“الخودي” في محاولة لتفكيك الفكر الاستغلالي

ضاوية خليفة – الجزائر

 

المخرج مراد الخودي

يرى المخرج المغربي “سعد الشرايبي” أن المرحلة الحالية وما سبقتها بقليل اتسمت بالحضور الكمِّي الكبير للشباب السينمائي الذي أهلّه تكوينه وتوفُّر التقنية لاستيعاب المطلوب السينمائي”، كلام يُشعر المتلقي أن رهان المغرب على الجيل الجديد من السينمائيين الشباب كان موفقا إلى حد بعيد، بعدما أثبت وفي العديد من المحاولات أنه على قدر ووعي كبير بالمسؤولية، وما ساعده هو تفتُّحه على ثقافات الغير واستفادته من تجارب الآخرين، وهنا يمكن الاستشهاد بتجربة المخرج الشاب “مراد الخودي” الذي استطاع فرض نفسه بأعمال متميزة عكست قضايا مجتمعه ورسمت تفاصيله وأعطت تلك المواضيع بُعدا أكبر ونطاقا أوسع، فما يجعل هذا المخرج الشاب يتميز عن غيره من أبناء جيله، هو تنوع المرجعيات الفنية لديه والتي أفرزت زوايا نظر جديدة ومختلفة في التناول والطرح السينمائي وأحدثت تزاوج جميل بين المحلية والعالمية مثلما هو عليه أول أفلامه الطويلة “فورماطاج” أو تفكيك الذاكرة.

 

يبدو في فيلمك “فورماطاج” تأثرك بالسينما العالمية، ألم تخشَ أن تلغي هذه الصبغة محلية الموضوع وتؤثر سلبا عليه؟
بالفعل أنا من عشاق السينما العالمية، وأعتبر السينما من الضروريات التي لا تستقيم حياتي دونها، وتشبُّعي بمجموعة من الأفكار العالمية في هذا المجال جعلني لا أنحصر في سينما مغاربية، عربية أو إفريقية، حيث أسعى دائما لكسر حاجز المادة باستعمال وتوظيف أكثر للخيال، فمن الضروري توسيع مساحة التفكير حتى نتمكن من إنجاز أفلام تحاكي نوعا ما السينما العالمية وتشبهها في بعض التفاصيل مع الحفاظ على الصبغة المحلية، شخصيا أكون جد سعيد عندما أتحدث مع الجمهور ويقول أن أفلامي فيها هذا البعد واللمسة الإبداعية، ولو أنها تحافظ على تراثنا المحلي، فأنا أحاول دوما أن أبحث من خلال الشخصيات والديكور المغربي على كل ما هو جميل بشكل يخدم العمل ويعطي الفيلم أبعادا تليق بالشكل والمضمون، وهو الأساس الذي انطلقت منه في أول أفلامي المطولة “فورماطاج”، وجمعت فيه بين العالمية والمحلية وحتى لا تأتي إحداهما على حساب الأخرى، وكي أبتعد عن تقديم صورة نمطية عن مجتمعنا وبذا تكون لكل مخرج بصمته في معالجة أي ظاهرة.

يوحي عنوان الفيلم “فورماطاج” (مسح/ تفكيك الذاكرة) أننا سنشاهد عملا عن التكنولوجيات التي غزت العالم وغيّرت الكثير من المعطيات فيه، لكن سرعان ما تتغير الفكرة والانطباع، فأي تفكيك أردته وقصدته ؟

 

 

صحيح من العنوان يحسب الكثير أن الفيلم يتحدث عن  التكنولوجيا وتأثيرها على الأفراد والمجتمعات، لكني هنا أقصد فورماطاج (تفكيك) فكر إنساني رمزي من تلك الممارسات اللاإنسانية من تعذيب واستغلال جنسي وما جاوره من سلوكيات التي أسميها أنا “غوانتنامو” المقنن، وكأننا نعيش العبودية في القرن 21 وسط ضحايا اغتصاب وقمع، والسلطات لا تغض البصر عنها فحسب بل تقننها وسط صمت اجتماعي رهيب، أنا جد سعيد لأني ساهمت ولو بشكل بسيط وعلى قدر ما أوتيت من جهد في فضح هذه التصرفات والقضايا المسكوت عنها إن صح القول، فالجمهور الذي تابع العمل المقدم في دول عدة منها الجزائر كانت أثار الصدمة بادية عليه، نفس الصدمة التي أُصبت بها وأنا اكتشف هذه الممارسات، وحينما نكون أمام فكرة إنسانية يجب أن لا يطغى الجانب الفلكوري على الجانب الفرجوي والإنساني والتشويقي وهذا ما حاولت تطبيقه في فيلم فورماطاج.

 

 

 

أحداث الفيلم واقعية جرت بإحدى الزوايا الموجودة بالمغرب، والكثير يعلم الطقوس التي تُمارَس في هذه الأماكن والأضرحة، ألم تتخوف من رد فعل المُسَلمين أمرهم للزوايا والمدافعين عن نشاطها وسلطتها التي تعلو أحيانا على سلطة القانون ؟
وأنا أتكلم عن “بويا عمر” أقصد مجموعة من الزوايا التي تمارس طقوسا غريبة وتستغل المريض بطرق غير إنسانية، حتى لا أهاجم أحد وأستثني آخر، أنا ضد الفكر الشعوذي الذي يسجن الإنسان بالسلاسل بدافع معالجته من الجن والأرواح الشريرة، ويجعل الكثير يؤمن بأن شفاء هؤلاء المرضى والمصابين بيد الصالحين والشرفاء الموجودين بهذا المقام، أي الزاوية، كـ”بويا عمر”، و”سيدي بوسناسل” والقائمة طويلة، وبالتالي رأيت أنه حان الوقت لمواجهة ومحاربة هذه الأفكار الخاطئة والمغلوطة، وهذا لن يكون إلا بتصحيح بعض المفاهيم التي تسود في مجتمعاتنا، فلا يجب أن تكون للزاوية صلاحيات أكثر أو أن تعلو سلطتها عن السلطة أو القانون.

 

 

 

لقطة من فيلم “فورماطاج”

عكس الكثير من المخرجين الشباب الذين يفضلون العمل على الفيلم القصير لأنه اقل تكلفة ومشقة لهم، اتجهت أنت إلى الفيلم الطويل، ألم يكن صعبا عليك خوض هذه التجربة في هذا الوقت والسن بالضبط ؟
قد أفاجئك بالقول أني أصغر مخرج مغربي، بدأت السينما المحترفة في سن 16 وفي رصيدي اليوم من 12 إلى 15 فيلم قصير، كما أني أنجزت الكثير من السيناريوهات وأخرجت العديد من الأعمال للتلفزيون، أما “فورماطاج” فهو أول أفلامي المطولة، صحيح السائد في المغرب إنجاز ثلاثة أفلام قصيرة وبعدها نمرُّ إلى الفيلم الطويل، أما أنا ففضّلت مواصلة العمل على الفيلم القصير والأعمال التلفزيونية حتى أصل إلى النضج الذي قادني اليوم إلى كتابة وإخراج أعمال أقدم فيها متغيرات وقضايا المجتمع الذي أعيشه، وأُمثِّل البلد الذي أنتمي إليه وأرصد تحولاته المتعددة الجوانب، ففي الأخير لست سوى ناقل لقضايا الشعب وأفكاره، وهذه المسؤولية هي تشريف وتكليف في الوقت نفسه.

 

 

 

 أكيد أن الموجة الجديدة من السينمائيين ساهمت في تطوير السينما المغربية، فضلا عن هذا الوعي المبكر لدى الشباب ما هي العوامل التي جعلتها تبلغ هذه المكانة الهامة وتحقق النتائج المتقدمة ؟
سنة 2014 أنتج المغرب 28 فيلما طويلا وأكثر من 80 فيلم قصير، فلما نصل إلى هذا العدد الذي يُترجم 80 تجربة واستخرجنا منه 20 مخرج محترف متمكن لديه لمسة خاصة ورؤية سينمائية واعدة، فيمكن وقتها القول أننا نسير في الطريق السليم، صحيح السينما المصرية هي الأولى في العالم العربي تجاريا، لكن السينما المغربية وأقول هذا بناءا على أرقام وإحصائيات حديثة هي حاليا في الصدارة عربيا وإفريقيا، وعلينا كمخرجين شباب الحفاظ على المكانة المتقدمة التي وصلنا إليها اليوم، فلا مجال للتراجع بل مطلوب منا جهد إضافي حتى نُثمِّن ونكمل ما قدموه الرواد، خاصة وأن الإرادة السياسية موجودة و تدفعنا للنهوض بالقطاع السينمائي، فالآن بالمغرب أصبحنا نتحدث عن صناعة سينمائية من شأنها أن تدفع بالقاطرة ونصل إلى مراكز مشرفة ونبلغ خطوات أكبر، فالدعم الذي توليه الحكومة خدم كثيرا قطاع السينما بالمغرب.

من بين الانشغالات التي تُطرح في كل مرة “قاعات السينما”، كيف تحاولون مواجهة هذا التحدي أو تجاوزه بعد الخطوات الهامة والمحقَّقة في السينما المغربية ؟
بالفعل، يمكنني القول أن الثلث منها مغلق، وما بقي من قاعات تسير بالنمط الكلاسيكي فإما تجدها غير مكيفة أو تقع بأماكن غير آمنة وهذا الأمر أثرّ كثيرا على المشهد السينمائي في بلادنا، والمسؤولية مشتركة لا يتحملها السينمائي فقط، ويمكن بالمناسبة ذكر بعض المبادرات الهادفة والبدائل الجيدة كالمركبات السينمائية، مثلا مركب “ميجا راما” بالدار البيضاء، وبه 12 قاعة تعرض في نفس الوقت 12 فيلما، كما أن  الفيلم المغربي  يحصل سنويا على أكبر وأعلى الإيرادات، وإقبال الجمهور يصنع الحدث وتجده ينتظر جديد السينما في كل مرة يعني هناك اهتمام وتفاعل، كما أن الرهان اليوم قائم على مجموعة السينمائيين الذين يمتلكون أفكار ذات نوعية وطموح كبير وأعمال جيدة تستحق الدعم والتشجيع، كما يتطلع المغرب لإنجاز أزيد من 60 مركب سينمائي، في انتظار المزيد من الانجازات التي يراد بها النهوض بالقطاع وتشجيع السينمائيين على تحقيق طموحاتهم وخدمة الذوق العام، خاصة وأن التقنيات اليوم أصبحت في المتناول والرقمنة عامل يساعد على التوزيع والتسويق، فأطراف المعادلة لا تكتمل إن حضر الجمهور وغاب الإنتاج أو القاعة والعكس بالعكس، وإن غاب الوعي لدى الجمهور وكان الجديد ومعه القاعة فلمن يُعرض إذن ولمن ننتج، فلا يجب أن نسلم بهذه المشاكل بل علينا البحث دائما عن البديل.

هل صحيح أن اهتمام السينما المغربية بالواقع جاء على حساب التاريخ؟

 

 

لقطة من الفيلم

نفس الملاحظة خرجت بها بعدما تابعت منذ أشهر عرض مسرحي بالجزائر يتحدث عن الماضي، التاريخ، الثورة والمقاومة الجزائرية، وبدأت أبحث وأقارن وقلت في نفسي أننا في المغرب لا نتحدث سوى عن الزمان الآني ولم أجد تفسير للموضوع، ربما تبرير بسيط وجدته وهو شح المعلومة والمراجع التي نفتقدها كثيرا، سابقا فكرت في إنجاز فيلم عن شخصية من التاريخ المغربي كالزرقطوني، وأردت معرفة الكثير عنها، لكني لم أجد المراجع الكافية فتوقفت عن البحث وتوقف المشروع أيضا.

 

 

 

وهنا نعود للحديث عن مشكلة تدوين المعلومة وقلة الأرشيف، إذ تجد نفسك مضطر للرجوع إلى الواقع لتستمد منه الأفكار وتنطلق في بناء شخوص قصتك، جميل أن نناقش الواقع بطريقة سينمائية ولكن الأجمل أن نتناول تاريخنا الغني بالأحداث ونجد الطريق الذي يُسهِّل علينا الحصول على المراجع، مثلا فيلم “القمر الأحمر” لحسن بن جلون أعتبره وثيقة هامة في تاريخ السينما المغربية تُعرف بشخصية ومواقف “عبد السلام عامر” وهو قامة فنية مغربية وعربية لها تاريخ موسيقي مشرف، لكن لاحظنا في الخمس سنوات الأخيرة اهتمام واتجاه المخرجين إلى مواضيع تؤرِّخ لماضي البلد وتكرم أعلام الفن والثقافة، وهذه خطوة هامة تلغي كل أشكال النسيان، والفضل كذلك يعود للإرادة السياسية التي تحثّنا على إنتاج ولو فيلم في السنة يُعنى بتاريخ المغرب، وهذه الخطوات تخدم تاريخنا وتُثري المشهد السينمائي في الوقت نفسه.

رغم وصول أعمال الأدباء المغاربة إلى منابر عالمية – منهم من رُشِّح لنيل جائزة نوبل للآداب وآخر ينافس على جائزة البوكر الأدبية وغير ذلك- إلا أن المخرج في هذه الدول لا يتجه إلى الاقتباس من الأعمال الأدبية هل هو كسل أم ما تفسيرك للظاهرة ؟
نعم هو الكسل، كما أن الفكرة هذه غير رائجة في الوطن العربي بسبب عدم التواصل بيننا، ففرص اللقاء بين المبدعين تكون بالمهرجانات وللأسف بمجرد انقضاءها يعود الكل إلى دياره وينغلق على نفسه، لا يوجد تواصل مثلا بين السينمائيين والأدباء، هناك سبب آخر أيضا وهو شح المعلومة في وطننا العربي، أعطيك مثلا، من فترة أردت قراءة بعض أعمال الأديب الكبير “فيكتور هيجو” قصدت البوابة الإلكترونية وقمت بتحميل كل أعماله بلا مقابل، نفس الشيء بالنسبة لأعمال الكاتب الفرنسي “ايميل زولا” تحصلت على أعماله بدون دفع أي درهم، وبالمقابل قمت بالبحث عن أعمال كبار الأدباء العالميين العرب كـ “نجيب محفوظ”، وهنا وجدت مشكلة في البحث بل لم أعثر على أعماله، بمعنى أنه لا توجد لدينا مراجع على الإنترنت، الشح الكبير في المعلومة لا يساعدنا كمخرجين فكيف لنا أن نقتبس من أعمال لا نسمع بها والحصول عليها ليس متاحا، أما إذا بحثنا عن شيء يتعلق بالغرب فنجد كل التفاصيل متوفرة، وهذا ليس تهرُّبا من السؤال، بل علينا تحمُّل مسؤوليتنا تجاه هذه القضية، كم تمنيت مثلا وأنا بالجزائر أن ألتقي روائي ويقترح عليا نصا روائيا جميلا نشرع في العمل عليه وأركن قلمي جانبا، لكن هذا لم يحدث للأسف، نحن وأفكارنا بحاجة إلى التلاقي، والمسؤولية لا يتحملها المخرج فقط والكاتب بل الإعلام وأطراف أخرى شريكة أيضا في العمل الإبداعي.

هذا الأمر أصبح ضرورة خاصة بالنسبة للدول المغاربية التي لها تاريخ كبير مشترك ومختصر في شكل كتب ومؤلفات، يتطلب أن يترجم في شكل أعمال مسرحية أو سينمائية، أليس كذلك ؟
بالفعل هناك دول تتراجع على أكثر من مستوى وتُقصِّر في حق ماضيها وتاريخها وأخرى تقدمها المتسارع يصنع الحدث في كل مرة، كما أننا اليوم أمام مشكلة حقيقية وهي تراجع القراءة، فالكتاب الورقي مهدد بالزوال بسبب الانتشار الواسع للتكنولوجيات الحديثة والمعلوماتية، فالكثير بات يُفضِّل الانترنت التي يتحكم فيها وتختصر له الوقت، تُقرِّب له المسافات وتمنحه الكثير من البدائل والحلول على اقتناء الكتب والجرائد والمجلات ساعات أو أيام بعد صدورها ويتأخر في الحصول على المعلومة مثلا وهذا خلق لدينا نوع من الكسل، الاستعانة بالانترنت ليس عيبا لأن لكل زمن متغيرات وعلينا مواكبة هذه التحولات، بينما المطلوب الآن مكتبة عربية على الانترنت لنأخذ منها ما نريد بالمجان أو بمقابل، المهم أن توفر لنا المراجع الأساسية، والحق في المعلومة أصبح أولوية ما دمنا نتهرب من القراءة والورق، ومن الضروري البحث عن بديل والانترنت جزء من ذلك، كما أنه حان الوقت لبحث سبل تعاون أكثر.

بعد تجارب في الفيلم القصير والطويل، هل ستتجه مستقبلا للعمل على الفيلم الوثائقي مثلا ؟
في الحقيقة أميل كثيرا إلى الفيلم الوثائقي ولهذا أتمنى انجاز سلسلة وثائقية مثلا عن “معركة الملوك الثلاثة”، في الواقع هناك قصص كثيرة للمعالجة ولكن لم أستقر بعد على فكرة معينة، حاليا منشغل بسيناريو جديد اخترت له عنوان “أوكسجين” وسأكشف عن تفاصيله في الوقت المناسب، والوثائقي يبقى اهتمام واحتمال وارد مستقبلا.
 


إعلان