اللامرئيّون وملك الجبال

ندى الأزهري – داكّا

 

يارا لي

اسمها يعني قطرات الماء, ربما لهذا تحب الطبيعة..

 

“يارا لي” المخرجة البرازيلية من أصل كوري، تسجل مع فريقها يوميات الصعود إلى K2 الجبل الأكثر علوّا في العالم بعد الهيمالايا.. ليست مشقّة الصعود  بالنسبة للمغامرين أمثالها ما يهمها بالفعل، بل شجاعة وتحمّل هؤلاء الحمالين الذين يرافقون الصاعدين وهم يحملون مايزيد عن الخمسين كيلوغرام على ظهورهم. لا يشكون بل فقط يصعدون، بملابسهم الرثّة وأحذيتهم البلاستيكية، ليصلوا إلى القمة حيث الارتفاع 8611 م… فقط!

“لولا هؤلاء لما استطعنا الصعود”، يقول الصاعدون القادمون من شتى الأرجاء وتقول يارا. في هذه الطبيعة الساحرة والشديدة القسوة، تعتبر مرافقة الباحثين عن المغامرة والطبيعة مصدر الدخل الوحيد للحمّالين المشاة. خطر مائة في المائة ولكن ثمة أوقات للغناء وللمرح في الفيلم الوثائقي “K2 and the Invisible Footmen” كما ثمة حوارات رائعة تلقائية، لم تكتبها المخرجة. هي على سبيل المثال حين تعلّق على الجوّ مخاطبة أحد الحمالين” برد شديد، ما تظنها درجة الحرارة؟” يرد مبتسما “حرارة!! ما معنى هذا؟؟ أنا رجل أميّ!”، وعندما تسأل عما يريد فعله بعد توقفه عن أداء هذا العمل الشاق يرد ضاحكا “ماذا بعدها؟! بعدها سأكون سعيدا إن بقيت على قيد الحياة”!

وجوه ضاحكة دوما حفر فيها البرد أخاديد، ولقطات فريدة كهذا الرجل بلحيته المجمدة وماء مجمد سائل من أنفه، إيقاع وسكون لا يقطعه سوى لهاث الصاعدين… واستغراق لا يفارقنا في كل مشهد.

لكن “يارا لي” التي فاز فيلمها هذا مؤخرا بجائزة الفيلم الوثائقي في مهرجان داكا السينمائي الدولي، قسم سينما المرأة، لا تنجز أفلاما عن الطبيعة فقط، لقد عُرض لها كذلك في المهرجان”الحياة تنتظر: الاستفتاء والمقاومة في الصحراء الغربية”، موضوع سياسي حساس، تلتقي المخرجة فيه مع صحراويين مقاومين” للاحتلال المغربي”، مقاومة سلمية حيث للأغنية والقصيدة ولغة الجسد الراقص دورها في بث الحماس وتحفيز الناس والتعبير عن أحوال الصحراويين وسعيهم للحفاظ على هويتهم، ومثلا “الخيمة التي تمثل للصحراوي حياته قد منعت عليه من قبل المغرب وتمسكّنا بها لأنها رمزنا، إنه نوع من المقاومة الصحراوية لطمس الهوية”. ثمة متابعة في الفيلم لمسيرة دولية للنساء ولقاء مع هؤلاء الذين يعيشون في المنفى” في إسبانيا البلد الذي باعنا منذ أربعين سنة ومن الصعب أن نكون منفيين فيه”، وتترد أقوال الصحراويين “يستطيع أولادي العيش أيتام ولكنهم لا يستطيعون العيش بدون كرامة”.
موضوع كل منهم ينظر إليه باتجاه ومن زاوية مختلفة.

في أفلام يارا لي ” الفن ليس للفن”  وثمة علاقة للفن مع المقاومة و اللاعنف. هي تعمل كناشطة وتستخدم “الفن لمقاومة الظلم والقمع” (عنوان أحد أفلامها)، في أفلامها الستة تلقي الضوء على المسحوقين والمظلومين والمنسيين… لقد عملت من أجل الفلسطينيين و كذلك مع اللاجئين السوريين منذ بداية رحلة لجوئهم. هذا حوار معها.

تبدأ بحماس…

– الفن والإنسانية متلازمان. ينتهي الفن فيبدأ العمل الإنساني مع مشاريع لمساعدة الناس. في قضية الحمالين المشاة وعائلاتهم  أردت لفت النظر لقضيتهم، إنما ليس فقط بإنجاز التحقيقات! في بيشاور قالوا لي” كل يوم صحافيون ومصورون وإعلاميون… ولكن لا شيء يتغير! لا نريد الإعلام نريد مساعدة حقيقية”.

– وكيف تقدِّمين لهم العون؟

– لدي منظمة إنسانية، ولكني لست بحاجة لرعاة وممولِّين لها. أنا أستثمر في البورصة، في الطاقة البديلة مثلا وأعطي من أموالي ولهذا لديّ حرية تعبير كاملة. لقد قامت حرب إعلامية ضد  فيلمي عن الصحراء الغربية وألغي عرضه في بيروت وأبوظبي وبلجيكا ومؤخرا في الشارقة والحكومة المغربية تحاول منع عرض الفيلم. إنهم يلغون العرض في اللحظة الاخيرة وبعد الإعلان عنه في برامج تظاهراتهم!

 

لقطة من فيلم “اللامرئيون وملك الجبال”

– لاحظنا في فيلمك” الحياة تنتظر: الاستفتاء والمقاومة في الصحراء الغربية”،  أنك اكتفيت بطرح وجهة نظر واحدة وعرضت أحوال وأقوال جهة واحدة وهي “الصحراويون المقاومون”، ألا تعتقدين أن الحياد واجب في الفيلم الوثائقي وأنه يجب تقديم آراء كل الأطراف؟

 

– أنا أعطي مساحة إعلامية لمن ليست لديهم السلطة أو القوة، لمن ليست لديهم الوسائل للتعبير عن مواقفهم. وهذا هو حال الصحراويين، فلا فرص تمنح لهم للكلام ولطرح قضيتهم، والكثيرون لا يدرون شيئا عن هذا الأمر.

– نعود إلى فيلمك “K2 الحمالون المشاة اللامرئيون”، الحائز على جائزة الفيلم الوثائقي في مهرجان داكا، كيف جاءتك فكرته؟ هل كنت على علم مسبق بظروف الحمّالين وأردت تسلق الجبل معهم وإثارة قضيتهم؟

– جاءتني الفكرة مع الاحتفال في الباكستان بمرور مائة عام على تسلّق هذه الجبال. تساءلت مع رفاقي لمَ لا نصور فيلما حول هذا الموضوع؟ هكذا نظمت حملة للتسلق مع بعض الأصحاب من كندا و عدة بلدان أمريكية وآسيوية… وبدأنا الرحلة.

– هل كتبت سيناريو للفيلم قبل الصعود؟ لقد كان الحمالون في منتهى العفوية، فهل عرفوا بأنهم قيد التصوير من أجل فيلم؟

– لم أكن أعرف كيف سيتم الفيلم وكيف ستسير الأمور على هذا الارتفاع… ولم أهتم بالصاعدين معي حقا إلا  بقدر ما يتطلّبه الفيلم ولقد ساهموا كلهم معي في تحقيقه. أما الحمّالون فلم أعلن لهم في البدء نيتي، كانوا يظنون أنني أصور لنفسي وليس من أجل فيلم عنهم، ولذلك بدوا غاية في التلقائية. لقد بتنا بعد شهر من التصوير والمرافقة كعائلة واحدة وكانت الأجواء في منتهى الروعة. كانوا كرماء وبريئين وقلوبهم صافية.. بعد النزول من الجبال رغبت بالتعرف على عائلاتهم والكلام معها والذهاب إلى قريتهم لتصويرها وذلك لإعطاء الفيلم بعدا آخر.

– هل كنت متسلقة جبال أيضا أم أن تحقيق الفيلم دفعك لخوض هذه المغامرة؟

– لقد تدرّبت على الصعود للجبال قبل القيام بهذه الرحلة الصعبة. خلال عام 2015 لم ينجح أحد بالوصول للقمة! لكننا حين صورنا الفيلم نجحنا. لقد قبلت الجبال صعودنا!

–  يقودني قولك إلى السؤال حول ما أثارته إحدى الصاعدات الصينيات في الفيلم وهي ترى أجسادا وقبورا متوزعة هنا وهناك” على الجبال… بأنها ” جبال لا تحب النساء”!

– ثمة مآسي حصلت في الماضي، لقد أصيبت كل النساء اللواتي صعدن بأحداث مأساوية! فهن إما لم يصلن إلى القمة أو أصبن بأمراض مزمنة بعد النزول من الجبل أو رحلن عن الحياة!

– ما كان أثر تلك الرحلة عليك؟

– الحمالون أبطال، إنهم “سوبر مان”! ليسوا بحاجة إلى أحذية خاصة أو ملابس متلائمة مع الجو القاسي، فيما نحن مع كل الوسائل العصرية والثياب الخاصة بالصعود، نعاني ونشتكي! هم هنا بأحذيتهم البلاستيكية الخفيفة وملابسهم العادية الرقيقة، وكل ما يدعو للتذمر والمعاناة و لكنهم لا يشكون. لقد ازداد إعجابي بهم مع الوقت. فيما نحن لا نكف عن الشكوى وهذا على الرغم من أن لدينا الكثير! إنما لا يعجبنا ذلك ونريد باستمرار المزيد والمزيد.. لقد تعلمت منهم وكان هذا درسا لي في الإنسانية، كما شعرت بواجب مساعدتهم، والعمل على تدريس أولادهم فهم، كما لاحظتِ من الفيلم، أميّون ولايرغبون لأبنائهم بنفس المصير. لقد حاولنا العمل مع الحكومة الباكستانية لتنظيم رواتبهم وللحصول على دخل أعلى. هؤلاء الحمالون المشاة مضطرون للعيش بين خمسة وستة أشهر تحت الأرض في أيام الشتاء القارسة وفي أشهر العمل المتاحة لهم لا يكسبون إلا أقل القليل.

– ما مشاريعك القادمة، طبيعة أم سياسة؟

– قد أنجز أفلاما قصيرة، فالعالم يتغير بسرعة والشباب لم يعد لديهم الوقت لرؤية فيلم طويل! أيضا الفيلم الطويل يتطلب ميزانية مرتفعة وظروف عرضه باتت أصعب. في الماضي كنا نبيع للتلفزيونات ولكن اليوم لا أحد يرغب بالدفع للثقافة، والجمهور يريد المشاهدة دون أن يكلفه ذلك شيئا! الفنانون يعانون في عالمنا هذا!


إعلان