أسد فولادكار.. االكوميديا بعد الميلودراما
د. أمــل الجمل
كانت المرة الأولى التي تعرّفت فيها على اسم المخرج أسد فولادكار منذ سنوات ربما عام 2003، من خلال الفنان الراحل نور الشريف عندما عُرض فيلمه الأول “لما حكيت مريم” بمعهد العالم العربي، وقتها كنت أعمل مساعداً مع الشريف الذي ظلّ يحكي طويلا بإعجاب كبير عن حساسية وجمال اللقطات وأسلوب الإخراج، وقوة السرد المعتمد على الفلاش باك. ثم واتتني فرصة مشاهدته في عروض مهرجان القاهرة السينمائي لاحقاً. كان عملاً مؤلماً، يصعب أن تشاهده من دون أن تبكي طويلاً. أعرف صديقات كرهن الفيلم بسبب كم الوجع والحزن الذي يبثه ويشحن به المتلقي.
اليوم بعد مرور ما يقرب من ثلاثة عشر عاماً من الانقطاع عن العمل السينمائي والتفرُّغ لمسلسلات الست كوم بلغة التليفزيون يعود مخرج “لما حكيت مريم” ليقدم عمله السينمائي الثاني “بالحلال” المترع بالكوميديا والذي يفجر الضحك في قاعة العرض من دون أن يتخلى عن موضوعه الرصين، فهل يا ترى كان يرغب في التعويض عن الإحساس بالذنب، أم أنه كان يرغب في أن يحتفظ بجمهور أكبر؟
الجزيرة الوثائقية التقت المخرج اللبناني من أصول إيرانية أسد فولادكار الذي وُلد ونشأ في لبنان ودرس السينما في أمريكا، وأجرت معه الحوار التالي.
كيف أقدمت على هذه النقلة النوعية في الأسلوب بعد كل هذه السنوات من الغياب السينمائي، فبعد “لما حكيت مريم” المليء بالشجن والحزن متى وكيف قررت أن تقدم فيلم كوميدي ساخر مناقض تماما في أسلوبه رغم كونه يناقش قضية مهمة في المجتمع؟
- الموضوع بالفيلمين كان أساسي، المُشاهد إما يضحك ويفرح أو يبكي. أنا لا أحب المنطقة الوسطى. “لما حكيت مريم” شخصية لا تتسِّم بالبعد كثيراً عن الحالي، أقصد نفس المعاناة بالداخل، أنا اخترت طريقا آخر للتعبير عن الموضوع، “بالحلال” كان ممكن يكون فيلم ميلودرامي، والناس تبكي فيه أكثر، لكني اخترت طريق الكوميديا، حتى يصل للناس، ولا يرفضوا الموضوع، العمل حين يكون شديد الحزن يرفضه الناس، هذا إلى جانب أن مجتمعاتنا صار بها ما يكفي من الحزن. نحن بحاجة فعلا إلى “شوية نفس حلو”. إننا نعيش في عالم سوريالي من الفشل، نحن نعيش أسوأ فترة في تاريخنا العربي، مع أنها أفضل فترة في تاريخنا اقتصادياً، لكننا نعيش بأسوأ فترة حضارياً، فكنت أفتش عن شيء أقدمه من خلال الضحك، لأننا جميعنا نتطلع للضحك، فمن خلاله يمكن مناقشة مواضيع شديدة الحساسية، الضحك لا يمنع حساسية الموضوع أو قوة الموضوع.
هل رد الفعل إزاء فيلم “لما حكيت مريم”.. جعلك تُعيد التفكير وتقرر أنه في الخطوة التالية ستتفادى الميلودراما، والمأساة، وتحاول توظيف الكوميديا الساخرة؟
أبدا.. أبدا.. أولا الموضوع هو الذي يفرض طريقة العرض. ثانياً، لا.. لأنني لم أخرج أي فيلم سينمائي طوال تلك الفترة لأنه لم يكن هناك إنتاج، وفي هذه الفترة التي سيصير الإنتاج متوفر ومتاح سأقوم بإخراج الفيلم الذي أرغب وأحلم بالعمل عليه.
لكن منذ قليل تحدثت عن أن “بالحلال” كان ممكن ينصع بطريقة ميلودرامية وفيها شجن لكنك اخترت الكوميديا لتجذب الجمهور.. أليس كذلك؟
أسد: لا.. لا أريد أن أجذب الجمهور.
ربما تقصد أن يصل الفيلم إلى جمهور أوسع؟
أقصد أن ردة فعل المشاهد ستكون مختلفة. حين يضحك الجمهور سيقبل الموضوع أكثر. حين تدفع شخصا للضحك سيقترب منك أكثر، ومن القلب. إذا حاول شخص أن يخبرني بنكتة، فإذا لم أرغب بالاقتراب منه لن أضحك، لكن إذا ضحكت سوف أجعله يقترب أكثر. الضحك العالي يلغي الكثير من المسافات ويكسر الحواجز، ووقتها يمكن بسهولة الحديث عن أشياءنا الخاصة، ونفتح قلوبنا لبعض، هذا هو تأثير الضحك.
“لما حكيت مريم” فيلم ينتمي لنوعية الإنتاج الخاص قليل التكلفة، كيف جاءتك الفكرة.
بدأت العمل علي الفيلم سنة 2000، عن قصة حقيقية لشخصية نعرفها من العائلة. لكن لما كتبت القصة اكتشفت أنها كلاسيكية جدا، وتم التطرق إليها كثيراً – أقصد كأحداث – فحاولت تنفيذها بأسلوب سردي مختلف. لأنها قصة تبدو بسيطة تقليدية عن امرأة تحب زوجها لكنها لا تنجب، فتتركه يتزوج وتظلّ تحبه، هي تقليدية إنما حاولت أن أجد لها حلولاً.
أسلوب السرد يعتمد أساسا على الفلاش باك، والتنقل بين الماضي والحاضر أثناء قيام الزوج بتغسيل جسد الزوجة، تقريبا الزمن الدرامي للفيلم هو التحضير لعملية الدفن.. هل أعدت كتابة بعض المشاهد أثناء التصوير، أو اختلف الأمر في المونتاج؟
لا.. تقريبا الفيلم كما هو في السيناريو لأني كنت المنتج، ولم يكن لدي ما يكفي من الوقت للتصوير، كنت أصور بالكاميرا الديجتيال التي كانت في بدايتها.
فجأة بعد هذا العمل وبعد الاستقبال النقدي الجيد لك اتجهت للعمل التليفزيوني.. كيف ولماذا؟
فيلم “لما حكيت مريم” عرفني على أجواء كثيرة والعديد من الناس، لكن في النهاية هذه سينما، وهذا عمل.. أنا اليوم بعد 15 سنة من “لما حكيت مريم”.. وهى فترة كبيرة وأكيد تسبب الكثير من الضيق، صحيح لازلت أقدم العمل الثاني، لكن على الأقل طوال الخمسة عشر عاما لم أتوقف عن العمل وتواجدت في التليفزيون.. لأنه في النهاية لابد أن أعمل، لكني اشتغلت تليفزيون بقوانين التليفزيون وبأسلوبهم. ولم أحاول وضع شيء سينمائي في التليفزيون. عملت ست كوم، وهذا كان هو المطلوب.
مشروع تخرجك الروائي القصير بعنوان “كيرياليسون” حصل على جوائز كثيرة في مهرجانات عديدة.. وبعد نجاح فيلمك الأول أكيد كان عندك أحلام وطموح سينمائي.. لماذا لم تحاول تحقيقه من خلال الإنتاج المستقل الذاتي قليل التكلفة؟ أم أنك لم تكن تمتلك الطاقة؟
هذا عمل يقوم به المرء مرة واحدة فقط، لأنه مجهد جدا، ومثير للاكتئاب والأعصاب، أحيانا يصير من الصعب أن تُحضر الناس والممثلين من دون أجر. أحيانا يكون أغلى أن يقوموا بالتمثيل تطوعّا ويكون أوفر وأرخص أن تدفع لهم.
ربما بسبب تعطيلهم التصوير، فتشعر أنك تكون رهينة لجدول أعمالهم وأوقات الفراغ عندهم؟
لأن هناك مقابل لابد من تسديده لاحقاً، يكون هناك شعورا بوجود دين كبير عليك، ولابد من رد هذا الدين بطريقة من الطرق فيصبح من الأرخص أن أدفع لهم.
لكن معظم شباب السينما المستقلة يعمل بهذا الأسلوب حاليا، وفي مصر نماذج عديدة
ممكن، لكن أكثر من عمل واحد يصبح صعب، تكرار التجربة صعب. كذلك الإمكانيات، فالكاميرا الديجيتال التي استخدمتها لم تكن جيدة، الإضاءة المتاحة لي وقتها لم تقدم لي كل الإمكانيات التي كنت أرغب بها.
كم استغرق منك الوقت بعد “لما حكيت مريم” قبل أن تقوم بعمل الست كوم؟ وهل قبلته لأنه مجرد عمل تحتاج له؟
لا.. أنا كنت أستاذ في الجامعة وهذا أخد مني وقتاً. أما بخصوص قبول الست كوم فأنا أحب الست كوم، وخلال دراستي بأمريكا عملت مساعد للست كوم.. وكنت أتعجب وأتساءل لماذا لا يوجد عندنا هذا النوع في العالم العربي، فأنا كنت مهتم، وحين سألني المنتج صادق الصباح هل تحب تعمل شيء بمصر، فقلت له أحب أعمل الست كوم. فهذا كان اقتراحي، وصار عمل أحبه، أنا أحب هذا النوع وهذا الشكل من تقديم المسلسل، والحمد لله نجح.
ومتى راودك الإحساس والحنين بالعودة إلى أحلامك السينمائية؟
دائما موجود.. المهم أن يكون فيه إنتاج. انا أكتب طوال الوقت سيناريوهات وأحتفظ بها حتى أجد المنتج والوقت المناسب.
وكيف جاءت فكرة “بالحلال”؟ هل بدأ بموقف أو صورة؟
الفكرة والسيناريو موجود من سبع أو ثمان سنوات لأني أكتب باستمرار، لكن السيناريو لا ينتهي إلا حين يدخل في مرحلة التصوير، لأنه طوال الوقت في حالة إعادة كتابة.. ومرجع الفكرة لطفولتي. النساء لدينا حين يجلسوا مع بعضهم، وفي غياب الرجال، يكونوا منفتحين في التعبير وفي الكلام، وخاصة حين يكونوا أصحاب، فتتنوع الجلسات بحسب شخصياتهم، أنا كنت محظوظ بأني كنت طفل وكنت أدخل عالم هؤلاء النساء، وهذا جزء من ذكريات طفولتي.
وهذا يفسر وجود تفاصيل ولمسات وإيماءات تجعل المتلقي يتساءل كيف لرجل أن يعرفها عن المرأة؟ كذلك الأحاسيس، وهو ما يتكرر في “لما حكيت مريم”.
لأنهم كانوا يحكون ويفعلون كل شيء أمامي وأنا خزّنت هذه الأشياء. أما الفكرة الأساسية التي كنت أرغب في تقديمها بسيناريو “بالحلال” أن الناس حين يكون لديها مشاكل تبحث عن حلول في إطار الدين من دون أن تكسره، بحيث يتم كله بالحلال.
يدور فيلم “بالحلال” حول ثلاث قصص يقوم ببطولتها ست شخصيات مسلمة يعيشون في بيروت، علاقات زوجية بها مشاكل غيرة وحب عنيف وخناقات وطلاق، إلى جانب مشروع حب وزواج.. لكن المجتمع اللبناني مختلف عن المصري، عندكم جرأة أكثر، مع ذلك شعرت أنك تتعامل بحذر خوفا من رد فعل الجمهور إزاء الجرأة؟
صحيح، خاصة أنه يحكي عن اثنين متحابين، لكنه يطرح أيضاً قضية الدين، فلابد أن أكون حذر. حتى القبلة كنت خائف منها، إنها حساسية التعامل مع الأمور الدينية. والحقيقة الفيلم كان ست قصص و12 شخصية، لكني اضطررت إلى إلغاء ثلاث قصص حتى يكون هناك تركيز على ثلاثة فقط، وإلا سيكون الحكي سريع جدا، وهذا كان رأي الألمان المراجعين للسيناريو، أن نختصر، فعملت بنصيحتهم، لكني أنوي عمل فيلم ثاني عن الثلاث قصص الأخرى. ولدي مشروع فيلم مصري أدخل تصويره قريبا.