الذين قالوا “لا” للجمهورية الإسلامية
محمد موسى

في صيف عام 1988، وقبل أشهر قليلة من انتهاء الحرب الإيرانية العراقية، قامت الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة الإيرانية بتصفية مئات، ويقال الآلاف، من الموقوفين السياسيين في سجونها، والمنتمين في أغلبهم لحركات سياسية يسارية. أحيطت المجازر تلك بالكتمان، ولن تصل أخبارها ولسنوات عديدة إلى العالم الخارجي، كما ستبقى مجهولة في إيران نفسها. في بدايات هذه الألفية، بدأ إيرانيون يعيشون خارج بلدهم، ومنهم من كان في تلك السجون وقتها، أو من الذين فقدوا أحباب لهم فيها، بتنظيم أنفسهم من أجل مُقاضاة الحكومة الإيرانية على ما اقترفته في عام 1988، وفي السنوات التي سبقت ذلك العام أيضاً. جهود الإيرانيون ستثمر في عام 2012، عندما نظموا محكمة شعبية دولية توزعت جلساتها على العاصمة البريطانية لندن ومدينة لاهاي الهولندية.
يُصور المُخرج الإيراني المقيم في السويد نيما سروستانى محاكمة مدينة لاهاي في فيلمه التسجيلي “الذين قالوا لا”. يبقى العمل التسجيلي ولحدود كبيرة داخل قاعة المحكمة، مُسجّلاً شهادات الإيرانيين الآتين من دول عديدة، لاستحضار تلك الأوقات العصيبة من حياتهم. وبرغم أن كاميرا المخرج ذهبت إلى السويد واليابان وحتى إيران في سعيها لإعادة تجميع قطع الصورة المتشظية للناس والوقائع، إلا أن تميُّز الفيلم يتجسد بنقله الفنيّ الحساس لتفاصيل حدث مفصلي زائل، لا يمكن إعادة تمثيله. ينقل الفيلم مجموعة كبيرة من الشهادات والتي يتم توليفها على نحو زمني تصاعدي، لتُقدِّم صورة بانورامية مُعمقّة عما حصل في السجون الإيرانية عام 1988، مُلتقطاً في طريقه لحظات عاطفية مؤثرة من أجواء المحكمة ومن خارجها.
عن فيلمه “الذين قالوا لا”، والذي عُرض قبل أشهر في مهرجان “أدفا” الدولي للسينما التسجيلية وسيُعرض في نهاية شهر مارس الجاري ضمن مهرجان “Movies that Matter ” في مدينة لاهاي الهولندية، كان هذا الحوار مع المخرج نيما سروستانى.
• ربما لا زال كثيرون لا يعرفون ماذا وقع في عام 1988 لمعتقلين سياسين إيرانيين، هل لك أن تختصر لنا الأحداث تلك، وأين كنت وقتها؟

يبدو عام الثورة الإسلامية الإيرانية الأول، بكل عنفه، بريئاً وبلا دماء عندما يُقارن بالعقد الذي سيعقبه، والذي وصلت المجازر فيه إلى ذروتها في عام 1988. ففي نهاية شهر يوليو، وبينما كانت الحرب مع العراق تقترب من نهايتها مع بوادر هدنة جدليّة، أُغلقت فجأة السجون التي كانت مُكتظة بالسجناء السياسيين المعارضين لسياسية النظام الإيراني، وتم إلغاء كل الزيارات العائلية المُقررة لذوي السجناء لأبنائهم، كما مُنع الاستماع إلى الراديو ومشاهدة التلفزيون وتوقف توزيع الصحف داخل السجن. تم إبقاء السجناء في زنزاناتهم، ومُنعوا من التمشِّي في باحات السجون، والمرضى منهم من الذهاب إلى المستشفى. الوحيدون الذين كان لهم الحق في الزيارة كانوا: إيرانيين رسميين من الأجهزة الأمنية الحكومية، ومعممين ملتحين كانوا يحضرون بسيارات حديثة تابعة للدولة لتفحُّص السجون النائيّة. كذلك كثُر تواجد القضاة الدينيين والنائب العام ورئيس المخابرات، الذين قابلوا كل السجناء الذين كان عددهم يقترب من الآلاف، والمحبوسين لانتمائاتهم لحركات سياسية مُختلفة الاتجاهات.
وفد “لجنة الموت” الرسمي ذاك كان يسأل أولئك الشباب والشابات سؤالاً واحداً بصيغة ثابتة إذا كانوا لازالوا ينتمون للأحزاب اليسارية؟ معظم السجناء كانوا محتجزين منذ عام 1981، لأنهم شاركوا في احتجاجات الشارع، أو لحيازتهم على منشورات سياسية، ولم يعرفوا أن حياتهم ستعتمد على جواب ذلك السؤال!
أولئك الذين أجابوا بأنهم مازالوا مستمرين في الانتماء لمنظمات سياسية مُعارضة تم عصب أعينهم، ووضعهم في صف سيتوجّه إلى المشانق. لقد تم شنقهم عن طريق رافعات، أربعة أشخاص في كل مرة. وأحياناً تم تعليقهم عن طريق حبال عُلّقت في قاعة الاجتماعات بالسجن، ستة أشخاص لكل وجبة. البعض تم أخذهم إلى ثكنات الجيش، وأُمروا بكتابة وصياتهم ثم تم إطلاق النار عليهم عن طريق مجموعات خاصة. بعدها تم وضع مُطهِّر على أجسادهم وتحمليهم في شاحنات ودُفنوا في مقابر جماعية. بعد أشهر من ذلك التاريخ، استلمت عوائل السجناء التي كانت مُتلهفة لأي معلومات عن أبنائها أكياس بلاستيكية تحتوي الأغراض الخاصة للراحلين، ولم يتم إخبار العوائل تلك بأي معلومات عن القبور الخاصة بأحبائهم وأُمروا بعدم إقامة أي مجالس عزاء عامة. بحلول منتصف شهر أغسطس، تم إعدام الآلاف من السجناء بدون مُحاكمات، ومن دون حق الاستئناف، وتماماً بلا رحمة.
كان عليّ أن أترك إيران في عام 1982، لجأت إلى دولة الإمارات العربية التي وصلت إليها عن طريق الخليج الفارسي، بعد ذلك انتقلت من الإمارات للسويد. في صيف عام 1988 كنت أعيش في السويد. لم أعرف وقتها الكثير عن القتل الجماعي الذي حدث آنذاك، مثلي مثل الباقين في إيران وخارجها. سمعت وقتها أن المجازر تركزّت بشكل أساسي في سجون: إيفين وجوهردشت في طهران. لكن لا أحد كان يعرف وقتها عدد الذين تم إعدامهم. بعدها سمعت أن السجناء أنفسهم الذين نجوا من تلك التصفيات، لم يعرفوا بالتحديد ماذا حدث لزملائهم الذين شاركوهم الزنزانات، وتم اقتيادهم منها. بعد أشهر من تلك المجازر تم السماح لأهل الناجين بزيارة أحبائهم في السجن. عندها بدأت الصورة تتضح عما حدث، عن طريق الناجين أنفسهم والذين بدئوا يحصون زملائهم الذين لم يعودوا للزنزانات.
• هل تتبعّت خلال السنوات التي أعقبت تلك المجازر الجهود التي كان يقوم بها مواطنين من بلدك لتنظيم محكمة دولية لمُحاسبة الحكومة الإيرانية؟

بدأت في عمليات بحثي الخاصة بمجزرة عام 1988 في عام 2001. بعدها، بدأت مجموعة من الإيرانيين الذين يعيشون في الشتات جهودهم من أجل محاكمة النظام الإيراني. لقد استغرقهم الأمر ما يقرب من الأربعة عشر عاما لتنظيم هذه المحكمة. كنت مسؤولاً عن تنظيم الإعلام أثناء جلسات المحكمة، وتوزيع أخبار يوميات المحكمة إلكترونيا للمهتمين حول العالم. هذا في الوقت الذي كنت أُصوِّر فيه مشاهد لفيلمي “الذين قالوا لا”.
• عندما بدا مؤكداً أن المحكمة في طريقها لكي تصبح واقعاً، ماذا كانت خططك الأولية لها كصانع أفلام، هل كنت تريد أن تُصوِّر مايجري في يوميات المحكمة وعلى النحو الذي ظهر في الفيلم؟
لم أكن أعي وقت التصوير بأني سوف أستخدم مشاهد المحكمة بالشكل الموسّع والطاغي الذي شاهدته في النسخة النهائية من الفيلم. أخذت القرار أثناء عمليات توليف الفيلم. كنت قبلها قد جمعت مئات الساعات الفيلمية للزمن الذي سبق المحكمة. فريقي صور جلسات المحكمة في العاصمة الإنكليزية لندن، وفي مدينة لاهاي الهولندية. وضعنا عدة كاميرات في القاعات، وصورنا كل شيء وبدون توقف.
الأمر الذي انتفعنا به من هذه المحكمة بالنسبة لصناعة هذا الفيلم، هو أننا لم نحتج لإجراء حوارات مع أي شخصية، فالقضاة والمحققين قاموا بالمهمة نيابة عنا، وسئلوا كل الأسئلة المناسبة. هذا سهّل عملنا كثيراً. خاصة أني كنت مشغولاً طوال وقت المحكمة في عمليات نقل تفاصيل ما يجري عبر الإنترنت للخارج. هذا الأمر لم يترك لي الكثير من الوقت حتى أقود فريق المصورين أثناء تصوير جلسات المحكمة. بعد أن اطلّعنا على شهادات الشهود، والذين قُدِّر عددهم بحوالي 115 شاهداً. عثرنا على ما يُمكن اعتباره نواة أولية لبناء للفيلم، عندها قررنا أن نُركِّز على أقوال الشهود في الفيلم، لتُشكِّل هذه سرديّة الفيلم الأساسية.
• ماهي المشاكل والتحديات التي واجهتها أثناء تنفيذ الفيلم، أي المحطات كانت الأصعب: التصوير في إيران واليابان والسويد، أو تصوير حدثاً لا يمكن السيطرة عليه مثل وقائع المحكمة الشعبية الدولية؟

كما قلت لك، لقد بدأت هذا المشروع في عام 2001. صورت في عدة دول في الأربعة عشر عاماً الماضية، مُتتبعاً شخصيات مُتعددة، منهم ناجين من المجزرة، أوعوائل لناجين. الرحلة إلى اليابان كانت مُقررة كجزء من الفيلم. غرض الرحلة كانت مقابلة شخصية مُهمة اسمها: مصطفى بور محمدي، والذي كان عضواً في “لجنة الموت” وقتها، ويشغل اليوم منصب وزير العدل في الحكومة الإيرانية.
لم أواجه مشاكل أثناء تصوير محكمة إيران الدولية، ولا بعدها. أكثر التفاصيل صعوبة وخطورة في تنفيذ الفيلم، كان التصوير في إيران. لقد خاطرنا كثيراً بوجودنا هناك، فمن الشائع في إيران إرسال ناس إلى السجن أو الإعدام بسبب البحث في هذه القضية أو إذا تم إلقاء القبض على من يُصوِّر المقابر الجماعية خارج العاصمة طهران. لقد خطّطنا لأيام عن الطرق الأمينة للتصوير بدون أن نلفت انتباه السلطات الإيرانية. خاصة أن المقبرة الجماعية في منطقة خاوران كانت تخضع لحراسات مُشددة متواصلة من الشرطة الذين يرتدون لباساً مدنياً، لمنع أي مصورين أو إعلاميين من الوصول إليها.
كان مُهماً كثيرا من رحلاتي لإيران أن أجد شهوداً على ما حدث، أو يقدمون شهادات بشكل أو بآخر عن المجزرة الجماعية. هذا كان هدف زياراتي لإيران ومقابلة إيراينين بشكل سريّ. كمثال، قابلت أُمّ اكتشف جثة ابنها في أحد القبور الجماعية خارج العاصمة طهران، وحفار قبور قام بدفن بعض الضحايا بنفسه. أوعندما قابلت أية الله منتظري، الإمام الذي كان من المفترض أن يخلف الخميني نفسه.
مشروع الفيلم هو بلا تردد الأصعب في حياتي المهنية لليوم. يرجع ذلك جزئياً لأن المجزرة تعني الكثير لي على الصعيد الشخصي، ذلك أن أخي ومجموعة من أصدقائي كانوا ضمن الذين أُعدموا. كما كان من الصعب جداً إيجاد المواد الفيلمية والأرشيفية الخاصة بالموضوع، فحكومة الجمهورية الإيرانية الإسلامية ترفض الحديث عن المجزرة، كما تحاول منذ ذلك الوقت إخفاء كل الأدلة التي تشير إلى تورطها فيها. كان علينا أن نأخذ الكثير من الحذر والحيطة طوال فترة التصوير. لكني أؤمن دائماً أنه إذا كان المرء مُصرّاً على فعل شيء فسيصل لمسعاه رغم كل الظروف.