“ماء الفضة”: ترميم الشعور بالذنب
د. أمــل الجمل
في أحدث أفلامه “ماء الفضة”، ذلك الشريط الوثائقي حول المأساة السورية، فاجأنا المخرج السوري القدير أسامة محمد بوجود اسم يُشاركه الإخراج على تتر الفيلم، وئام سيماف بدرخان، فتاة كردية من حمص قامت بتصوير لقطات عديدة ضمن العمل، إلى جانب لقطات أخرى صورها نشطاء وشهداء سوريون بهواتفهم النقالة.
سيماف – مثل هؤلاء المجهولين – لم تقم بإخراج أي أفلام سينمائية روائية أو وثائقية من قبل. وجود اسمها على التتر لم يكن باعتبارها مشاركا في التأليف أو التصوير ولكن باعتبارها مشاركاً في الإخراج مما جعلني أتساءل؛ إلى أي حد شاركت في صُنع هذا الوثائقي، وفيما تمثلت مشاركتها، هل شاركت في وضع التصور العام للفيلم، هل شاركت في المونتاج، وتلك العملية البنائية التي تتطلب الاستبدال والإحلال والحذف والإضافة، وهو بدوره أمر يستدعي طرح سؤال آخر عن معنى أن تكون مخرجاً، خصوصا أن مخرجين عرب آخرين قاموا بمحاكاة التجربة ذاتها من دون أن يجعلوا لهم شركاء في الإخراج.
الجزيرة الوثائقية التقت المخرج أسامة محمد أثناء وجوده بالقاهرة وبدأت حوارها معه من تلك اللحظة التي وُلد فيها الفيلم؛ هل تم ذلك عندما تواصلت معه سيماف برسائلها فانبعثت فكرة جنينية للعمل في مخيلته ثم أصبح الفيلم مثل عملية تتطور ويتم بنائها بالتدريج أم أن هناك بداية أخرى؟
أسامة: توجد بدايتين للفيلم؛ بداية افتراضية كانت موجودة في مخيلتي، ومنها جزء ممكن أن نقول أنه ليس افتراضيا تماما، هو بخياري راغبا ومضطرا، لكن راغبا أكثر أكيد، لأني كنت أكتب مجموعة نصوص على شكل مقالات نشرت في الصحف، كانت قراءة سينمائية في البنية البصرية والدلالات البصرية لصور الشهداء المجهولين السوريين.
هذه النصوص كتبتها، ونشرتها منذ 2011، وهى تُشكل جزءاً من البنية الفيلمية، كأنها سيناريو لو صح التعبير، وكأنها أسئلة حول العلاقة بين الدلالة السينمائية البصرية مع اللحظة الإنسانية الاستثنائية التي تمر بها سوريا، وفيه ناس تسقط، وهؤلاء الشباب وهم يصورون كانوا يكتشفون السينما.
هذه هي البداية الافتراضية وغير الافتراضية، فجزء كبير من المشاهد التي كتبت عنها هي فقرات رئيسية بالفيلم بعد أن اشتغلت عليها، مثل الولد في بداية الفيلم، مثل الولد مع أبيه، مثل الشاب في النادي السينمائي. أشياء منها كتبتها على صفحات التواصل الاجتماعي فيسبوك، وأشياء منها كتبتها في الصحافة.
– ومن أين جاءت البداية الثانية؟
– بصراحة، بدأ الفيلم من لقطة في ميدان التحرير، ليس بالمعنى المباشر للكلام، لكني أتكلم عن اللحظات التي سببت عندي إغواء بصُنع فيلم، لحظات لا يصحّ أن يتركها المرء للتليفزيون، أو لنشرة الأخبار، ولا أن تُمتهن. لحظات لابد من احترامها. في اللقطة الأولى بميدان التحرير رأيت أحدهم يُصوِّر جريحاً محمولاً على نقالة، واضح إنه مصاب. اللقطة الثانية بالسلب، الناس تسير والدم أصبح أسود. حين رأيت هذا شعرت أن أحدهم داخل اللحظة، يشارك فيها، ويُصوِّرها، لكن صار لديه عين إضافية، فهناك علاقة بأهمية التعبير اللغوي بهذا الشيء.
أتذكر هذا اليوم العجيب، كنا أنا وعمر أميرالاي – كان لايزال موجوداً – كل يوم صباحاً نقرأ التقارير والأخبار ثم نتداول ونحكي. في ذلك اليوم قلت له: “بالأمس شاهدت لقطة فظيعة.” فرد علي: “هذه اللقطة تبع الدم على الأسفلت؟” قلت: “تماماً.” كانت لافتة بصريا. من هنا بدأت القصة. عندما ظهرت سيماف منحتني إحساسي بالمشروع، الشعور بقوة كبيرة بأن الحدس كان يذهب في مكانه الصحيح، كان لا يمكن للحدس أن ينتظر هكذا مفاجأة. مفاجأة ممتازة. عظيمة.

– وما هي الأسئلة التي كنت تريد أن تطرحها، أو تلك التي طرحت هي نفسها عليك؟
– كان هناك سؤالين؛ سؤال الحرية بكل دلالاته، وسؤال الحرية السينمائية، أنا كنت أشاهد على السينما، وعندما أقول كنت أشاهد السينما فهذا ليس تقليلا من قداسة ما كان يحدث، أو من محاولة الشعب السوري، فمحاولاته هي دائما نقطة إضافية، لأنه بالإضافة إلى كل شيء كان يُصور، ويخترع شيء. كان يُنقذ رواية من الفناء. كان لديه هذا الحس، الأحاسيس في ذكائها العظيم تدرك أن أمامها وحش وأنه ليس أمامها متسع من الوقت للتفسير أو الشرح والتبرير.
– يستوقفني إيمانك بهؤلاء المجهولين، أقصد إيمانك بأنهم صناع فيلم..!
– حدثتك سابقاً عن احترام بعض اللحظات التي لا يجب ألا نتركها تُمتهن، فأحد أشكال احترامها يأتي من الاعتراف بكونهم مؤلفين مشاركين ورواة هذه الحكاية، لهذا كتبت على التتر “هذا فيلم.. ربما”، لأنه لم يكن يفرق معي أن يكون اسمه فيلم أم لا، فليكن كيفما يكون. وقتها شعرت أنه شيء جديد سوف أسير فيه، لذلك كُتب “فيلم.. ربما”. لكن أكيد أنهم كانوا شركاء في الحكاية.
– أليس أنت الذي كنت تبني الفيلم، وأنت مَنْ قام بالقطع المونتاجي..؟!
– للحظة، عندما نقول أن هذا الشخص هو المؤلف فهذا يمكن شرحه بكثير من الكلام المهم جداً. لما سيماف ظهرت وبدأ ظهورها بالنص نفسه رأيت أن النص نفسه يمتلك بنية بصرية، ورأيت أن هذا النص يمتلك كل الشرعية في أنه “يشبه نصّ سينمائي” وأن الذي يبقى علي أن أقوم بـAdaptation – أي فعل الأفلمة أو المعالجة لهذا النص – وحتى حين لا يتوفر صور منها فهناك صور المجهولين، إنه اللحن البصري الذي يسري به كل الفيلم، بصورها، وبصور المجهولين السوريين التي ترمِّم الزمن، وتخترع الجغرافيا الحقيقية التي يصورونها في تلك اللحظة، كنت أمام جسدين، فيه شيء مدهش، جسد مثل القلب لا يتوقف وإذا توقف يموت، وهؤلاء الناشطين الذين يصورون والذين لم يتوقفوا بدءاً من أول يوم.
في كل لحظة هناك شخص يصور. في كل لحظة الزمن يُرمم بعضه، ويستمر وينبض عوضاً عن الآخر، فهذا الجسد بدا لي مثل الموقع المكاني والزمني، بورتريه لسوريا، لذلك عندما تظهر سيماف فيه هي التي تُناوب، تأخذ المناوبة فتُصبح المناوبة امرأة كردية بلغة ناصعة، شخصية جدا، جمالية، فيها شيء جديد، لأنه كل خواص الزمن الاستثنائي موجودة بها، لذلك عندما تظهر تصبح الممثل الوحيد والشرعي للشعب السينمائي السوري بهذا الفيلم، عندما تختف قسرا ويبدو لك أنها في خطر شديد، أو ربما سوف تظهر وربما لن تظهر فتبدأ تبحث عنها في نفس الجغرافيا، في نفس الزمن أي وسط صور الناشطين، في هذه المدينة حيث هي، فتصير هذه الصور التي لم تصورها هي، وكأنها بحث عنها، وكأنك ترى.
– وهل كان الوضع يختلف لو كانت سيماف رجل وليس امرأة؟
– هي منحت لي عامل أساسي، “الحظ”، من حظي أنها امرأة، لأنه قد يبدو للمرء ظُلما أنها ثورة رجال، لكن هذا ليس صحيح أبدا، فالأعباء التي نالت الأسر والنساء والأمهات لا يتحملها لا عقل ولا طاقة زمنية، بدءا من الموت إلى الخوف على الأحبة، إلى الحصارات وعدم وجود الطعام والشراب، إلى رعاية الأطفال، والنزوح وتأثيث بيوت، في ظل شروط مهينة لاستمرار الحياة. كل هذا في وجود أن الذي خاطبني امرأة جعلني أشعر أنه شيء ليس فقط يتمم الجسد أو الممثل الشرعي، أنها ليست فقط الطبقة الداخلية لما كنا نرى، حيث يصبح البطل شخصي، كما في الرواية. إنها الشخص والكل، فلا تحسب أنك جرم صغير وفيك انضوى العالم الأكبر. برأيي أن هذه هي سوريا.
– هل كنت بحاجة إليها؟
– في لحظة ما كان عندي شعور أن هذه الشخصية التي ظهرت لي فجأة وتُبدي حاجتها إليّ في نفس اللحظة التي كنت أنا أحتاج إليها، لأنه مثلما أنا بحاجة إليها هي كانت بحاجة إلى. هى أتاحت لي فرصة الرجوع إلى سوريا، وأن أرمم هذا الشعور بالذنب المستمر، شعرت أن هناك من يمنح لي الفرصة كي أتعافى. إنها سوريا التي جعلتنا نلتقي. أنا ذات مرة كتبت لها رسالة أقول فيها: “هذه سوريا التي جعلتنا نلتقي.” هذه هي البنت السورية التي آمنت بها، كما أنها ترفع القصة لمستويات مختلفة، هي ليست كما يبدو للمرء حركة وصدام وكذا، فالثورة السورية كانت مقترح جمالي عالي جدا. سيماف تشبه بدايته لكن تقولها بطريقة شخصية ودائما الشخصي يفتح آفاقاً جديدة ويمكن أن يُضيء الكلي، فهناك الذي يفتح مدرسة تحت الحصار، والذي يجعلهم يشاهدون سينما تحت الحصار، ومن يُرمم لهم الخوف والذي يجعلهم يضحكون رغم كل ما حولهم. أليس هذا حضارة وجمال.
– وإذا عدنا للتساؤل عن أنك أنت الذي كنت تبني الفيلم، وأنت مَنْ قام بالقطع المونتاجي..؟!
– سيماف جعلتني أشعر أنني أمام سينما قد تكون جديدة ومختلفة، والحرية فيها حرية استثنائية، حرية أن يكون هناك أكثر من مؤلف. بل، أن يكون هناك آلاف المؤلفين، وأن الشخص الذي بدأت معه الحوار، والذي من الممكن أن تقوم بعمل معالجة لحواره في لحظة ما، جعلني أسأل نفسي: أليست هذه اللحظة التي يجب على السينما وعلى الأدب أن يقول أن الشخصية عندما تتحرر فعلا وتخبر مَنْ يظن نفسه المؤلف الوحيد، ما لم يكن يعلم، حتى لو كان الواحد يكتب الأدب الحقيقي، هل الشخصية تبقى اسمها شخصية أم مؤلف شريك؟ في كل السينما الروائية العظيمة الممثلون الحقيقيون الكبار كانوا مؤلفون شركاء بالفيلم، الشخصية هي التي كانت تكتب الفيلم.
ليس دائما المخرج هو الذي يعرف كل شيء. هناك مرات كثيرة نجد الشخصيات – نسائية أو رجالية – هم الذين كتبوا شيئاً جديداً، لأن الجديد في السينما هنا ليس هو المشهد المكتوب بالسيناريو، ولكنه هذا العالم من الإرسال الذي يصنعه الإنسان، هذا ما حدث معي في اللحظة التي شعرت فيها أن هذه سوريا، وهذه بنيتنا، وهؤلاء الذين داخل الفيلم مؤلفون شركاء، حين كانت سيماف تصور الطفل عمر بهذه الطريقة كانت تصور ذاتها، كانت تصور “داخل” لا يمكن إلا أن يكون داخلها هي، فهى مؤلفة شريكة. صحيح أنني وضعت الصيغة الكلية والبناء الكلي لكن هناك شخص شريك.
– إحساسي أنهم شركاء في التأليف أكثر من كونهم شركاء في الإخراج..
– أكيد أنا من قمت بصياغة الفيلم، ما لم يكن مشهداً صار مشهدا من خلالي، لكن لماذا سجي أن يجيد أحدهم المونتاج مثلا حتى يصير اسمه مخرج، يكفي أنه يصور لحظة استثنائية أو لحظتين ثلاثة بالتاريخ. اللقطة صحيح أنها لقطة بالتوصيف المهني لكن هناك شيء يمنعني أن أكتفي بوضعها في هذا التصنيف وفقط.
هناك إنسان يمنحك مادة بناء فيلم لم تحدث في التاريخ، وأنت تستخدمها لتبني الفيلم، قناعتي أنهم شركاء.. بالنسبة لسيماف فالنص الذي كتبته أنا به مقاطع من نصها هي، أما تحويل هذا إلى مشهد بصري فأكيد أنا من قام به، لكن هذه الجُمل التي أخذتها من نصها كانت تحكي الحكاية ببنية جمالية عالية. صحيح أنني قمت بعمل البنية الداخلية الإيقاعية للفيلم لكن لولا أن هناك مادة هكذا ما خرج الفيلم بصورته النهائية، بالإضافة إلى أن الطريقة التي كانت سيماف تصور بها اللقطات لم تكن مجرد تصوير ولكنها كانت أثناء التصوير تعبر عن أن شخص يحكي حكايته هو الداخلية.