أكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقية

 

محمد موسى

 

ليس فيلم “حرب الأكاذيب” للمخرج الألماني الشاب ماتياس بتنر، هو الأول الذي يتناول حياة المهندس العراقي رافد علوان الجنابي، والذي كانت روايته عن الأسلحة العراقية المُدمرة السريّة، إحدى الذرائع التي استندت عليها الإدارة الأمريكية في حرب عام 2003 ضد نظام صدام حسين، فقبل ثلاثة أعوام، عُرض في أوروبا فيلم “الرجل الذي أدخل العالم للحرب بالكذب”، للمخرج الدنماركي بول – أيريك هايلبوث عن الرجل نفسه. وإذا كان الفيلم الدنماركي قدم صورة بانورامية عن الأحداث التي سبقت الحرب، ودور رواية رافد الجنابي في سياقاتها، دون أن ينجح في مقابلة رافد نفسه، يرتكز فيلم “حرب الأكاذيب” على مقابلة طويلة مع المهندس العراقي من محل إقامته في ألمانيا.

 

يمنح فيلم “حرب الأكاذيب”، رافد الجنابي الفرصة والوقت الكافيين لسرد قصته، من بداية وصوله إلى ألمانيا كلاجئ في نهاية عقد التسعينات، ثم علاقته بالمخابرات الألمانية، وحياته بعد أن كشف الإعلام الأمريكي عن هويته، كصاحب قصة الأسلحة العراقية المُدمرة المزعومة، والتي لم يتم العثور عليها أبدا. يُعيد الفيلم الجديد تمثيل الوقائع بالتدرُّج الزمني التصاعدي، وحسب رواية المهندس العراقي. كما يحاول أن يفك أسرار الشخصية الجدليّة، متسائلاً: كيف يعيش اليوم الرجل الذي كانت قصته أو كذبته أحد أسباب الحرب المُدمرة في بلده العراق، والمستمرة بصورة  أو بأخرى حتى الساعة؟

 

مخرج الفيلم “ماتياس بتنر”

رغم أن فيلم “حرب الأكاذيب” هو الفيلم الثاني للمُخرج، إلا أنه لفت انتباه مهرجان “أدفا” السينمائي العريق في العاصمة الهولندية، ليتم عرضه هناك. كما اختاره أحد نقاد مجلة  “فاريتي” السينمائية الشهيرة، في قائمة الأفلام التي يجب مشاهدتها هذا العام.

 

عن فيلمه الأخير كان هذا اللقاء مع المُخرج الألماني ماتياس بتنر.

لماذا أردت أن تقوم بعمل فيلم عن رافد علوان الجنابي، أي جوانب في قصته أو شخصيته جذبتك كصانع أفلام؟

القصة بدأت، عندما كنت في عطلة قبل ثلاثة أعوام، كنت أقرأ كتاباً عن السياسة الألمانية المعاصرة. كانت هناك عبارة في الكتاب تقول إن الحرب على العراق في عام 2003 بدأت من “فرانكونيا” في ألمانيا، وهي المنطقة التي ولدت وعشت فيها. ثم بدأت في البحث ووجدت مقالات عن دور “رافد الجنابي” في الأشهر القليلة التي قادت للحرب. الشيء الذي لم أصدقه منذ البداية بأنه كان الشخص الوحيد المسؤول عما حصل. لم أصدق أنه نجح في إقناع كل مخابرات العالم بروايته. هذه التفصيلة أثارتني كثيراً.

هل كان أمراً صعباً إقناعه بالحديث معك، خاصة أن الإعلام الغربي لم يكن رحيماً به، وقدّمه أحياناً، ككاذب وخائن لبلده، وأحد أسباب الدمار الكبير الذي لحق بالعراق؟

نعم كان صعباً بالتأكيد. أنا لا أصدق الإعلام بشكل عام. أُريد كصانع أفلام أن أصل إلى حقيقتي الخاصة. فيلمي الذي سبق هذا الفيلم، كان عن إعادة تأهيل مقترفي الجرائم الجنسية ضد الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية، والذين كان بعضهم يعيش مُشردّاً تحت جسور مدينة “ميامي”. المقاربة التي أخذتها مع مشروع “حرب الأكاذيب” أني لم أذهب إلى الشخصية بنية عمل فيلم. كنت أريد في البداية التقرب إلى رافد الجنابي وسماع  قصته، لتكوين صورة ما عن الرجل والإنسان خلف “الشخصية” الذي تم تقديمها في الإعلام. كان من الصعب جداً العثور عليه، استغرق الأمر ثلاثة شهور طويلة.

لكن ما هو الشيء الذي فعلته أو قلته لتجعله يثق بك؟

 

قابلته للمرة الأولى في محطة قطار في وقت مبكر من الصباح. وقلت له أنا طالب في أكاديمية الفيلم، وأرغب في الحديث معك. في البداية، قال أنا لست الشخص الذي تبحث عنه. وعندما ناديته باسمه الأول، قال حسناً لماذا لا نشرب القهوة سوياً. أخبرته  في ذلك اللقاء عن الكتاب الذي صدر عنه (“كيرفبول: الجواسيس، الأكاذيب والرجل المحتال الذي سبّب الحرب” للكاتب بوب دراغين). وهكذا بدأنا رحلتنا مع الفيلم. كانت لقاءاتنا تسير على وتيرة ثلاث لقاءات أسبوعياً لفترة خمسة أشهر قبل التصوير. تحدّثنا في البداية عن أشياء عامة تخص العراق، لم أكن أعرف أي شيء عن الحياة وقتها، وما يعنيه العيش تحت حكم صدام حسين. بعدها اقترحت عليه أن نقوم بعمل فيلم عن قصته، ليقدم الجانب الذي لم يتطرق إليه الإعلام من قبل. لم يكن هذا سهلا، لأنه كان يشك بكل شيء من حوله. حتى عندما بدأنا التصوير، لم تتوقف المشاكل ، كان يتهمنا أحياناً بأننا صحفيون سيئون، وأحياناً يعتقد بأننا من المخابرات الألمانية. أنا تفهمت ذلك، فقد عاش تحت ضغط كبير للغاية في السنوات العشر الأخيرة.

 

صوّرت مقابلة طويلة معه، شكلت عِماد الفيلم. هذه المقابلة صورت بأسلوب خاص، لتبدو لنا كمشاهدين وكأننا نحضر مُحاكمة علنية. هل كان هذا أمراً مُتعمداً، أن نكون نحن المشاهدون القضاة في “محكمة” المهندس العراقي؟

 

لم أرغب أن أضع رافد الجنابي في محكمة. كنت معجباً كثيراً بالموقع الذي اخترناه لتسجيل الحوار الطويل معه. لقد صورنا في جنوب ألمانيا، في ملجأ حربي استخدمته القوات البريطانية أثناء الحرب العالم الثانية. كنت أريد أن أخلق أجواءاً تبدو، وكأنه يتحدث إلى سلطة ما. ربما هذا ما منح المقابلة أجواء المحاكمة، كما أن المتفرج يشاهد الطاولة التي كان يجلس عليها رافد الجبوري في المقابلة، وعلى خلاف معظم ما تعرضه الأفلام التسجيلية عندما تقدم مُقابلات مع شخصيات، إذ تكتفي بوجه وجزء من جسم الشخص، أو تجعلهم يجلسون على كراسي. أردته أن يجلس على أحد طرفي طاولة، على أن أجلس أنا على الطرف الآخر. لا أحب كلمة “مُقابلة” بشكل عام، رغبت بإقامة حوار. كنت أريده أن يسألني أسئلة أيضاً. تبادلنا الأدوار أحياناُ. وكما حدث عندما طلب مني رأيي بسير العمل، وإذا كنت أُصدق ما يقول.

 

في الفيلم نستمع لوجهة نظر رافد الجبوري والتي ستكون الوحيدة في الفيلم. هل تعتقد أن الفيلم كان سينتفع من وجهات نظر أخرى، هل حاولت الحصول على مقابلات مع الأشخاص الذين ورد ذكرهم في قصة المهندس العراقي؟

نعم حاولت. لكن كان من المستحيل العثور على أولئك الأشخاص. سألت المخابرات الألمانية إذا كانت ترغب في التعاون بأي شكل يناسبها. كل ما وصلني منهم، أنهم لا يرغبون بالتعاون. الرد وصلني في رسالة صغيرة للغاية وبدون ذكر الأسباب.

لماذا أحَبّ رافد الجبوري أن يتحدث الآن حسب رأيك، هل تعتقد أنه كان يشعر أخيرا بالحاجة للتحدُّث ، حتى يكشف قصته كاملة وحسب شروطه؟

أعتقد أن علاقتي معه كانت مُختلفة عما اعتاده من تعاونات سابقة مع الإعلام. نحن لم ندّعي أبداً بأننا جزء من الإعلام، أو نملك خلفيات إعلامية طويلة. لقد بينّا له بأننا نريد أن نستمع له بشكل أساسي. وهذا ما جعله يشعر بالراحة في الحديث معنا. لقد شاهدت كل المقابلات التي اجريت معه. بعض من تلك المقابلات كانت غريبة جدا. أتذكر واحدة شهيرة، وفيها كان “رافد” يجيب بنعم أو لا على الأسئلة المطروحة عليه. هذا لن يعطيك أي فكرة حقيقية عن القصة. أنت سألت عن غياب وجهات النظر الأخرى، أنا بالحقيقة كنت سعيداً لأنها غير متوفّرة في الفيلم، لأني لا أحب أن أُقدِّم أفلاماً عن شخصيات عامة، بل غايتي هو أعمال أُنجزها بالتعاون مع تلك الشخصيات. أريدهم أن يقولوا قصتهم بأنفسهم. لسنوات كان الكثيرين يملكون نظرياتهم الخاصة عن رافد الجبوري، لماذا جاء إلى المانيا، ولماذا فعل ما فعله؟ ربما هو شعَر للمرة الأولى بأنه قادر من خلال الفيلم أن يسرد قصته كاملة و بحرية. هذا كان الاختلاف بين فيلمي والأفلام والتقارير التلفزيونية السابقة. إضافة إلى الفترة الطويلة التي قضيناها معا قبل التصوير، والتي عزّزت ثقته بنا.

هل هذا يعني أن فيلمك لا ينتمي للأفلام الاستقصائية التي تتوخى الكشف عن الحقائق؟

 

نعم هذا صحيح، هو لا ينتمي لهذه الفئة من الأفلام. أول عبارة كتبتها في السيناريو كانت: “هذا الفيلم ليس عن الحقيقة”. لم يكن غرض الفيلم إيجاد المزيد من الحقائق عن “رافد”، او إذا كان هو المسؤول عن الحرب. أردت بشكل أساسي تقديم قصة شخص وجد نفسه يحمل وزر شيء رهيب مثل حرب العراق. كنت أحاول أن أتخيل كيف يمكن أن أعيش مع نفسي لو كنت السبب في حرب دمرّت بلدي، حرب حملت الخراب والموت لشعبي.

 

هل تغير رأيك به بعد أن قضيت فترة طويلة معه قبل التصوير وأثناءه؟

لازال صعباً عليّ فهم ما ادعاه “رافد”، بأنه كان يريد فعل أي شيء للتخلُّص من نظام صدام حسين. في ألمانيا، إذا لم تكن راضيّاً أو معارضاً لسياسيين في ألمانيا، ممكن أن تُعبِّر عن ذلك بطرق مختلفة، دون أن تفقد شعورك بالأمان في بلدك. وهو وضع يختلف عن وضع “رافد”، وكما شرحه لنا. الإعلام الغربي وصفه بالمعتوه الفاشل. هو كان تحت ضغط كبير للعمل مع المخابرات الألمانية ولعشر سنوات. والنتيجة أنه فقد السيطرة على حياته. العراقي الذي قابلته كان رجلاً مُحطماً، يحاول أن يستعيد السيطرة على حياته مجدداً والتعامل مع شعور الذنب. أحسست أنه لا يتسطيع التعامل مع شعور الذنب.

هل شاهدت فيلم ” الرجل الذي ادخل العالم للحرب بالكذب ” للدنماركي بول – أيريك هايلبوث أو الأفلام الأخرى التي مرّت على قصة رافد الجنابي، وما رأيك بها؟

لا أحب التعليق على أفلام أخرى عنه، لكن الفيلم الذي ذكرته بالتحديد لم يُحاور الشخص الذي يدور الفيلم حوله. فيلمي هو حوار مع “رافد”. وكما قلت سابقاً، أنا أريد أن أصنع أفلاماً “مع” الشخصيات التي تدور عليها الموضوعات. من الصعب معرفة الحقيقة في قصة رافد، فيلمي لا يبحث في “الحقيقة” بل يحاول أن يبرز الأثمان الإنسانية  للأحداث الكبيرة. في فيلم “الرجل الذي أدخل العالم للحرب بالكذب ” يلاحق المخرج “رافد” أمام محل للسجائر، ويضع المايكرفون في وجهه، ويطلب منه بعد كل ذلك أن يقول الحقيقة. هل ستتعاون مع شخص يقوم بفعل هذا معك؟

هل تُخطِّط  للاستمرار في متابعة سيرة رافد الجنابي بنية تقديمها في أعمال  قادمة؟

مازلت على اتصال برافد، لكني لا أعرف إذا كنت سوف أنجز فيلم آخر عنه. ربما بعد خمسة أو ست سنوات. أنا سعيد بالمشروع  وما وصل إليه. عملت على الفيلم لثلاث سنوات. هو مشروع تخرجي. وعُرض في مهرجان “أدفا” في أمستردام وسيُعرض في عدة مهرجانات حول العالم. كما سيعرضه التلفزيون الألماني الذي شارك في الإنتاج. الفيلم حصل على اهتمام كبير، ربما بسبب فضيحة تجسُّس المخابرات الأمريكية على نظيرتها الألمانية.

 فقصة رافد ظهرت للعلن بسبب تسريب معلومات، كان يجب أن تبقى في ألمانيا، لكنها وصلت بطرق لا نعرفها إلى الإعلام الأمريكي، والذي كشف عن الاسم والدور الكامل لرافد الجنابي في حرب العراق. ما أعتقده أن المهندس العراقي كان جزءاً من لعبة بينه وبين المخابرات الألمانية. في الحقيقة لا أعرف ماذا أصدق. لقد قرأت آلاف الوثائق عن القضية لكني لازالت لا أعرف الأجوبة. نحن حاولنا في الفيلم أن نقترب من حياة المهندس العراقي عند وصوله إلى ألمانيا. فصورنا في نفس مركز إيواء اللاجئين الذي وصل إليه “رافد” وقتها، من أجل أن نقترب من روح المكان، علّنا نصل إلى أجوبة. رافد شخص لا يمكن إيقافه، عندما يريد أن يقوم بشكل لن يتردد باقتراف أفعال حادة. لقد تم استغلاله لكنهم لم يعرفوا كيف يمكن التخلص منه. أعطوه حياة جديدة ومنحوه أموالاً كثيرة. لكن بعد انكشاف قصته بدأ يشعر بالغضب الشديد من المخابرات الألمانية التي يعتقد أنها خانته.


إعلان