مَلِك في ريف إيران
محمد موسى
لم تكن بداية الفيلم التسجيلي “أريد أن أكون مَلِكاً” للمُخرج الإيراني الشاب مهدي گنجي، توحي بالإنعطافة الحادة لنفَسَه العام وموضوعه الرئيسي والذي حدث سريعاً في الفيلم. فالبداية تلك، قدمت، وبشكل أقرب للاحتفالي التقريري، المشروع الإقتصادي الفريد للإيراني عباس برزگر وعائلته، ونجاحهم في تقديم خدمات سياحية في قلب الريف الإيراني لسُيّاح أوروبيين، اختاروا الريف بدلاً من حواضر إيرانية شهيرة لعطلتهم في البلد. لكن سرعان ما تحول الفيلم إلى بورتريه مُعتم إشكاليّ عن العائلة الصغيرة ومحيطها العام، لينقل وبحساسية كبيرة، أحلام وهواجس تلك العائلة، وبالخصوص الأب، الذي يشبه بقلقه وهمومه، شخصيات شكسبيرية مُعذبة، من التي لا تهدأ في سعيها للظفر بالسعادة والمجد.
اختارت الدورة الأخيرة لمهرجان “أدفا” السينمائي للسينما التسجيلية، والذي ينظم سنوياً في العاصمة الهولندية أمستردام، فيلم “أريد أن أكون مَلِكاً”، ضمن مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة الأولى لمخرجيها. ينقل الفيلم صوراً من الريف الإيراني النادر الحضور بالعادة في مُجمل الإنتاج التسجيلي الإيراني، ويُبرز شخصيات، لا تشكل جزءاً من الصور الشائعة عن الإيرانيين، والتي يستأثر عليها غالباً أبناء المُدن الإيرانية الكبيرة. كما تقترب كاميرا المخرج الشاب من الجروح المفتوحة لشخصيات فيلمه، وقدمها في مشاهد شديدة الصدق والتأثير، مُذكرة بما يجب أن تكون عليه السينما التسجيلية الحقيقية، والتي تُولد من تظافر الإخلاص للذين يقفون خلف الأفلام، والثقة التي تمنحها الشخصيات للمُخرج وفريقه الفنيّ.
عن فيلمه “أريد أن أكون مَلِكاً” كان هذا الحوار مع المُخرج مهدي گنجي ..
• كيف سمعت بقصة عباس برزگر، ومتى تبلورت لديك الرؤية لإنجاز مشروع تسجيلي طويل عنه ؟
قابلت عباس قبل بضعة سنوات، عندما كُنت أعمل على سلسلة وثائقية لصالح التلفزيون الإيراني، عن إيرانيين عاديين نجحوا في التغلب على ظروفهم الصعبة ومصاعبهم الشخصية وحولوها إلى فرص ذهبية للنجاح، كما استمدوا من تلك المصاعب القوة في مُواجهة المُستقبل، كل هذا تم بابتكار فريد. وإذا كانت تلك الشخصيات تبدو عادية في الظاهر وبعيدة عن جاذبية مشاهير السياسية والفن إلا إنها تحوز على خصائص فريدة، كما إنها تملك أحلاماً وطموحات جديّة. من تلك الشخصيات كان عباس برزگر، الذي قمت بعمل فيلم عنه وقتها بطول 30 دقيقة، ركز على حياته ونجاحه.
أثناء العمل على ذلك الفيلم، لمست إمكانية أن يكون عباس بطلاً لفيلم تسجيلي طويل. لأن ما شاهدته في تفاصيل حياته توقعت أن يكون مثيراً لجمهور عريض. قضيت ثلاث سنوات في تصوير ومونتاج هذا الفيلم. همي الأول كان، كيف أستطيع أن أبرز الطبقات المتعددة لشخصية عباس، حتى يتمكن المتفرج من فهمها والشعور بصلة ما معها. ليس مهما إذا كان عباس يعيش في إيران أو في قرية صغيرة، المهم كيف يُمكن للمُشاهد من أي مكان في العالم أن يتقرب من الشخصية، وربما يُقارن خصائصها مع حياته الشخصية، وهذا يتم عبر الفيلم كوسيط.
• في أي مرحلة من المشروع شعرت أن هناك قصة أكبر من حكاية العائلة العادية في الريف الإيراني التي فتحت بيتها للسياح الأوروبيين، وبدأت في التركيز على الأزمات الشخصية والعامة لأفرادها؟
أثناء العمل على الفيلم الأول للتلفزيون الإيراني، حدثني عباس عن فترة طفولته. وكيف عندما طلب منهم المُعلم في المدرسة الإبتدائية، أن يكتبوا الوظيفة التي يتمنون العمل بها في المستقبل، كتب عباس، الآتي من أسرة فقيرة للغاية، بأنه يُريد أن يُصبح مَلِكاً. الحادثة وقعت بعد أشهر قليلة من الثورة الإسلامية في إيران والتي أطاحت بالملك الموجود. هذا الأمر أغضب المُعلم كثيراً، الذي كان قد فقد للتو اثنين من إخوته في النزاع المسلح ضد حكم الشاه.
كان مثيرا جدا، أن يملك عباس هذا الحلم في طفولته. بعدها، وعندما شهدت طوال سنوات التصوير النجاح الذي وصل إليه الرجل الإيراني، كنت أتسائل ماذا حدث للحلم القديم. لم امتلك الجرأة على سؤاله، لكن شيئاً ما جعلني أشعر أن حلم طفولة عباس لم يمت بعد. ربما هو لازال يتمنى أن يكون ملكاً.
هذا كان الطريق لرسم شخصيته على الشاشة وتحديد الإطار العام لعلاقته مع من حوله. العلاقة مع عباس وعائلته نمت ببطء وأثناء فترة التصوير. لقد حصلت على ثقتهم بمرور الوقت. الثقة مهمة كثيراً في هذا النوع من الأفلام. بدون الثقة سيكون من الصعب أو المستحيل تقديم المشاهد التي تكشف عن أشياء خاصة في علاقات العائلة الداخلية، وتفاصيل حياتهم اليومية. في البداية كنت مشغولاً بضيوف عباس من الأوروبيين والأجانب. بعدها بدأت بالتعرف على الوحدة التي كانت تعيش فيها عائلة عباس. كل واحد منهم كان حبيس عالم خاص من الوحدة والقلق. أحسست وقتها أن هناك طبقات عديدة للشخصيات التي تحيط بعباس، وهي مُثيرة أيضاً، ويمكن أن تخاطب جمهوراً واسعاً.
• هل كان من الصعب تصوير المشاهد التي سجلت الشجارات العائلية ؟ كيف أقنعتهم بأهمية وجود الكاميرا في وسط تلك اللحظات الخاصة؟
لا أحد يُمكن أن يسمح للكاميرا أن تقترب منه، إذا لم يكن يثق بالشخص الذي يحملها. أسلوبي في العمل هو أن أفعل كل شيء بنفسي. أقوم وحدي بالتصوير والإضاءة والصوت والإخراج. أعمل على هذا المنوال منذ سنوات. هو ليس بالأمر الهين على الإطلاق وله مشاكله الخاصة. ما يُميز هذا الأسلوب، أنه يُقرب المُخرج من الشخصيات التي يقدمها، وهو أمر من الصعب أن يتحقق إذا كان يحيط بك كادر فنيّ كبير. ما أسعى له هو صداقة بيني وبين الشخصيات. وأعني هنا صداقة حقيقية، وليست وقتية، أو من نوع المجاملات أو الحيل لإيهام الآخر بأنك أصبحت صديقاً له. في إيران، وخاصة في القرى، هناك نوع خاص من الخجل والتواضع الذي يجعل من الصعب كثيراً لصناع الأفلام التسجيلية التقرب من النساء، وخاصة إذا كانوا من الرجال. حقيقة لا أعرف السبب الذي جعل العائلة تتقبلني وكاميرتي، وكيف فتحوا قلوبهم وأخبروني تفاصيل لم يخبروا بها أي شخص آخر من قبل.
عندما أشاهد الآن مجموعة المشاهد التي تسألني عنها، أشعر ان العائلة كانت واعية بوجود الكاميرا، وإن ذكر بعض التفاصيل التي قيلت في النزاع العائلي ذاك، كان بهدف تعريف المشاهد بتاريخ المشاكل وأصولها في البيت. كما لو كنت أو الكاميرا قاضياً عليها، وعلينا ، أي المخرج والمشاهد، بأن نحكم جميعاً في النزاع. كل واحد في ذلك النزاع قدم شهادة دفاعه وقصته بشكل متسلسل. لم أرغب بالانحياز إلى طرف، لأني أعرف أن الإنسان وعلاقاته من الأمور المُعقدة للغاية، وهناك أوجه عديدة لكل قصة. لذلك فضلت عدم التدخل تماماً. ما سعيت له في الفيلم هو ألا يحاكم الجمهور عباس أو عائلته، بل يحاولوا تفهُّم الظروف التي يعيشون فيها. أعتقد أن كل شخص منا له تجارب تتقاطع مع تجربة عباس وعائلته. أحياناً أرى بعضا من نفسي في تصرفات عباس وأفكاره. ورغم أنني ضد نهجه المكيافيلي في الحياة، اجتهدت لأن أجد جذور هذا التفكير وأُبرزها للمتفرج. حاولت القول بأن عباس هو نتيجة منطقية لماضيه. نحن جميعا نعيش تداعيات الماضي والأحداث التي مررنا بها. وحياتنا تتأثر بالطبع بالظروف التي نعيش فيها.
• كيف تصف عباس برزگر، هل يمثل طبقة اجتماعية مُعينة في إيران ؟
عباس شخص طموح للغاية. هو نشيط على صعيد السياحة في إيران، وخاصة السياحة البيئية، ولقد تم ذكره في العديد من الكتب السياحية العالمية، كما تم إنجاز مجموعة من التقارير التلفزيونية عن الخدمات التي يقدمها للسياحة الغير تقليدية في إيران. هو معروف إعلاميا في إيران كشخص خلق لنفسه فرصة عمل، كما أن بعض الجامعات الإيرانية تستخدم شركته الصغيرة، كنموذج للأعمال الغير تقليدية. كثيرون يتسائلون عن سر نجاحه وكيف وصل بفكرته البسيطة إلى هذا المستوى من الشهرة. هو في المقابل لا يملك علاقات جيدة مع أبناء قريته، والذين ربما يحسدوه على النجاح الذي حققه، لذلك لا يملك الكثير من الأصدقاء المُقربين.
• قضيت ثلاث سنوات في تتبع قصة عباس وعائلته، هل تخطط لمواصلة ذلك في المستقبل، أم أن رحلتك معه وعائلته انتهت بفيلم “أريد أن أكون مَلِكاً”؟كثيرون طرحوا علي السؤال نفسه. لقد قصدت ترك نهاية الفيلم مفتوحة للمشاهد. لم تكن نهاية مُبسطّة، وكنت أتمنى أن تستدعي تساؤلات. في النهاية نرى عذابات شخصية الفيلم الرئيسية، هو لا يعرف ماذا يحمل له المُستقبل، وإذا كان سيربح أو يخسر الجولة القادمة. ربما هذا ما يفسر الفضول الإعلامي، وإذا كنت سأتابع الشخصية في المستقبل او أكتفي برحلتي معها إلى هذا الحد. لا زلت على تواصل مع عباس لأننا أصدقاء، هو وزوجته الجديدة أنجبا طفلهما الأول، وهو ماض في توسيع عشيرته. صدقاً لا أعرف إذا كنت سوف أرجع للقصة بعد بضعة أعوام. أنا لم أصور أي مشاهد جديدة معه. ربما سوف أفعلها يوما ما، لكني لا أملك خططاً في الوقت الحاضر.

• المهتمون بالسينما حول العالم، يعرفون السينما الروائية الإيرانية من العقود الثلاث الأخيرة: أبرز الأسماء الإخراجية، والأفلام. في المقابل نحن نجهل الكثير عن السينما التسجيلية التي تُنتج في إيران، هل لك أن تحدثنا عن هذه السينما، مشهدها العام، الأنماط الانتاجية، السمات والملامح؟
الحديث عن السينما التسجيلية الإيرانية سوف يأخذ الكثير من الوقت. تاريخياً، إيران لها تقاليد ثقافية عريقة طويلة، لكنها منذ عقود في مرحلة عبور بطيء من تمجيد التراث إلى الحداثة. ولأن أغلب الناس في إيران هم مسلمون ومتدينون فإن هذا التغيير يواجه مجموعة كبيرة من التحديات. السينما التسجيلية في إيران تواجه نفس التحديات. الإيرانيون بدئوا في إنتاج الأفلام بعد خمس سنوات فقط من اختراع السينما، والسينما الإيرانية كانت دائمة معبرة عن المُجتمع الإيراني على مر السنين. دعني أتكلم عن حقلي، وهو السينما التسجيلية، خاصة السينما ذات الهمّ الإجتماعي. بسبب الحركة الفكرية والاجتماعية المتواصلة التي أشرت لها، تم إنتاج مجموعة كبيرة من الأفلام التسجيلية الاجتماعية المُهمة، وهذا يأتي بسبب تعلم مجموعة كبيرة من المخرجين لأسس إنتاج هذا النوع من الأفلام وتمكنهم من فن السينما ولغتها. نتيجة لذلك، حصلنا على جوائز لا تقل إن لم تزِد عن الجوائز التي حصلت عليها السينما الروائية الإيرانية.
لدينا أيضاً مهرجان مُهم للسينما التسجيلية يجذب حوالي 800 فيلماً كل عام. الإنتاج في إيران هو أقل من مُعدلاته في دول اوروبية أخرى. الذي يتوفر في إيران ويجعلها تُقدم أفلام تسجيلية جيدة المستوى هو: مُوضوعات مُثيرة وفهم للسينما ومعدات تقنية حديثة. الاحتفاء المتواصل بأسماء من السينما التسجيلية الإيرانية في مهرجانات عالمية هو دليل على مدى النضج الذي وصلت إليه هذه السينما. لأسباب سياسية لا يمكن لصانعي الأفلام التسجيلية الدخول في الإنتاج المُشترك مع شركات أوروبية أو أجنبية، وفي نفس الاتجاه لا يشترك المخرجين الإيرانيين كثيراً في ورشات العمل خارج إيران. رغم ذلك هم يحاولون ويجتهدون كثيرا لكي يجعلوا أفلامهم تُعبر عن مشاكل المجتمع الإيراني وهواجسه.