها، ويدعو أية مؤسسات عربية أخرى مهتمة للتعاون كذلك.


إعلان