حوار مع أنيس الأسود مخرج “المعارض”

يقدم المخرج أنيس الأسود عملا توثيقيا جديدا خاصا بالثورة التونسية يحمل عنوان “المعارض” انطلاقا من مسيرة محمد الطاهر الخضراوي في بعدها العميق من الناحية الإنسانية ومن الناحية السياسية، حيث سعى الأسود إلى تتبع تحركات الخضراوي منذ اندلاع الثورة في ديسمبر / كانون الأول وإلى غاية انتخابات 23 أكتوبر / تشرين الأول وفشل حزبه فيها.
وسبق للأسود أن أنجز عددا هاما من الأعمال السينمائية منها الوثائقي ومنها الروائي حيث انطلقت رحلته مع الكاميرا بشريط وثائقي يحمل عنوان “عرائس السكر بنابل” ليقدم بعده عددا من الأعمال منها الروائي حيث أنجز “صابة فلوس” نال عنه عديد الجوائز في تونس وخارجها… ثمّ تتالت أعماله وبدأ يصنع بصمته الخاصة به في عالم السينما وهو الذي يسعى لتقديم أعمال مغايرة تقطع مع السائد.

“المعارض” عمل توثيقي بامتياز، وباعتماد شخصية حقيقية تتبعتَ من خلالها الشرارة الأولى للثورة وحتى “نكسة” الأحزاب “التقدمية” في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي؟ لماذا هذه الشخصية بالذات؟
ما شد انتباهنا في شخصية محمد الطاهر الخضراوي هو بعدها العميق من الناحية الإنسانية ومن الناحية السياسية. فبخصوص البعد الإنساني، كثيرا ما نلتقي أسماء تمر بنا مر الكرام ولكن قليلا ما نلتقي أسماء تستوقفنا? تجذبنا وترمينا بين طيات قصة أصحابها. والطاهر الخضراوي طاهر القلب? وفيّ لمبادئ الحق والعدالة والإنصاف التي تفتحت عليها عينيه وشب عليها بين أركان بيت عتيق ومقاعد دراسة “بورقيبية”…خضراوي الغصن? من خضر ربوع الوطن تونس وخضر هضاب الموطن في عمق البلد، القصرين… خضراوي الجذور كذلك? من أب مناضل وجدّ مناضل? قد قاوما المستعمر الفرنسي حتى الموت وتركا للابن العبرة والتاريخ وطريقا منيرة… الطاهر الخضراوي، معارض…
قلت معارضة ؟؟؟  لقد جرّنا الاسم إذن إلى قصة.
ومع الطاهر الخضراوي أردنا معرفة كيف يصبح الواحد منّا معارضا؟ كيف يتجاوز خط اللون الواحد، الرأي الواحد? النظام الواحد ويلتحق بصف المخالفين والمعارضين والمتصدين؟ هل أن المعارضة حس تكتسبه الشخصية فجأة أثناء حادث يتعرض فيه الشخص إلى الظلم والقهر أو تدريجيا لمعاناة الفرد من ظروف عيش وتجارب حياة صعبة؟ أم هل أن المعارضة حس طبيعي، يتمتع به كل الناس لكن البعض يقوم بوأده في حين يقوم آخرون بتطويره ويعملون على بلورته في الواقع ؟
لماذا أصبح الطاهر الخضراوي معارضا؟ لماذا قال “لا” لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم؟ هل هي مقالات الصحف التونسية الموالية للحزب الحاكم التي استفزت شعوره الوطني ؟ هل لأنه التحق في أواخر الثمانينات بمقاعد الجامعة العراقية حيث تحصل على شهادة في علم الكيمياء ورجع بأخرى عن سقوط بلد وشعب عربي عريق ضحية لأطماع أطراف خارجية جشعة؟ أم هل هي مقابلة الرئيس السابق زين العابدين بن علي في قصر الرئاسة بقرطاج. بمناسبة حصوله على جائزة أحسن مشروع رئاسي ممول من قبل البنك التونسي للتضامن في إطار عملية سياسية تزويقية بحتة؟ هل لأن ذلك المشروع قد أُفشل بفعل فاعل من القصر لأن الطاهر قد أبرز بعفوية وجهه المشاكس، الطموح، المعارض، “الثائر”؟

 

 

محمد الطاهر الخضراوي

وما الرسالة التي تريد أن توصلها للمتلقي من خلال تتبعك لتحركاتها وتوثيقك لتاريخها؟
أمّا بخصوص البعد السياسي، فقد أردنا مع الطاهر الخضراوي أن نسلط الضوء عن شخصية المعارض التونسي ومن خلاله المعارض العربي في بلاد عربية بدأت تتمخض من شرقها إلى غربها مظاهرات واعتصامات وانتفاضات شعبية ومعارضة حية من أجل إرساء مبادئ الحرية والديمقراطية.
تابعنا الطاهر الخضراوي السياسي منذ بداية الثورة التونسية إلى غاية تنظيم انتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر/ تشرين الاول 2011. كان له موعد مع المستقبل.  تمت المقابلة في أحسن الظروف وجاءت النتائج بفشل حزبه في الانتخابات. لكن لا تهمّ النتيجة بقدر ما تهم الطريق المقطوعة. اتباع الطاهر الخضراوي في كواليس السياسة مكننا من التعرف على طريقة عمل  الأحزاب التونسية حديثة العهد بممارسة اللعبة السياسية باعتبار إقصائها التام في السابق من المشاركة في السلطة. مهما كانت النتيجة ومهما كان الفائز من اليمين أو من اليسار، نهضاوي أو تقدمي أو وسطي، نتائج الانتخابات حققت فوزا كبيرا للجميع وهو حق المواطن في الانتخاب في إطار انتخابات حرة ونزيهة. ولكن الطاهر الخضراوي ترك خلف حكايته السؤال الأهم: هل ستتم المحافظة على هذا الحق؟  
ثمّ هل أن السلطة المنتخبة اليوم أو غدا،بطموحها وجموحها وهشاشة تجربتها، ستحترم هذا الحق ومن ورائه الحق في المعارضة؟ هل أن السلطة ستدفع المعارضة  إلى الأمام وتمكنها من ممارسة العمل الحزبي واكتساب التقنيات الحقيقية لهذا العمل فتخرج من ثوبها الصوري لترتاد حلة المعارض الفاعل والمساهم في اللعبة الديمقراطية؟
قطعنا مع الطاهر مرحلة من طريق الديمقراطية في تونس وصلنا معه في نهايتها إلى مفترق الطرقات. فهل أننا سنتقدم أم هل أننا سنتراجع؟ هذه المرحلة من تاريخ تونس قمنا بتوثق أعماقها وتعقيداتها وخفاياها حتى تكون شهادة لنا وعلينا.

 

 

نلاحظ انك توثق للثورة بشكل مغاير عما تابعناه منذ 14 يناير لليوم، أي انك لم تعتمد ما حدث في المدن والقرى التونسية من مظاهرات ومسيرات وغير ذلك، بمعنى آخر أنت لم تقم بعمل تسجيلي، بل رأيت أن تغامر بأن توثق للصورة من منظور أحد المعارضين السياسيين؟
لقد فجرت الثورة التونسية طوفانا من الصور والألوان والأصوات العنيفة. وهذا كان ملائما جدا، لالتقاط أو الظفر ببعض اللحظات التاريخية، وفي جميع المجالات الإبداعية (القلم، الكاميرا، الغناء، الرسم، الغرافيتي…) الجميع خرج للشارع مبهورا ومحاصرا بما صنعته الثورة من إثارة.

 

 

أنيس السود وشيماء بن شعبان

يوم 25 يناير 2011 التقيت  بمساعدتي وشريكتي في التفكير والكتابة  شيماء بن شعبان وهي بالمناسبة كاتبة مسرح وسينما، وقررنا أن ننزل نحن أيضا للشارع ولكن ليس لشوارع العاصمة وإنما شوارع سيدي بوزيد والقصرين وسليانة معقل الثورة أين حدث كل شيء، هناك أين اندلعت الشرارات الأولى للثورة الشعبية، ذهبنا إلى هناك بفكرة واحدة لسيناريو فيلم، أو ربما كنّا حذرين ألاّ نقع في الإثارة وأن نبتعد عن القيام بما فعله غيرنا أي ألاّ يكون عملنا مشابها أو مطابقا لما يتمّ إنجازه.
كنّا هناك في شوارع تلك المدن، تحدثنا للشباب، للشيوخ وللأطفال، تحدثنا للمتظاهرين الغاضبين وإلى العاطلين وللنساء العاملات… ولكن في لحظة وضعنا القدر أمام موعد مع التاريخ حين التقينا محمد الطاهر الخضراوي في قلب مدينة القصرين. احتسينا قهوة معا ثم غادرنا، ونحن متأكدون أننا حصلنا على السيناريو الذي نبحث عنه، لقد كان ذلك واضحا جدا.
“المعارض” كان هنا، مقاربتنا للفيلم كانت تقريبا هنا، كنا نريد صناعة شريط وثائقي يكون وثيقة تاريخية حية أي أن يكون جزءا من الأرشيف. إذن كان واضحا منذ البداية تلك الرغبة في تقديم سيناريو مغاير، عملية توثيق حقيقية، مع المحافظة على جزء من تاريخ الثورة التونسية.

 

 

من “صابة فلوس” حتى “صباط العيد” عملان روائيان في 6 سنوات، وبالمقابل عدد هام من الأعمال الوثائقية،  هل يعود ذلك لمشاكل إنتاجية أم أنك تميل أكثر لصناعة الأفلام الوثائقية؟
لا يوجد فرق بالنسبة لي في تعاملي مع الصورة بين الأعمال الروائية والأعمال الوثائقية وحتى الصور المتحركة لأن طبيعة الموضوع الذي أطرحه والذي يفرض علي نفسه هو الذي يوجهني نحو هذا النوع من الكتابة السينمائية أو ذاك. أسعى في تعاملي مع الفلم الروائي إلى ترجمة “واقعية” شخصيات العمل من الناحية النفسية والاجتماعية وحتى التاريخية أكثر ما يمكن وفي أفلامي الوثائقية أنطلق دائما من واقع الشخصيات والموضوع المطروح ولكني أحاول أن أغوص في أبعادها الذاتية إلى أقصى حد لدرجة الوصول إلى بعدها الموضوعي، الإنساني والروائي. إذن ليس لي ميول خاصة إلى الأعمال الوثائقية ولكن ربما تكون خصوصية الوضع الاجتماعي والسياسي في تونس هي التي جعلتني أختار هذه الكتابة التسجيلية بالنسبة إلى فيلم “المعارض” لدقة وآنية وقوة الصورة من جهة ولأهميتها في توثيق تاريخ الثورة التونسية من جهة أخرى. 

إذن ثمّة مشاكل أخرى أمام الإنتاج السينمائي في تونس؟                                                                                                                               
لكن هذا لا يمنع أنني ربما أؤجل أحيانا التوجه إلى العمل الروائي لمعاناة قطاع الإنتاج السينمائي في تونس من مشاكل كبيرة وكبيرة جدا تجعل إنجاز الأفلام من قبيل المغامرة والمجازفة وتضيق الكثير من مجال الخلق والإبداع باعتبار حاجة العمل إلى إمكانيات أكثر، مادية وتقنية تفتقر إليها اليوم السينما التونسية ربما أكثر من الماضي لتردي أوضاعها وهذا يعود إلى أسباب متعددة ومترابطة في الحقيقة تعود فيها المسؤولية إلى المنتجين وتردي مستوى التقنيين لضعف التكوين السينمائي ومشكلة توزيع الأفلام وأزمة غلق قاعات السينما وافتقاد وزارة الثقافة لرؤية بناءة ومتكاملة للقطاع لا تتوقف عند “ظروف الدعم”. كل هذه الظروف عشتها مع تجربة فيلم “صابة فلوس” ولا أزال أعيشها اليوم مع فيلمي الروائي الجديد “صباط العيد” المفترض إنهائه في مارس 2012.  ففي هذا الفيلم مثلا، ولترجمة الحلم رأيت استعمال الصور المتحركة D2 في بعض المشاهد ولكن قلة تجربة التقنيين في هذا المجال في تونس جعلت انجاز هذه الصور يأخذ العديد من الأشهر في حين أن صناعة هذه الصور أصبحت في العديد من الدول الأخرى أمرا متداولا سريع الانجاز! 

وهل عدلت عن فكرة إنجاز الشريط؟                 
لا طبعا، هذا لن يثني عزمي عن انجاز أفلام روائية، وأنا فعلا بصدد العمل على سيناريو لشريط سينمائي طويل سأقوم بتقديمه في غضون السنة الحالية، كما أن الأمل في إصلاح قطاع السينما والعمل على ذلك مع زملائي السينمائيين لا يزال قائما ولقد قمنا بالفعل بالخطوات الأولى في هذا الاتجاه من خلال إنشاء المركز الوطني للسينما والصورة ولكن هذا يبقى غير كاف والإصلاحات التفصيلية لابدّ أن تتواصل ولا تبقى مجرد إعلانات عابرة عن نوايا حسنة.                            
                                                       
قدمت أعمالا خاصة بـ “الجزيرة وثائقية” تتسم بغوصها في عمق الذات البشرية، ولكن أين الخصوصية التونسية في أعمالك؟
في كل أفلامي لا أفكر بالمرة في الخصوصية التونسية ولا الصورة الحقيقية لتونس بل إنني أبحث عن الإنسان وتجربة الإنسان. لذلك لم أقتصر في أعمالي الوثائقية والروائية على التصوير في تونس وإنما حملت أفكاري وكاميرا التصوير ورحت أسجل الواقع والوقائع حول هذه الشخصية أو تلك في بيئات متنوعة، في جبال “حراز” باليمن، في بوابة الصحراء الجزائرية “بسكرة”، في القرى التونسية الصغيرة، في جنوب ايطاليا وفي جزر موريتانيا وغيرها وذلك سعيا مني لتذليل فارق الجهل بالآخر، لتغليب التعرف عليه في خصوصياته كفرد وفي عالميته كانسان.

 

 

أثناء تصوير “المعارض”

 تأسيسك وإشرافك على “ليالي السينما بنابل” والذي تحول إلى مهرجان مغاربي للسينما، هل يتنزل في إطار رغبتك في حضور دائم للسينما خارج مركزية العاصمة، أم ثمة غايات أخرى؟
تجدر الإشارة أولا إلى أنّ الانطلاقة كانت بتأسيسي لجمعية “أحباء السينما بنابل” سنة 2005 وهي التي قامت من جملة أنشطتها السينمائية، ببعث مهرجان “ليالي السينما بنابل” الذي انعقد في دورته الأولى سنة 2006. وانطلق تأسيس هذا المهرجان من إيماني بضرورة العطاء لمدينتي ولأهالي مدينتي “نابل” في إطار العمل الجمعياتي والعطاء لفائدة المصلحة العامة ككل من خلال إحياء ونشر الثقافة السينمائية التي تقلصت تماما في الجهة وفي تونس ككل. وأريد هنا توضيح أن هذا الحس بضرورة العمل لفائدة المجموعة قد تولد عندي في السنوات الأخيرة خاصة بعد ذهابي إلى اليابان سنة 2004 حيث عشت قرابة النصف سنة بمناسبة تصويري لفيلمي الوثائقي “المنطاد”، أين رأيت أن الجميع ينشط، إلى جانب عمله الخاص داخل جمعية، لان ذلك يمثل لديهم كما قيل لي واجبا، فإن كان الواحد يهب كل الوقت لنفسه فكيف لا يهب الياباني بعض الساعات من العمل التطوعي! رأيت وسمعت ذلك وانبهرت وقررت منذ رجوعي إلى تونس أن أعطي بدوري القليل لنابل ولتونس. كما أن الهدف من بعث مهرجان سينمائي بنابل له أهداف مهنية إذ أنه يمثل إطارا جديدا نسعى من خلاله  إلى التعريف بالتجارب السينمائية المغاربية وكذلك العالمية وإلى خلق سوق للأفلام والسينمائيين المغاربة بالخصوص لإيجاد قنوات جديدة للتوزيع باعتبار أن القطاع يشكو في كل هذه البلدان من مشاكل التوزيع التي تؤدي إلى الانغلاق وتقلص حجم الأفلام المنتجة.
مهرجان “ليالي السينما بنابل”  قد اتخذ منذ دورته الثالثة، التي تم تنظيمها من 07 إلى 11 سبتمبر 2011، وجهته أو صيغته النهائية وهي الصيغة المغاربية فأصبح يسمى من هنا فصاعدا “مهرجان الفلم المغاربي بنابل”. هذا المهرجان يقوم بالإشراف على تنظيمه الثنائي أنيس الأسود بوصفه المدير الفني للمهرجان وشامة بن شعبان بوصفها الأمينة العامة للمهرجان. وهذا المهرجان ينتظم بنابل وموجه إلى أهالي نابل ولكنه ليس مجرد مهرجان جهوي بل هو مهرجان تونسي، إقليمي (المغرب الكبير) ومنفتح على سينما العالم.

 

 

وهل حقق المهرجان غاياته التي رسمت له؟                                                                          
الدورة الثالثة للمهرجان حققت نجاحا كبيرا وتركت انطباعا جيدا جدا لدى الجمهور ولدى النقاد والسينمائيين التونسيين والمغاربيين والأوربيين. “مهرجان الفلم المغاربي بنابل” فرض نفسه على ساحة المهرجانات السينمائية وقد مكن بالفعل بالرغم من صغر سنه من إعطاء فرص تبادل أدت إلى تجارب عمل حقيقية سواء بخصوص الإنتاج المشترك أو توزيع الأفلام بالمهرجانات المغاربية أو العالمية. وبالمناسبة الدورة القادمة “لمهرجان الفلم المغاربي بنابل” ستنعقد في شهر أكتوبر / تشرين الأول 2012.                                                     


إعلان