حوار مع خليل مزين مخرج “مونولوجات من غزة”..

خليل مزين مخرج فلسطيني خريج المدرسة السينمائية الروسية.. كان مروره عبر مهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية مميزا حيث تم افتتاح المهرجان بفيلمه القصير “منولوجات من غزة” وتحصل بهذا الفيلم على جائزة الجزيرة للحريات وحقوق الإنسان.. خليل له جنونه السينمائي الجميل الذي يخط به طريقه ويريد الذهاب بعيدا في الإبداع… نحاول أن نتعرف عليه في الحوار التالي..

مونولوجات من غزة في النهاية هي مونولوغ خليل المزين أليس كذلك ؟ باعتبارك أنت أيضا جزء من الواقع في غزة وباعتبارك فنانا أيضا ؟؟
لا اعتقد انه مونولوجي الشخصي فحسب بل هو مونولوج كل الناس الذين عاشوا سنوات الاحتلال الطويل في فلسطين وغزة تحديد حيث أقطن، فوحشية الحرب الأخيرة خلقت لدي تجربة غير عادية على صعيد الصوت والصورة حيث المشاهد التي علقت بذاكرتي هي اكثرها سريالية تتحرك بفعل أصوات الانفجرات العشوائية التي تشظت في المساحات المكتظة الضيقة والمنعزلة والمحملة بالأصوات وآلام الناس المشروخة، وكان أكثرها خوفاً عندما يتلاشى الضوء ونغوص في العتمة نبحث عن وجوهنا وأولادنا في مسافات ضوء صناعي، ونخاف ونتألم ولا نبكي، ننام ونتمنى ان لا نفيق، وهكذا تتزاحم المشاهد مليئة بالدهشة والمفاجأة والمفارقة وكل ما هو مشوق ومميت وتراجيدي كأي فيلم لكننا كنا ننتظر ساعة الخلاص أن تنتهي، ولأننا لم نمت في الليلة السابقة علينا الاستعداد لليلة أخري ربما سيمنحنا الله فيها وقتاً جديداً..
 وانتهت الحرب وخرجنا أحياء مصادفةً لكننا لم نسلم من مخزون الموت المكدس في رؤوسنا والذي خُبِّئت فيه ملايين المشاهد المؤلمة تغلفها أصوات غريبة وعجيبة دائرية دائماً لا تزال حتي اللحظة تزن كما الطائرة في رؤوسنا .
فكل هذا المخزون المكدس في رأسي يجعلني أحياناً عاجزا عن ترجمته في فيلم خشية أن يكون سطحياً لا يعبر عن تلك الفانتازيا الجديدة التي تفنن صانعوها بكيفية إخراجها في فضاء لتكون مدهشة لمن يراها ومع ذلك حاولت ترجمة كل ذلك في فيلم (رسل الحقيقة ) وهو وثائقي متوسط والذي يتحدث عن دور الصحفي كرسول في تغطية الحرب على غزة وأيضاً فيلم مونولوجات غزة الذي جاء مختلفاً من خلال ربط المسرح بالوثيقة وهي حرب غزة تتجسد من خلال أطفال علي خشبة المسرح يروون قصتهم ومعاناتهم عن الحرب الاخيرة.

أنت صورت تجربة مسرحية متعددة الوظائف والأبعاد (فنية، نفسية، اجتماعية..) وجعلت منها فيلما وثائقيا أي عملا إبداعيا ألا يطرح سؤالا: من كان عالة على الآخر المسرح أم الوثائقي؟؟

في البداية لم يكن سهلاً علي أن اترجم فكرة  مونولوجات غزة المسرحية في فيلم وثائقي لأنني كنت اخشي من ان يقتل المسرح الوثيقة او تصبح الوثيقة عبئاً على المسرح وفي هاتين الحالتين مشكلة كبيرة لأن كلا من المسرح والفيلم الوثائقي له عالمه الخاص ولكن ما الحل؟
هل بإمكاني أن أقوم بتصوير الاطفال على خشبة المسرح عندما تحدثوا عن معاناتهم في مونولوجات دون تصرف أم أقوم باختزال المسرح والحديث مباشرة عن معاناتهم في الحرب من خلال استخدام الأرشيف وصور الحرب والابتعاد عن المسرح تماماً ام ماذا ؟؟
ولكن في النهاية قررت المزج بين هذين العالمين المسرح والوثائقي خاصة وانهما يستمدان روحهما من الواقع ومن الحياة فقمت باستخدام اداة المسرح التي استخدمها الاطفال لإيصال فكرتي وهي الحديث عن بشاعة واثر الحرب الاخيرة على المجتمع الفلسطيني، فكان الانتقال ما بين المسرح والحياة من لقطات خاطفة وسريعة من خشبة المسرح إلى الشارع والازقة وبالعكس يصحبها صوت يمزج ما بين روح المسرح والحياة حتي تكاد أن لا ترى فصلا حادا ما بينهما متكاملين تماماً ( النص المسرحي والوثيقة والحياة )
 
ما المقصود من الفيلم هل هو المونولوغ باعتباره هذا الخليط من ضجيج الذات واعترافها وضعفها وانتصارها من خلال شخصيات فيلمك… أم المقصود هو مونولوغ غزة كأرض مفردة وذات رمزية مكتظة بكل شيء..

اعتقد انه ليس من الممكن فصل الذات عن الموضوع في هذه الحالة، فالمونولوج جاء ليترجم ذات الانسان المرتبطة بالواقع وأحياناً أخري يختزل الواقع بجملة (غزة علبة كبريت ونحن العيدان إلى بداخلها ) وهذا كناية عن ضيق المكان والاختناق والمعاناة الجماعية للغزيين، وهذا المزج ما بين الاثنين أعطي رمزية ما في الفيلم من خلال تفاصيل صغيرة اشتبكت مع جزيئات المسرح والحياة لذلك جاء الرمز قوياً دون إسقاطه أو افتعاله فنراه قد سقط من ذاته ودون تحميله اكثر مما يحتمل في واقعين مختلفين ومتناقضين إلى حد كبير خشبة مسرح ثابتة وشارع ميت وإضاءتهما الخافتة المعدومة إلى حد ما جعلهما في حالة تكاملية ويبقي الكلام سيد الموقف.
اذن مونولوج غزة هو أرض مفردة وذات رمزية مكتظة كما الشوارع كما الطرقات كما السماء المزدحمة بالطائرات كما الاصوات كما وجوه الناس كما كل شيء .

لم تلتزم بكادر معين للقطة أحيانا يتسع المجال وأحيانا يضيق رغم أن كل أمكنتك منغلقة (باستثناء البحر في آخر الفيلم) هل هذا اختيار أم هي طبيعة الموضوع وطبيعة النفسية الغزاوية ؟؟
كان لاختيار اللقطات الضيقة الغير مفتوحة والمعتمة رمزية عالية للتعبير عن ضيق الحياة وقلة الفراغ الذي يعيشه الناس في المكان فغزة بطبيعتها الجغرافية تعد من الأماكن الاكثر كثافة سكانية في العالم ومتنفسها الوحيد وبدون قيود وليس كل الاوقات هو البحر لذلك كان للبحر في نهاية الفيلم مدلول قوي ورمزية عالية تدل على أنه رغم ضيق المكان وقلة الفراغ وكثرة المعاناة إلا ان هناك حياة من الممكن ان نعيشها كما جاءت في الأغنية ( كاميليا جبران – أهل الشاطئ الآخر ) لتعزز ما أردت أن أقول أن كثرة المعاناة تخلق ثقافة جديدة لكيفية التشبث بالحياة.

مفهوم الموت كان حاضرا ولكنه كان موتا عاجزا على قتل أصحاب المونولوجات وعاشوا كي يسخروا من الموت على خشبة المسرح وهو موت عجز على قتلك أيضا كإنسان وكفنان..
أن تعيش في غزة عليك ان تتوقع كل شيء حتي الموت المباغت، إذن تحت هذا الشعار عشنا وعاش هؤلاء الأطفال ولكنهم نجوا لكي يسخروا من هذا الشعار من خلال كلمات كتبوها ليعبروا بها عن حياتهم بعد حرب بشعة عاشوها كقول أحدهم ( الحرب خلصت ولكن بعدها موجودة براسي ) وآخر ( يا سلام علي غزة واحلام غزة صار الواحد نفسوا يموت موتة حلوة مش يعيش عيشة حلوة )
فهذه السخرية المطلقة في التعبير عن الموت لها دلالتها الكبيرة على أننا شعب رغم كل معاناته الا انه لازال يحب الحياة وكما قال شاعرنا الكبير محمود درويش ( على هذه الارض ما يستحق الحياة )

أنت من جيل الشباب الجديد في السينما الفلسطينية وخاصة الوثائقية ما هي إضافات هذا الجيل في رأيك ؟؟
في السنوات الأخيرة شهدت الساحة الفنية الفلسطينية وخاصة في مجال صناعة الافلام تغيراً ملحوظاً في كم الافلام المنتجة سواء كانت بإنتاج فلسطيني او بتمويل أجنبي فإننا نرى تغيراً واضحاً وملموساً على صعيد الشكل والمضمون فهناك البعض يحاول الخروج بل وكسر الصورة النمطية المعروفة للفنان الفلسطيني وآخرون لازالوا خاضعين لأيديولوجيا وأفكار تؤثر على ترجمتهم لواقعهم ولكننا في كل الأحوال إذا أردنا تقييم المرحلة الاخيرة وخاصة على صعيد الفيلم الوثائقي تحديداً في غزة نجد هناك تحسن كبير طرأ على نوعية الأفلام وشكلها الفني فمن المعروف أن غزة هي أكثر المناطق في العالم الغنية بالأحداث والصراعات وهذا جعل الجميع يفكر كثيراً في كيفية نقل هذه الاحداث بفيلم مختلف بعيداً عن الاخبار أو الروبورتاجات التي تنقلها قنوات التلفزات العالمية عما يدور في غزة
 فالمهمة تكون أصعب وبحاجة إلى أن تروي وتفكير وثقافة لكي يخرج العمل بشكل وصورة ومضمون جديد بالإضافة الي مشاكل التمويل التي يواجهها المخرج وقلة الحريات .

لكن الصورة النمطية عن المبدع الفلسطيني أنه فنان القضية، هو الفدائي وسلاحه الفن؟؟ يعني التقييم الإيديولوجي مقدم على التقييم الجمالي ؟؟ هل تنطبق عليك هذه الصورة أو هل ترتاح لهذا التقييم…

بوستر غزة.. فيلم روائي جديد لخليل مزين

يجد الوثائقي ضالته في الحياة والناس ويتجلى عندما يستطيع أن يعبر عن عالمهم وأحلامهم وبحرية وبدون إيديولوجيا أو فكر معقد يحد من حريته في الاختيار والتعبير بشكل أوسع فيها البعد الانساني العالمي يغلب على البعد الوطني المحلي وأنا شخصياً أعترف بأن الهم الوطني الفلسطيني موجود في أعمال كل الفلسطينيين بشتي أعمالهم الفنية ولكن التعبير عنها يختلف من شخص إلي اخر وهذا طبيعي واعتقد ان هناك فلسطينيون تجاوزوا هذه المسألة وصنعوا أعمالاً فنية وافلاماً تجاوزت الإيديولوجيا والصورة النمطية للمبدع الفلسطيني في التعبير عن قضيته
ولكن أحياناً كثيرة نجد تشابكا بين ما يحمله الفنان من أفكار وإيديولوجيا وهم وطني وما بين الواقع المعاش الذي يريد ان يعبر عنه الفنان في عمله، فهذه العلاقة إن لم تكن محسوبة جيداً ستؤثر بشكل سلبي على العمل في جميع المستويات وأنا أعتقد أن الفنان لو تحرر من هذا العبء الايديولوجي سيصبح اكثر قدرة على التعبير عن الواقع
والي الآن وانا اسعى من اجل الخروج من هذه النمطية الي مساحة أجد فيها مكاناً للتعبير بحرية ودون أعباء إيديولوجية أو وطنية مع اهمية المحافظة علي روحها الفلسطينية في إطار معالجة فينة مختلفة على صعيد الصورة والصوت وبدون أي تطرف وهذا يحتاج إلى ثقافة أوسع وحرية مجتمعية أكثر .

ماذا تعني لك هذه الجائزة وخاصة أنك تسلمتها من المنصف المرزوقي أول رئيس عربي منتخب وهو مثقف ومفكر وحقوقي ؟؟
كانت الجائزة بالنسبة لي حملاً ثقيلاً ومسؤولية اكثر ثقلاً رميت علي كاهلي والتي ستضعني أمام تفكير دائم في كل لحظة سوف أقدم فيها على صنع عمل فني جديد، وبالنسبة لي حين تسلمت الجائزة من الرئيس التونسي المنصف المرزوقي والذي انا وبصدق من اشد المعجبين به وخاصة انه اول رئيس منتخب وبديمقراطية بعد الربيع العربي وكان يشرفني وبشدة مشاهدته والاستماع اليه عبر قنوات التلفزة  وهو يدافع عن حقوق الانسان والحريات وكذلك هو شخص متنوع المعرفة والثقافة واجمل ما فيه احترامه للإنسان كانسان بغض النظر عن فكره ومعتقداته وغير ذلك احببته لأنه شخص بسيط غير متكلف، لذلك ان يكرمني شخص بهذه القامة هذا بحد ذاته شرف عظيم لي ويمنحني القوة والكثير من المسؤولية امام أي عمل فني قادم

هل لديك مشاريع آتية (وثائقي أو روائي)
أنا الآن أقوم بالتحضير لفيلم روائي طويل بعنوان “بوم” والذي يتحدث عن حياة الناس في مخيمات اللاجئين من خلال فني صوت يقوم بالتصنت على بيوت الناس وتسجيل قصصهم وأحاديثهم بالإضافة الي مشروع ( نادي لاما السينمائي ) الذي أقوم برفقة مجموعة من الفنانين بالتجهيز له والبحث عن جهات تكون حاضنة لهذا النادي باعتباره اول نادي سينمائي يفتتح في غزة بعد تدمير دور العرض السينمائي في الثمانينات …

 


إعلان