التونسي “بن محمود” .. قلق الهويّة
وسيم القربي – تونس

ولد محمود بن محمود بتونس سنة 1947، عاش في تونس قبل أن يختار الاستقرار ببلجيكيا حيث درس السينما بالمعهد العالي للفنون البصرية ببروكسل، أنجز عدة أفلام روائية من أبرزها “عبور” سنة 1982 و”شيشخان” سنة 1992 و”قوايل الرمان” سنة 1999 و”الأستاذ” سنة 2012 بالإضافة إلى مجموعة من الأفلام الوثائقية. ويعتبر بن محمود من المخرجين التونسيين الوازنين غير أنّ استقراره اليوم ببروكسل جعل من البعد شحنة انتماء عبر الاستلهام من المشاغل العربية والاستناد إلى التمويلات الأجنبية في ظل الاغتراب الذي يعيشه ، والإحباطات التي عاشها مع القائمين على الشؤون الثقافية في تونس وغياب الدعم. محمود بن محمود، الرجل الهادئ، بسمته مرسومة دائما وفكره دائما منشغل بحنين وقلق غامض في الآن ذاته، وهو ينكبّ حاليا على الإعداد لفيلمه الجديد. التقيناه، فكان الحوار التالي:
سنرجعك إلى ذكريات الشباب، كيف كان ولوجك إلى السينما رغم أنك من عائلة تنتمي إلى الوسط الديني آنذاك؟
تربيت في وسط ديني ووسط متناقض. والدي كان متصوفا وكان يمارس مهنته كأستاذ بجامعة الزيتونة، لكنه في المقابل كان مولعا بالفن والمسرح والموسيقى حيث كان يدرّب الفنانة حبيبة مسيكة على إتقان اللغة العربية، فوالدي لم يكن يعتبر الفن من المحظورات.
استفدت كثيرا من هذا الموروث وأردت دراسة السينما في حين كان والدي يقبع على فراش الموت. وبالرغم من ذلك عمل كلّ ما في وسعه لكي أحصل على منحة لدراسة السينما في الخارج. كيف لشيخ متصوّف، أصيل عائلة متخصصة في الدين منذ ما يقارب 300 سنة، أن يسمح لابنه بدراسة السينما؟ ولدت في أرضية دينية ووالدي لم يكن متزمّتا بل متفتّحا حيث كان يشجعنا على سماع الموسيقى ومشاهدة المسرح في فترة الخمسينيات والستينيات. إنه التناقض العجيب، وله الفضل في تكوين شخصيتي السينمائية.
وهل تناولت الدين كمرجعية أو كموضوع في أفلامك؟
لم أتناول موضوع الدين في أفلامي إلا منذ عشر سنوات بعد التغيرات التي حدثت في العالم وفي المنطقة وفي تونس تحديدا. أظهرت التسامح والدين في الفيلم الوثائقي “وَجد” سنة 2000، قبل ذلك أنجزت فيلم “شيشخان” و”قوايل الرمان” ومجموعة من الوثائقيات عن الممثلة الإيطالية والتونسية المولد كلاوديا كاردينال وعن السينمائي في الزمن الكولونيالي ألبرت شمامة شيكلي. لكن فيلم “وجد” الذي كان اسمه الأول “ألف صوت وصوت” تناولت فيه موضوع الدين عبر تقريبه من سيرتي الذاتية لأنني استحضرت من خلاله والدي كرجل دين يمارس الترانيم الصوفية.

بعد أفلامك الروائية التي تناولت مجموعة من القضايا، أنجزت مجموعة من الوثائقيات التي اهتمّت بالفسيفساء الاجتماعية في تونس, لو تحدّثنا عن هذه التجربة؟
في فيلم “عبور” تناولت قضية المهاجرين وقمع شرطة الحدود وكان ذلك تسليط الضوء على الأنا في العالم الغربي، أما التجربة الوثائقية فقد اهتمت بالجالية الإيطالية التي تعيش في تونس حيث اكتشفت أنا والمسرحي الفاضل الجعايبي قرابة 3000 إيطالي لا يزالوا يعيشون في تونس ويتكلمون العربية وبالتحديد في منطقة حلق الوادي. في تونس كانت هناك إرادة لطمس التاريخ وطمس الأقليات غير المسلمة حتى في عهد الزعيم بورقيبة.
التلفزيون الإيطالي ثمّن أفلامي الوثائقية وطلب مني إنجاز فيلم وثائقي يقتفي الأثر السياسي الإيطالي في تونس.
صوّرت أيضا وثائقيا بعنوان “أناستازيا” بمدينة بنزرت، كما صوّرت فيلم وثائقي عن أول سينمائي في تونس وهو الفرنسي ألبرت شمامة شيكلي الذي أخرج أولى الأفلام في تونس “زهرة” سنة 1922 و”عين الغزال” سنة 1924.
أردت من خلال أفلامي أن أتحدث عن التعددية التي تربينا عليها منذ القرن 19 في تونس فحتى في عهد الاستعمار والديكتاتورية لم تنطفئ تلك الشمعة.
فيلم “الأستاذ” هل كان بمثابة التحدّي لنظام بن علي؟
فيلم “الأستاذ” بالرغم من موضوعه الحسّاس إلا أنه تمكّن من فرض كفاحه ووجوده في عهد الديكتاتورية السابقة، لكن المسؤولين اليوم لا يمكن لهم أن ينصتوا للفنان لأنّ الأولوية اليوم للسياسة وليست للثقافة. سنة 1977 تأسست أول منظمة حقوقية في العالم العربي وإفريقيا باعتبار أنّ تونس بها مجتمع مدني في حالة مخاض دائم مما أفرز ارتباكا للسلطة وإحراجا لها وهو ما جسّمته في الفيلم. “الأستاذ” هو فيلم تاريخي يجسّد موروثا للنخبة التونسية التقدّمية، وهو بمثابة التحدي الإيديولوجي والثقافي لمن يريد تزييف التاريخ.
في تونس هل يمكننا الحديث عن سينمائيين يتفرّدون بإنتاجات مدروسة؟
السينما التونسية هي سينما فردية, فالنمط والمضمون هي مناهج من اختيارات السينمائي على عكس السينما الجزائرية التي تهتمّ أساسا بسينما الثورة والمقاومة. سينمانا هي سينما متلونة، عندما نشاهد أفلام الناصر خمير وفريد بوغدير ومفيدة التلاتلي ورجاء العماري نلاحظ أسلوبا مغايرا، لكل مخرج اختياراته الفكرية والجمالية، كل سينمائي له منهجه وعالمه الخاص. السينما في تونس هي سينما مؤلف ولو أنه هناك بعض الاستثناءات لأفلام تجارية، فيلم “السيّدة” لمحمد الزرن حقق 450 ألف مشاهدة وهو أعلى رقم مشاهدة لفيلم تونسي في القاعات السينمائية ونجاحه يرجع إلى كونه اهتمّ بحيّ هامشي فكانت الصورة بمثابة مرآة صادقة عن المجتمع.
كيف تقيّم الوضع السينمائي في تونس ولماذا لا نشاهد إنتاجاتك السينمائية السابقة لا سيّما أفلامك الوثائقية في تونس اليوم؟
مع الأسف لم أستطع إعادة بث أفلامي في عالمنا العربي لأنّ جلّ المقترحات تأتي من أوروبا، في تونس لا توجد قاعات سينما كما لا توجد اهتمامات بأفلامي. الحرية التي اكتسبناها بعد الثورة لم تستفد منها الثقافة بتاتا بل إنها انعكست سلبا عليها باعتبار أنّ التلفزيون والشارع والجمهور لم يعد مهتما إلا بطاولات الحوار الليلية التي تهتم أساسا بالقضايا السياسية. الجمهور التونسي متعطّش للسياسة أكثر من السينما لأنه كان محروما من إبداء الرأي، كما أنّ التلفزيون التونسي انقطع عن المشاركة في الإنتاج السينمائي منذ سنوات لأنه كان يقوم سابقا بذلك وفقا لإرادة سياسية تريد خدمة الرئيس المخلوع.
بعد الثورة لا يوجد أيّ مسؤول سياسي يمكن أن نطرح عليه القضايا الثقافية والسينمائية، فما بالك أن نطرح قضية مشاهدة أفلام قديمة بالرغم من أنها لا تزال ملائمة لأحداث اليوم. اليوم نحتاج إلى منتجين حقيقيين يستطيعون توفير الدعم من القطاع الخاص حتى لا نبقى تحت رحمة دعم حكومي قد يأتي وقد لا يأتي.