علاقة الإنسان بأمكنته وأغراضه زمن الحرب
ندى الأزهري – فرنسا

فيلمها لا يصوِّر الحرب مع أنها هنا، تصلنا أصواتها، اهتزازتها. ليس فيلما عن النازحين واللاجئين، مع أنهم هنا. “مسكون” فيلم حميمي عن العلاقة التي يبنيها الإنسان مع أمكنته، أغراضه، كل ما “يثبت” أنه وجد هنا يوما وعاش وأقام علاقات، لكن، حين تهطل القنابل فإن رد الفعل الأول الجري بعيدا عن هذا البيت. ثمّ فيما بعد، نتذكر، نفكر بكل ما خلفناه وراءنا. فنحن لم نقل وداعا لبيتنا، ذكرياتنا، صورنا، هويتنا وحياتنا الماضية. تقول “لواء يازجي” مخرجة الفيلم.
“لواء” خريجة المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق. عملت وكتبت للمسرح لسنوات ثمّ اتجهت للسينما ومثلت في فيلم “مطر أيلول” لعبد اللطيف عبد الحميد (2009)، كما عملت مساعدة للمخرج الليث حجو في ” نوافذ الروح”. وها هي اليوم تُحقّق فيلمها الوثائقي الأول ” مسكون”.
يوثّق الفيلم لحظات يومية من حياة سوريين بعضهم نزح وبعضهم الآخر” مشروع نزوح.. ويرافق عدة منهم في محنتهم ويرصد مشاعرهم وعلاقتهم مع أغراضهم وبيتهم وهذه الحالة من الاستعداد للمغادرة في أي لحظة.
في مهرجان نانت السينمائي حيث عرض فيلمها ضمن تظاهرة “موكب الربيع”، التي ضمّت أفلاما عربية أخرى، التقينا المخرجة السورية الشابة.
ضمن سيل الأفلام عن الحرب في سورية، يأتي فيلمك بفكرة مبتكرة، أهي الحرب من فرضها عليك؟
الثورة في سورية فرضتها عليّ من جديد. فهذا الأمر كان يشغلني من قبل، واليوم أحسست نفسي مُعرضّة له في أية لحظة ورغبت بمعرفة رأي الآخرين به. كنت أتساءل عن العلاقة التي تربطنا بالبيت. حين يمسي هذا الشيء، الذي هو أكثر ما نسعى لامتلاكه و ثمرة شقاء سنوات من العمر، أول ما نخسر وفي برهة. ماذا سيحمل المرء من بيته من أشياء، كيف سيختارها وكيف سيختصر حياة بأكملها في عدة أغراض ستذكره بها؟ في هذه الحالة نتردد فلا شيء يكفي للتعبير عن حياتنا الماضية. في الفيلم يسألني أحدهم عن الدليل الذي يثبت أنه كان عائشا من قبل إن ترك كل شيء خلفه و بدأ من الصفر؟!
كيف اخترت المشاركين في الفيلم؟ هل يمكن الحديث عن خيار أو هي صدفة و ما أتاحته الظروف القائمة؟
كان لدي عدد أكبر من الأشخاص الذين اخترتهم, وحكايا أكثر من تلك الحاضرة في الفيلم. لقد جمعت أكبر قدر من الوثائق كتابة و تصويرا وحاولت تقديم مجموعة متكاملة فيما بينها. كان الخيار عسيرا حقا لإحساسي بالمسؤولية تجاه ما جمعت. ثم فرضت أمور نفسها كعدم رغبة البعض بالتصوير وغياب بعض ممن رغبت بوجوده بسبب الأوضاع. هكذا تداخلت الظروف مع خياراتي بعرض مجموعة متكاملة بطروحاتها، تناقش أسئلة تبقى في الذاكرة كالهوية والتمسك بالمكان. لعبت كل هذه العوامل دورها في خياراتي ورغبت بالتنويع كي لا تتكرر الإجابات، ففي الشريط ثمة عائلة تصارع للبقاء وشاب سيعود إلى الجولان بعد سنوات من العيش في دمشق، ونازحة في لبنان.

هل وجهت أسئلة متشابهة لكل منهم؟ أم تركت لهم حرية الحديث حول علاقة المرء بالمكان والممتلكات؟
كانت أسئلتي من صلب حكاية كل منهم. مثلا الشاب الذي قرّر عدم الرحيل سألته عن الكيفية التي وصل بها إلى خياره وآليات الدفاع عن قرار صعب كهذا. كان لدي أيضا سؤالي الأساسي عن قرار المغادرة وعن علاقته مع البيت والأشياء التي يرتبط بها، وماذا سيأخذ معه إن اضطرّ لترك بيته. وبالطبع مع هؤلاء الذي سبق وغادروا (الشابة التي كانت في لبنان) كانت الأسئلة عن ظروف المغادرة والظروف الحالية وحياتهم الماضية وذكرياتهم ، ماذا أخذوا وماذا تركوا.
هل تحضرك الآن إجابات تركت أثرها فيك؟
العجوز الذي حكى عن صورة ابنه الشهيد التي كانت مُعلقّة في البيت. كانت بمثابة تذكير بالفقيد وحضور دائم له. حين تهدَّم البيت غادر ولم يأخذ الصورة معه. كم يعذبه هذا اليوم! فجزء من ذاكرته غاب إلى الأبد مع غياب الصورة الوحيدة لولده، كانت تلك من أقسى الحكايات عليّ. لقد نبهني عملي بالفيلم إلى تكرار الحديث عن الصور، فالناس يغادرون مع أشياء عملية ثمّ يتذكرون أنهم نسوا الصور! هكذا، يأتي جيل لا يعرف الجيل الذي راح، جيل لا علاقة بصرية له و ملموسة مع من كانت عائلته، مع حياته الماضية، أيضا، لفت نظري تغيّر نمط حياة الناس تماما. التقيت بفنية مخبرية وزوجها المحامي، باتا بعد اللجوء ربة بيت وبائع محارمّ. لقد تغيرت هويتهم،” كنا غير أشخاص” يقولون، وأولادهم في مدرستهم اللبنانية لا يعرفون شيئا عن هوية والديهم السابقة. ثمّة وعي جديد يتكون لا علاقة له بالماضي وكما قالت تلك الشابة في الفيلم: “الآن حين أنظر في المرآة أجد امرأة ثانية!”. التغيُّر لم يصب المكان والعلاقة الفيزيائية معه فحسب بل هويتنا ومن كنا وما سنكون حين نخرج منه.
أيضا في الفيلم ثمة تركيز على الحديث عن الممتلكات، عن الأشياء ..
نعم. بعضهم يقول كيف سأترك مقبرة أهلي هنا؟ كيف نعرف ماهو غالي علينا؟ في لحظة يصبح الأساسي في حياتنا كماليا وتختلف قيمة الأشياء. أحدهم جمع رسائله في البيت وتركها ، ويشعر كأنه ترك روحه.
وأنت ما كنت لتأخذين لو غادرتِ؟
طرحت السؤال على نفسي وكان الجواب مربكا. لن آخذ شيئا لأنني أحب أغراضي مع بعضها، أريد حين عودتي أن أرى فردوسي كاملا وأريد تخيُّل المكان كما تركته.
حضرت الروح الساخرة السورية بقوة في شريطك رغم مأساة الظروف ، هل كان الحفاظ على مشاهد من هذا النوع خيارا؟
لم ألعب بالحكايا. في أكثر الأمور مأساوية ثمة لحظات من الضحك، من المزاح وثمة علاقة مع الأمل. الناس يمزحون في أقسى الظروف. رأيت من واجبي إبراز هذه الروح السورية وهذه المقاومة المدنية للأشخاص. حاولت أن أكون أمينة حتى النهاية، وبرغم الثقل كانت ثمة خفة ساخرة في الفيلم، كان عدم تنميط الإنسان السوري في صورة مأساوية وإظهار هويته الحقيقية رهانا أساسيا لدي.

كم استغرق تحضير الفيلم؟
بدأت التحضيرات والعمل من 2012 حتى منتصف 2013. حاولت بناء علاقة مع شخصياتي وإقامة جسر من التواصل والثقة معهم، وجاء التصوير كحلقة متممة. كنت أقضي وقتا مع الناس ولا أكتفي بتصويرهم، فكنت مثلا أتحادث مع العائلة المشاركة في الفيلم في كثير من الأوقات عند شعورنا بالملل ونحن حبيسو بيوتنا، وليس فقط من أجل التصوير.
هل كنت تعرفين كل هؤلاء الأشخاص الذين ظهروا في الفيلم؟
معرفتي بهم كانت بدرجات متفاوتة. حين سألتني المرأة إن كان الفيلم وثيقة بدا السؤال كأنه طلب حقيقي على أن يكون كذلك. كأن الفيلم شاهد على لحظات أخيرة لأحدهم، غيّر هذا من إحساسي تجاه العمل وأصابني بالرعب فأنتِ في لحظة تجدبن نفسك مورطة في حياة الآخرين..لم أستطع الإجابة وفي لحظة لم أعد المخرجة!
شاركت في عمليات المونتاج، ويبدو أنه كان صعبا عليك فالفيلم يدوم قرابة الساعتين؟!
كانت المونتيرة شريكة حقيقية. وكان الحذف قاسيا جدا عليّ. وكما يقال كنا نكتب بالممحاة! فثمة مسؤولية معنوية وعاطفية تجاه الذين شاركوا في الفيلم، إنما هناك فيلم و بناء للفيلم ولا بد من الفطام في لحظة من اللحظات.
وكيف ترين هذه الحيوية في الوثائقي السوري اليوم؟
ثمة الكثير، إنما سيفرز الزمن العمل الفني عن الحربي. صحيح أنه من المهم أن نكون هناك ونحضر الحدث لرسم صورة حقيقية عنه الآن لكن العالم غرق بالصور وعلينا إنجاز ما يدوم. نحن أمام مفترق وعلينا التفكير بالناحية الفنية إضافة للتوثيقية، يجب التفكير بالسينما.