حوار مع المخرج التونسي الحبيب المستيري
إنشاء صناديق لدعم الشريط الوثائقي يحقيق نهضة المستقبل…
وسيم القربي – تونس
الحبيب المستيري من مواليد مدينة الشابة سنة 1959، وهو أحد المخرجين التونسيين الذين ساهمت تجربة الأندية السينمائية في صقل مواهبه وجعلته يتشبّع بأرضيتها الثقافية. متحصّل على ديبلوم الإخراج السينمائي والتلفزيوني من فرنسا، وقد ساهم في تسيير المهرجان الدولي لفلم الهواة بقليبية، كما اهتمّ بكتابة المقالات الثقافية قبل أن يتفرّغ للإخراج، التقيناه فكان الحوار التالي:
كيف كان انتقالك من سينما الهواة إلى السينما المحترفة؟
النقلة من سينما الهواة إلى السينما المحترفة اتخذت مسارا طبيعيا باعتبار رغبتي في الاستمرار بعد أن تشبعت من سينما الهواية المتحرّرة من القيود الإنتاجية والتجارية، إلا أنّ الرغبة في الانفتاح على فضاء جديد وخوض المغامرة مع جيل من السينمائيين الشباب جعلني أطمح أن أكون سينمائيا محترفا. السينما التونسية كانت تقودها الأجيال الأولى المؤسسة التي درست في أوربا حيث فرضت نوعا من الانغلاق، وبالرغم من تقدّمهم في السنّ إلا أنّ إنتاجهم بدأ يشحّ، كما أنّ تجاربهم شهدت عزوفا عن الفيلم الوثائقي باعتبار التركيز على الأفلام الروائية القريبة من الجمهور والأكثر انتشارا. بالإضافة إلى انخراطي في نادي السينمائيين الشبان، دعّمت معارفي من خلال دراسة السينما عن بعد في أحد المعاهد الفرنسية والذي كنت أنتقل إليه لإجراء الاختبارات التطبيقية فتحصّلت على ديبلوم الإخراج السينمائي والتلفزيوني.
ما هو المفهوم الذي اشتغلت عليه بصفة مكثفة في أفلامك؟
ركزت في أعمالي على مفهوم الذاكرة باعتبار أنّ جزءا كبيرا منها بصدد الضياع والانطماس بحكم تسارع الزمن وتهميش التوثيق. على هذا الأساس اشتغلت على ذاكرة السينمائيين الهواة من خلال فيلم “صور متواترة” والذي وثقت فيه شهادات الماضي والحاضر. لقد كاد تاريخ هذه السينما يندثر لغياب المراجع التي توثق لفترة مهمة من تاريخ هذه الحركة السينمائية. لقد كان الهدف من هذا الفيلم نفض الغبار عن سينما الهواة التي تعتبر مدرسة ساهمت في بناء أول أسس المشروع الفكري والسينمائي في تونس، كما أنها كانت أرضية لممارسة الإبداع الحرّ سواء من طرف المخرجين أو النقاد.

ما هي مشاريعك القادمة؟
مشروعي القادم سيتطرق لتوثيق نوادي السينما التي تعتبر مدرسة نظرية صقلت ذوقنا السينمائي، كما أنه من بين مشاريعي القادمة مشروع يتعلق بالذاكرة السياسية، ذاكرة سياسي تونسي حلم بإرساء الاشتراكية في تونس إلا أنه أودع في السجن وبقي لسنوات يناضل من أجل مواقفه وآرائه، وهو الذي لا يزال إلى يومنا هذا متمسّكا بهذه النظرة الخاصة. ارتأيت أنه لا بدّ من توثيق الذاكرة الحيّة: شخصية الوزير الأسبق أحمد بن صالح.
كيف كان التوجه الإخراجي الذي انتهجته في فيلم “يوميات ثورة”؟
“يوميات ثورة” ارتبط بدوره بالذاكرة، ككل السينمائيين حملت الكاميرا لأوثق مشاهد الثورة التونسية لكن تحديد المنهج الفيلمي كان صعبا باعتبار سرعة الأحداث وتواترها إلى حدود اكتشافي عن طريق ابني للفيديوهات التي تمّ تمريرها في الفايسبوك من مختلف مناطق البلاد. اكتشفت أنّ هؤلاء الشباب الهواة، بالإضافة إلى مساهمتهم الميدانية في الثورة، وثقوا بما توفر لديهم من هواتف جوالة ووزعوا صور الأحداث الحية عبر الأنترنيت لتأجيج لهيب الثورة وحثّ التونسيين للخروج إلى الشارع والتظاهر ضدّ السلطة. هذا الكمّ من الصور هو جزء من تاريخنا الذي كتب بكثير من التلقائية والعفوية. اخترت أن يساهم هؤلاء الشباب في فيلمي، كما أنني اخترت إدماج شخصيات ولدت في تونس أو لها علاقة ما بها لتكون رؤيتهم للثورة وتفاعلهم بها بمثابة رجع صدى، اخترت شخصيتين فنيتين وهما كلاوديا كاردينال وميشال بوجناح، والفيلسوف ألبار ميمي، وأخوه الكاتب جورج ميمي، والسينمائية فرانسواز قالو، فكانت شهادات متشابكة حول فترة ما من تاريخ تونس.
كيف كان تعاملكم مع فيديوهات الهواة، وكيف تمّ إدراجها في فيلم “يوميات ثورة” ؟
بالنسبة لمقاطع الفيديو فقد اشترينا حقوق بثها من الشباب قصد تشجيعهم بالرغم من الإمكانيات الإنتاجية المحدودة، كما أننا قمنا بإعادة تمثيل بعض المقاطع. التعامل مع الصورة تغيّر اليوم، القنوات الفضائية اليوم أصبحت تعتمد على فيديوهات الهواة/ المراسلين والتي تحمل صورهم صفات الجرأة والواقعية التي تشدّ المشاهد. قد لا تكفي صور الأحداث غير أنّ التعامل مع الوثيقة الخام وهندسة الحبكة الفيلمية هي الدور الحقيقي للمخرج عبر خطّ لغة سينمائية خاصة. اليوم، وبتوفر الآلات الرقمية أصبح من السهل تقنيا التصوير وهي الفرصة التي أتيحت للشباب من خلال التصوير بإمكانيات محدودة لكنها يمكن أن تكون فعالة.
ألا ترون أنّ تصوير وقائع الثورة أصبح موضوعا مستهلكا نوعا ما؟
شهد تصوير الوثائقيات التي تتعلق بالثورة في الكثير من الأحيان نوعا من الانتهازية لا سيّما سياسة التسويق بصور الثورة… هناك الكثير من المخرجين التونسيين الذين صوروا وثائقيات الثورة لكنها في الواقع مشوّهة ورديئة وقد أساءت للثورة باعتبار أنها لم تعكس جميع وجهات النظر ودخلت في ميكانيزم النجومية عبر تسمية “وثائقيات الربيع العربي”. الكثير من صور هذه الأفلام وقع تناقلها وأصبحت مستهلكة، أعتقد أنه لا بدّ للمبدع من نظرة تأمّل ليُنضج أفكاره. الثورة ليست بالضرورة تغييرا إيجابيا، وبالتالي فنحن في مفترق الطرق باعتبار أنّ الكثير من العقليات لا زالت ترزح تحت وطأة الماضي التعيس وهو ما يفرض المزيد من الوقت حتى تنضج الأفكار الجديدة عوض التهافت على المهرجانات. تعاملي مع الثورة كمخرج ونظرتي المتأنية جعلتني أسلّم مقاليد توجيه الفيلم إلى الشبّان الذين هم أدرى باعتبارهم عاشوا أحداثهم الخاصة.

كيف تقيّم وضعية الإنتاج السينمائي في تونس اليوم؟
الإنتاج السينمائي في تونس هو إنتاج يتمّ إنجازه بفضل أموال وزارة الثقافة حيث أنه لا يوج أيّ منتج يموّل أفلامه، بالإضافة إلى غياب الحلول الإنتاجية الأخرى حيث أنّ البنوك لا تقدّم الدعم للسينما. بغياب الدولة وغياب وزارة الثقافة لم يكن من الممكن تمويل أفلام وثائقية أيام الثورة ما عدى من طرف بعض الأطراف الخارجية، أما البعض الآخر الذي لم يكن ليرضى بأن يفرّط فرصة تصوير الأحداث حتى بإمكانيات محدودة جدّا، وبالتالي لم يكن من الممكن توفير أدنى حدود الحرفية الإنتاجية وهو ما فسح المجال أمام الارتجال السلبي. على عكس بعض الوثائقيات في مصر التي تمتلك منظومة إنتاجية مكنت العديد من المخرجين من تصوير الأحداث الحيّة وإعادة تصوير الوقائع وتمثيلها. إلا أنه يبقى من المؤكد أننا سنعود في المستقبل لتصوير وقائع وأحداث وخفايا حدثت أيام الثورة وسيتمّ تصويرها بأكثر رصانة.
كيف ترى مستقبل الشريط الوثائقي في تونس وفي العالم العربي؟
المسكب القادم الذي حققناه في تونس هو المركز الوطني للسينما والصورة، والسينمائيون التونسيون سيقرّرون مصيرهم ومستقبلهم عبر هذا الهيكل وذلك قصد تغيير المنظومة السينمائية السابقة التي سيطر عليها الفساد وكل المظاهر السلبية التي سايرها الكثير من المخرجين. السينما التونسية في مجملها سينما جدّية ومرحلة التغيير بدأت ومستقبل الصورة في تونس سيشهد تغييرا عميقا في ظلّ بروز الوثائقي كجنس إبداعي مهمّ. الفيلم الوثائقي العربي يشكو العديد من الإشكاليات وخاصة غياب الدعم ، لقد آن الأوان لإقامة ورشات تكوينية وإحداث صناديق دعم فاعلة حتى يتغلغل التوثيق ويصبح منتوجا أساسيا في ثقافتنا السينمائية.