نادي غزة للقوارب الشراعية

 
محمد موسى 
لوهلة، بدت المشاهد المُقربة لراكبي الأمواج الذين صورّهم الفيلم التسجيلي “نادي غزة للقوارب الشراعية”، لا تختلف عن الصور الشاعرية المعروفة عن هذه الرياضة، إذ كان هؤلاء يشقون طرقهم برشاقة وسط أمواج عالية وقوية في بحر مياهه تلمع تحت أشعة الشمس. لكن ما أن تبتعد الكاميرا حتى يتكشف أن الصور هي من بحر غزة، المدينة الفلسطينية المحاصرة منذ سنوات عديدة، والتي عانت من أهوال حروب مدمرة في العقد الأخير، وتحولت لساكنيها الذين يقترب عددهم من المليون إلى ما يشبه السجن الكبير الذي لا يمكن الخروج منه أو الدخول إليه بسهوله. وحتى البحر الذي يمارس فيه راكبي الأمواج الفلسطينيين رياضتهم فيه، هو محاصر حاله حال المدينة.
يجد مخرجا الفيلم “فيليب غاندت” و”ميكي يماني” في نادي لممارسة رياضة ركوب الأمواج في غزة المدخل لفيلمها للبحث في أحوال المدينة وسكانها، وينطلقان من الرياضة لمعاينة حيوات شخصيات فلسطينية تعيش أزمات الظرف العام والمصاعب الذاتية. 
 
من شخصيات الفيلم “إبراهيم”، الشاب المثقف الذي يحلم بتوفير معدات مناسبة للرياضة في مدينته والذي يحصل على فرصة للسفر للولايات المتحدة، و”صباح”، الفتاة الفلسطينية التي برعت في ركوب الأمواج وتوقفت بسبب العرف الإجتماعي المحافظ السائد. كما يمرّ الفيلم على شخصيات فلسطينية أخرى كشفت بحزن كبير للفيلم، كيف راقبت أحلامها تذبل وتموت تحت وقع طبول الحروب والصراعات المسلحة، والحصار الإسرائيلي الذي يخنق المدينة.
عُرض الفيلم التسجيلي في مهرجان تورونتو السينمائي، وحظي بمتابعة جماهيرية جيدة وقتها، لما يوفرّه من إطلالة غير مألوفة على الحياة في المدينة الفلسطينية، وعدم تخليه عن مُقاربة الأسئلة العامة المُلحّة التي لا يمكن الالتفات حولها عند الحديث عن “غزة”.
 
وفي الآتي حوار مع مخرجي الفيلم فيليب غاندت وميكي يماني ..
 
كيف بدأت علاقتكما بالمنطقة ومتى سمعتم بنادي القوارب الشراعية في غزة؟
غاندت: تعرفت على المنطقة عبر صديق مُقرب لي من أيام الجامعة في ألمانيا يعود أصله إلى مدينة غزة. هذا الصديق كان متحدثاً لبقاً ومشغولاً بالسياسة كثيراً، خاصة قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو الموضوع الذي أصبح يشغلني منذ ذلك الحين. وقبل سنوات وجدت مقالة صغيرة عن نادي رياضي للقوارب الشراعية في غزة. أحببت القصة مباشرة لأنها تختلف عما اعتدنا أن نسمعه عن المنطقة. بعدها بدأت في مرحلة البحث عن الموضوع، وبعد فترة من البحث أحسست أن القصة يُمكن أن تكون موضوعاً جيداً لفيلم تسجيلي. 
 
 
وعملكما معا كيف بدأ ؟
يماني: عندما كان “فيليب” مشغولاً بقصة النادي من غزة، وبعد أن شاهد صوراً فوتوغرافية لأعضاء من النادي في مجلة ألمانية، اتصل بيّ عن طريق صديق مشترك لأنه كان يبحث عن منتج أو مخرج يعرف المنطقة ويتحدث اللغة العربية ليساعده في المشروع. ولدت في مصر وعشت هناك ثمانية عشر عاماً، وأتحدث اللغة العربية، وأعرف المنطقة بشكل جيد جداً، لذلك كنت الشخص المناسب للمشروع. عندما أخبرني عن قصة نادي غزة للقوارب الشراعية كانت ردة فعلي ومثل جميع الذين يسمعون بالقصة: التعجب. فلا أحد يتخيل أنه يمكن أن يكون في المدينة التي ارتبطت بأذهان العالم بالحروب، نادي لممارسة رياضة مثل القوارب الشراعية. أحببت المشروع كثيراً وبدأنا سويّا بعمليات البحث.
 
هل كنتما تملكان خططاً مسبقة تخص بناء الفيلم، أو ما تنويان تحقيقه؟
غاندت: الفكرة الأولية والأساسية للمشروع التسجيلي هو رواية قصة مختلفة من الحياة اليومية للمنطقة. هناك العديد من التغطيات التلفزيونية من هناك، لكنها تكاد تكون واحدة لجهة تركيزها على قضية الصراعات السياسية. الخطة كانت بأن نأخذ موضوع الرياضة كرمز قوي والحديث عبره عن واحدة من أكثر مناطق العالم انعزالاً، وهذا سيكون أكثر تأثيراً بكثير من عرض قصص الناس هناك بدون مناسبة. القوارب الشراعية وفرّت صورة قوية كثيراً، إذ أنها كرياضة تمثل رمزاً للحرية الشخصية، لكنها تمارس في مدينة معزولة ومغلقة. هذا التناقض بين الرياضة والحياة هناك وفرّ مدخل ومساحة للفيلم للحديث، ليس فقط عن القوارب الشراعية، ولكن عن لاعبيها من الفلسطينيين وعوائلهم.
 
كيف وجدتم “إبراهيم”، وهل فكرتم به كشخصية رئيسية في الفيلم قبل بدء المشروع، أم تعرفتم عليه بعدما وصلتم إلى غزة ؟
يماني: عندما بدأنا التحضيرات والبحث في المشروع، وجدنا مجموعة من الشباب الذين يمارسون رياضة القوارب الشراعية في غزة. بعضهم تجاوز عمر الشباب وبعضهم الآخر في أعمار يافعة. “إبراهيم” هو من الشخصيات الهادئة بطبعه، من النوع الذي يُحب أن يراقب ويتمعّن ولا يدلي برأيه بعجالة. هو ليس الشخص الذي يقف أمام جمهور ويخطب فيهم. هذا جعله مثيراً لنا. عندما كنا نحاول أن نعرف الشباب الأكثر اضطلاعاً بالمسؤوليات في مجال الرياضة، سمعنا عن نادي غزة للقوارب الشراعية. والذي كان من أفكار الشاب الأمريكي “ماثيو” الذي يظهر في الفيلم. 
“ماثيو” هذا، هو الذي رتب انتقال الألواح الشراعية إلى غزة عبر إسرائيل. وقبل هذه الألواح كان الشباب يمارسون رياضتهم على ألواح قليلة قديمة للغاية وغير صالحة. “ماثيو “عرفنا على “إبراهيم” ونصحنا بالحديث معه، لأنه الشخص الذي يحمل رؤية خاصة بخصوص الرياضة ومستقبلها، وهو أيضاً يريد أن يغير ظروف هذه الرياضة في غزة.
 
من الشخصيات الأخرى “أبو جياب”، الفلسطيني المُهم في مشهد رياضة القوارب الشراعية في غزة والذي تجاوز الأربعين من العمر ومازال نشطاً بشكل أو بآخر في الرياضة. هذا الرجل، ورغم أنه لا يملك النقود وحالته المادية سيئة كثيراً، إلا أنه من المهمين كثيراً هناك، وهو من أكثر الشخصيات التي تقوم بدفع الرياضة. إذ يقوم مثلاً بتدريب أطفال من المدينة على الرياضة. وإلى جانب هاتين الشخصيتين كنا قد سمعنا عن فتيات يمارسن الرياضة ورغبنا أيضاً بأن نسلط الأضواء عليهن. عندما وضعنا هذه الشخصيات في خططنا شعرنا أننا نملك أساس جيد لبدء الفيلم.
 
 
منحتم قصص الفتيات في فيلمكم مساحة مهمة، وربما كان لكما دور في تنظيم عودة الفتاة في الفيلم إلى الرياضة وبعد توقفها لفترة طويلة بسبب التقاليد الاجتماعية هناك، لماذا كان هذا الأمر مُهما لكما ؟
غاندت: في أثناء رحلتنا الأولى البحثية إلى غزة وقبل بدء تصوير الفيلم، سمعنا وقتها عن ثلاث فتيات كن يركبن القوارب الشراعية في غزة. واحدة منهن “صباح” التي ظهرت في الفيلم وأختها الأكبر وقريبة لها. لم يتسنّ لنا مقابلة “صباح” في رحلتنا الأولى تلك، لكننا سمعنا من “ماثيو” ومن آخرين أن هناك فتيات في غزة يمارسن رياضة ركوب الأمواج. طبعا اهتممنا بهذه التفصيلة لفرادتها في مجتمع غزة المحافظ وأردنا أن نبحثها ونسلط عليها الضوء. أثناء تحضيراتنا لم يكن بمقدورنا الاتصال بالفتاة أو عائلتها لأنهم لا يملكون إنترنت او حتى هاتف لفقرهم. هذا جعلنا نقابلهم للمرة الأولى أثناء تصوير الفيلم. لقد استغرق منا بعض الوقت حتى حصلنا على ثقة العائلة، وبالخصوص والد الفتاة. قصة الفتاة تقدم جانباً مختلفاً ومهماً من العالم الذي سعينا إلى تقديمه.
 
يماني: أتصور أن السبب الذي يجعل قصة الفتاة مميزة، وبالخصوص للمتفرج الأجنبي الذي يملك أحياناً نظرات نمطية عن التقاليد الاجتماعية التي تتحكم بالنساء في غزة، والتي فيها جزءاً من الصحة بالطبع، لكن هناك نساء يملكن حريات في حياتهم واختيار الرياضة التي يرغبن. الشيء المثير في قصة “صباح” أن والدها هو الذي كان يشجعها على ممارسة هذه الرياضة. هو كان فخوراً بها وأختها كثيراً، حتى أنه أخبرنا أنه لو توفرت مسابقات للفتيات لركوب الأمواج في غزة، لفازت بناته بجوائزها. هذا الأمر يستحق أن يصل إلى الشاشة، اي أن هذا الأب الفلسطيني وبرغم الضغط الاجتماعي من محيطه وأحياناً من الحكومة يؤمن بأهمية مشاركة بناته في هذه الرياضة. وسعى عبر السنوات أن يجد طريقه بين الأعراف الاجتماعية المعقدة. بالتاكيد أن بناته يمارسن الرياضة لأنهن مازلن في مرحلة الطفولة، وقبل أن يصلن إلى العمر الذي يجب أن يتوقفن فيه.
 
ما طول الفترة التي قضيتموها هناك، وكيف كان البقاء في المدينة بالنسبة لكما؟
غاندت: استغرق تصوير الفيلم ست أسابيع. لم نكن غرباء عن المدينة فلقد زرناها في أثناء التحضيرات وقبل عام من التصوير وكما ذكرت سابقا. بالنسبة لي، أنا الذي لا أعرف المنطقة كنت متوتراً قبل الوصول، وبالخصوص مع خطوات مثل عبور الحدود وغيرها. لكني ما أن وصلت إلى هناك حتى تفاجئت بعادية الحياة. هناك مطاعم ومحلات ومخابز وكل ما يُعرّف الحياة الحديثة. بالطبع ما بين الحروب تحاول الناس أن تعيش حياة طبيعية قدر الإمكان. هذا لم نكن نشاهده دائماً في الإعلام. لقد استقبلنا بكل حفاوة، والجميع كان لطيفا معنا. كنا نخشى أن الجهات الرسمية وربما رجل الشارع سيكون حذراً ومشككاً فينا، لكنا شعرنا بكل الترحاب الممكن هناك.
 
 
يماني: بالنسبة إلى الشخصيات الرئيسية في الفيلم، استغرقنا أسابيع قبل أن نكسب ثقتها بالكامل. وهذا يعد أمراً طبيعياً، فحن لم نكن أول من يهتم بقصتهم، فقبلنا كانوا موضوع تغطيات إعلامية. الفرق بيننا وبين التغطيات الأخرى أننا قضينا أسابيع طويلة معهم، وكنا نبحث عن لمسات فنيّة فيما نعمله. الذي ساعدنا في عملنا مع راكبي الموج في غزة أنهم اعتادوا الاهتمام الإعلامي، وهذا جعلهم لا يهتمون بالنظر إلى الكاميرا مثلاً. لم نكن نحتاج أن نحذف لقطة واحدة من مادتنا الخام لأن هناك من نظر إلى الكاميرا أثناء التصوير، وهذا كان أمراً عظيماً.
 
الأمر الآخر، والذي يعد من نتاج تعامل شخصيات فيلمنا الطويل مع الإعلام، أنهم كانوا في البدء يخبرونا بما يظنون أننا نرغب بسماعه، فكانوا يكررون العبارات نفسها التي تحدثوا بها للإعلام. لكن ما حصل ولأننا كنا هناك لأيام عديدة، وبعد أن قابلناهم في أيام متلاحقة بدئوا يتسائلون عن الأشياء التي يمكن أن يخبرونا بها وبعد أن نفذ خزينهم من العبارات الجاهزة. عندها أخبرناهم أننا لا نريد منهم تصريحات، فقط كنا نريد أن نتابع حياتهم اليومية، ونطرح بين الحين والآخر بعض الأسئلة. هذا الأمر كان غريباً عليهم، إذ كانت تغطيات الإعلام تركز على رياضة ركوب الأمواج بالتحديد، وكانت مستعجلة كثيراً، إذ ينتهي كل شيء في غضون ساعات قليلة. ولم تبحث تلك التغطيات فيما وراء الظاهرة الرياضية والاجتماعية.
 
هل كنتما في غزة عندما أخذ “إبراهيم” الفيزا الأمريكية، وقرار مرافقته إلى جزر هاواي، هل كان قراراً مشتركاً ؟
غاندت: قصة الفيزا بدأت قبل التصوير. “إبراهيم” كان يتحدث عنها بشكل متواصل. لقد كان دائماً موضوعاً معلقاً. هو حاول الحصول على الفيزا الأمريكية عدة مرات وفشل في الحصول عليها، وقبل مغادرتنا غزة أخبرنا أن عنده مقابلة مع السفارة الأمريكية في القدس. عندما حصل على الفيزا قررنا أن نلحقه إلى الولايات المتحدة رغم أن ميزانيتنا قد نفذت وقتها. فالفيزا كان خطوة كبيرة له، وأيضاً مهمة كثيرا للفيلم. الذي حصل أننا قابلناه في الطريق إلى “هاواي” ورافقناه بعدها إلى الجزيرة. كنا هناك عندما خرج هذا الشاب الفلسطيني من الطائرة إلى الجزيرة الأمريكية السياحية. ربما يكون من القسوة وصف المشهد على هذا النحو لكنه يقترب من الانتقال من حجيم غزة إلى الجنة. إذ انتقل من واحدة من أكثر المناطق خطورة في العالم، إلى واحدة من أجمل مناطق الأرض السياحية.
 
كيف قسمتم الواجبات بينكما ؟
غاندت: عندما بدأت المشروع ولأني لا أعرف اللغة العربية كنت قلقاً بخصوص قدرتي على بلوغ كل أهدافي. هذا هو الذي دفعني في البحث عن “ميكي” كشريك في المشروع. هناك أمور تخص العمل على الأرض مثل طرح الأسئلة باللغة الأُمّ وعدم انتظار المترجم الذي ربما كان يعطل انسيابية الحوارات، وهذا ساعد فيه “ميكي” كثيراً. ما حصل أننا ومعنا المنتجة المساعدة وهي من أُصول عربية أيضاً، كنت نناقش كل المواضيع التي ستدور أسئلتنا في مداراتها. مهمات “ميكي” كانت الإخراج، والإنتاج، وكل شيء تقريباً.
 
 
 

إعلان